خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ
٨
-الروم

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

قوله تعالى: { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ } لما صدر من الكفار الإنكار بالله عند إنكار وعد الله وعدم الخلف فيه كما قال تعالى: { { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 187] والإنكار بالحشر كما قال تعالى: { { وَهُمْ عَنِ ٱلأَخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ } [الروم: 7] بين أن الغفلة وعدم العلم منهم بتقدير الله وإلا فأسباب التذكر حاصلة وهو (أن) أنفسهم لو تفكروا فيها لعلموا وحدانية الله وصدقوا بالحشر، أما الوحدانية فلأن الله خلقهم على أحسن تقويم، ولنذكر من حسن خلقهم جزأ من ألف ألف جزء وهو أن الله تعالى خلق للإنسان معدة فيها ينهضم غذاؤه لتقوى به أعضاؤه ولها منفذان أحدهما لدخول الطعام فيه، والآخر لخروج الطعام منه، فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرة ولا بالرشح، وتمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجاً صالحاً، ثم يخرج من المنفذ الآخر، وخلق تحت المعدة عروقاً دقاقاً صلاباً كالمصفاة التي يصفى بها الشيء فينزل منها الصافي إلى الكبد وينصب الثفل إلى معى مخلوق تحت المعدة مستقيم متوجهاً إلى الخروج، وما يدخل في الكبد من العروق المذكورة يسمى الماساريقا بالعبرية، والعبرية عربية مفسودة في الأكثر، يقال لموسى ميشا وللاله إيل إلى غير ذلك، فالماساريقا معناها ماساريق اشتمل عليه الكبد وأنضجه نضجاً آخر، ويكون مع الغذاء المتوجه من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقق وينذرق في العروق الدقاق المذكورة، وفي الكبد يستغني عن ذلك الماء فيتميز عنه ذلك الماء وينصب من جانب حدبة الكبد إلى الكلية ومعه دم يسير تغتذي به الكلية وغيرها، ويخرج الدم الخالص من الكبد في عرق كبير، ثم يتشعب ذلك النهر إلى جداول، والجداول إلى سواق، والسواقي إلى رواضع ويصل فيها إلى جميع البدن، فهذه حكمة واحدة في خلق الإنسان، وهذه كفاية في معرفة كون الله فاعلاً مختاراً قادراً كاملاً عالماً شاملاً علمه، ومن يكون كذلك يكون واحداً وإلا لكان عاجزاً عند إرادة شريكه ضد ما أراده. وأما دلالة الإنسان على الحشر فذلك لأنه إذا تفكر في نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال، وأجزاءه مائلة إلى الانحلال فله فناء ضروري، فلو لم يكن له حياة أخرى لكان خلقه على هذا الوجه للفناء عبثاً، وإليه أشار بقوله: { { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً } [المؤمنون: 115] وهذا ظاهر، لأن من يفعل شيئاً للعبث فلو بالغ في إحكامه وإتقانه يضحك منه، فإذا خلقه للبقاء ولا بقاء دون اللقاء فالآخرة لا بد منها، ثم إنه تعالى ذكر بعد دليل الأنفس دليل الآفاق فقال: { مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } فقوله: { إِلاَّ بِٱلْحَقّ } إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية، وقد بينا ذلك في قوله: { { خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ بِٱلْحَقّ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } [العنكبوت: 44] ونعيده فإن التكرير في الذهن يفيد التقرير لذي الذهن، فنقول إذا كان بالحق لا يكون فيها بطلان فلا يكون فيها فساد لأن كل فاسد باطل وإذا لم يكن فيها فساد لا تكون آلهة وإلا لكان فيها فساد كما قال تعالى: { { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22] وقوله: { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } يذكر بالأصل الآخر الذي أنكروه.

ثم قال تعالى: { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَاء رَبّهِمْ لَكَـٰفِرُونَ } يعني لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء إما في إسعاد أو شقاء، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قدم ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق، وفي قوله تعالى: { { سَنُرِيهِمْ ءايَـٰتِنَا فِى ٱلآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ } [فصلت: 53] قدم دلائل الآفاق، وذلك لأن المفيد إذا أفاد فائدة يذكرها على وجه جيد يختاره فإن فهمه السامع المستفيد فذلك وإلا يذكرها على وجه أبين منه وينزل درجة فدرجة، وأما المستفيد فإنه يفهم أولاً الأبين، ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخراً، فالمذكور من المفيد آخراً مفهوم عند السامع أولاً، إذا علم هذا فنقول ههنا الفعل كان منسوباً إلى السامع حيث قال: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ } يعني فيما فهموه أولاً ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانياً، وأما في قوله: { سَنُرِيهِمْ } الأمر منسوب إلى المفيد المسمع فذكر أولاً: الآفاق فإن لم يفهموه فالأنفس لأن دلائل الأنفس لا ذهول للإنسان عنها، وهذا الترتيب مراعى في قوله تعالى: { { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } [آل عمران: 191] أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } بدلائل الآفاق.

المسألة الثانية: وجه دلالة الخلق بالحق على الوحدانية ظاهر، وأما وجه دلالته على الحشر فكيف هو؟ فنقول وقوع تخريب السموات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع، لأن الله قادر على إبقاء الحادث أبداً كما أنه يبقى الجنة والنار بعد إحداثهما أبداً، والخلق دليل إمكان العدم، لأن المخلوق لم يجب له القدم فجاز عليه العدم، فإذا أخبر الصادق عن أمر له إمكان وجب على العاقل التصديق والإذعان، ولأن العالم لما كان خلقه بالحق فينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست إلا لعباً ولهواً كما بين بقوله تعالى: { { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } [العنبكوت: 64] وخلق السموات والأرض للهو واللعب عبث، والعبث ليس بحق وخلق السموات والأرض بالحق فلا بد من حياة بعد هذه.

المسألة الثالثة: قال ههنا: { كَثِيراً مّنَ ٱلنَّاسِ } وقال من قبل: { { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ } [الروم:6] وذلك لأنه من قيل لم يذكر دليلاً على الأصلين، وههنا قد ذكر الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل، فبعد الدلائل لا بد من أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل { وَإِنَّ كَثِيرًا } وقبله { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ } ثم بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه، والدليل الذي لا يقع الذهول عنه وإن إمكن هو السموات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته، ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم وحكاية أشكالهم.