خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ كِتَٰباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي ٱلشَّٰكِرِينَ
١٤٥
-آل عمران

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في كيفية تعلق هذه الآية بما قبله وجوه: الأول: أن المنافقين أرجفوا أن محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل، فالله تعالى يقول: إنه لا تموت نفس الا بإذن الله وقضائه وقدره، فكان قتله مثل موته في أنه لا يحصل الا في الوقت المقدر المعين، فكما أنه لو مات في داره لم يدل ذلك على فساد دينه، فكذا إذا قتل وجب أن لا يؤثر ذلك في فساد دينه، والمقصود منه ابطال قول المنافقين لضعفة المسلمين أنه لما قتل محمد فارجعوا الى ما كنتم عليه من الأديان. الثاني: أن يكون المراد تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذر لا يدفع القدر، وأن أحداً لا يموت قبل الأجل وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء، فلا فائدة في الجبن والخوف. والثالث: أن يكون المراد حفظ الله للرسول صلى الله عليه وسلم وتخليصه من تلك المعركة المخوفة، فإن تلك الواقعة ما بقي سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل فيها، ولكن لما كان الله تعالى حافظاً وناصراً ما ضره شيء من ذلك وفيه تنبيه على أن أصحابه قصروا في الذب عنه. والرابع: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله، فليس في إرجاف من أرجف بموت النبي صلى الله عليه وسلم ما يحقق ذلك فيه أو يعين في تقوية الكفر، بل يبقيه الله إلى أن يظهر على الدين كله. الخامس: أن المقصود منه الجواب عما قاله المنافقون، فإن الصحابة لما رجعوا وقد قتل منهم من قتل قالوا: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فاخبر الله تعالى أن الموت والقتل كلاهما لا يكونان الا باذن الله وحضور الأجل والله أعلم بالصواب.

المسألة الثانية: اخلفوا في تفسير الإذن على أقوال: الأول: أن يكون الإذن هو الامر وهو قول أبي مسلم، والمعنى أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلا بهذا الامر. الثاني: ان المراد من هذا الإذن ما هو المراد بقوله: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40] والمراد من هذا الأمر انما هو التكوين والتخليق والايجاد، لأنه لا يقدر على الموت والحياة أحد الا الله تعالى، فإذن المراد: أن نفساً لن تموت إلا بما أماتها الله تعالى. الثالث: أن يكون الاذن هو التخلية والإطلاق وترك المنع بالقهر والإجبار، وبه فسر قوله تعالى: { { وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [البقرة: 102] أي بتخليته فإنه تعالى قادر على المنع من ذلك بالقهر، فيكون المعنى: ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله بتخلي الله بين القاتل والمقتول، ولكنه تعالى يحفظ نبيه ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصداً ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به، ولا يخلي بين أحد وبين قتله حتى ينتهي الى الاجل الذي كتبه الله له، فلا تنكسروا بعد ذلك في غزواتكم بأن يرجف مرجف أن محمداً قد قتل. الرابع: أن يكون الإذن بمعنى العلم ومعناه أن نفسا لن تموت إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه، واذا جاء ذلك الوقت لزم الموت، كما قال { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [النحل: 61] الخامس: قال ابن عباس: الإذن هو قضاء الله وقدره، فإنه لا يحدث شيء إلا بمشيئته وارادته فيجعل ذلك على سبيل التمثيل، كأنه فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا باذن الله.

المسألة الثالثة: قال الأخفش والزجاج: اللام في { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ } معناها النفي، والتقدير وما كانت نفس لتموت الا باذن الله.

المسألة الرابعة: دلت الآية على أن المقتول ميت بأجله، وأن تغيير الآجال ممتنع.

وقوله تعالى: { كِتَـٰباً مُّؤَجَّلاً } فيه مسائل:

المسألة الأولى: قوله: { كِتَـٰباً مُّؤَجَّلاً } منصوب بفعل دل عليه ما قبله فإن قوله: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } قام مقام أن يقال: كتب الله، فالتقدير كتب الله كتابا مؤجلا ونظيره قوله: { كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } [النساء: 24] لأن في قوله { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ } [النساء: 23] دلالة على انه كتب هذا التحريم عليكم ومثله: { { صنع الله } [النمل: 88] و { وعد الله } [الزمر: 20], و { فطرة الله } [الروم:30]، و { صبغة الله } [البقرة: 138].

المسألة الثانية: المراد بالكتاب المؤجل الكتاب المشتمل على الآجال، ويقال: إنه هو اللوح المحفوظ، كما ورد في الأحاديث أنه تعالى قال للقلم "اكتب فكتب ما هو كائن الى يوم القيامة" .

واعلم أن جميع الحوادث لا بد أن تكون معلومة لله تعالى، وجميع حوادث هذا العالم من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة لا بد وأن تكون مكتوبة في اللوح المحفوظ، فلو وقعت بخلاف علم الله لانقلب علمه جهلا، ولانقلب ذلك الكتاب كذبا، وكل ذلك محال، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الكل بقضاء الله وقدره. وقد ذكر بعض العلماء هذا المعنى في تفسير هذه الآية وأكده بحديث الصادق المصدوق، وبالحديث المشهور من قوله عليه السلام "فحج آدم موسى" قال القاضي: أما الأجل والرزق فهما مضافان الى الله، وأما الكفر والفسق والايمان والطاعة فكل ذلك مضاف الى العبد، فاذا كتب تعالى ذلك فانما يكتب بعلمه من اختيار العبد، وذلك لا يخرج العبد من أن يكون هو المذموم أو الممدوح.

واعلم أنه ما كان من حق القاضي أن يتغافل عن موضع الإشكال، وذلك لأنا نقول: إذا علم الله من العبد الكفر وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر، فلو أتى بالإيمان لكان ذلك جمعا بين المتناقضين، لأن العلم بالكفر والخبر الصدق عن الكفر مع عدم الكفر جمع بين النقيضين وهو محال، وإذا كان موضع الإلزام هو هذا فأنى ينفعه الفرار من ذلك الى الكلمات الأجنبية عن هذا الإلزام.

وأما قوله تعالى: { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى ٱلشَّـٰكِرِينَ }.

فاعلم أن الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين، منهم من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الآخرة كما ذكره الله تعالى فيما بعد من هذه السورة، فالذين حضروا القتال للدنيا، هم الذين حضروا لطلب الغنائم والذكر والثناء، وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا، والذين حضروا للدين، فلا بد وأن لا ينهزموا ثم أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من طلب الدنيا لا بد وأن يصل الى بعض مقصوده ومن طلب الآخرة فكذلك، وتقريره قوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" الى آخر الحديث.

واعلم أن هذه الآية وان وردت في الجهاد خاصة، لكنها عامة في جميع الأعمال، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب، والعقاب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال، فإن من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الإسلام، وإن قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر. وروى أبو هريرة عنه عليه السلام أن الله تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل الله "في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول تعالى: كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك" ثم إن الله تعالى يأمر به الى النار.