خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٧
مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
٢٨
-لقمان

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

لما قال تعالى: { للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وكان ذلك موهماً لتناهي ملكه لانحصار ما في السموات وما في الأرض فيهما، وحكم العقل الصريح بتناهيهما بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها فقال: { وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } ويكتب بها والأبحر مداد لا تفنى عجائب صنع الله، وعلى هذا فالكلمة مفسرة بالعجيبة، ووجهها أن العجائب بقوله كن وكن كلمة وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز. يقول الشجاع لمن يبارزه أنا موتك، ويقال للدواء في حق المريض هذا شفاؤك، ودليل صحة هذا هو أن الله تعالى سمى المسيح كلمة لأنه كان أمراً عجيباً وصنعاً غريباً لوجوده من غير أب، فإن قال قائل الآية واردة في اليهود حيث قالوا الله ذكر كل شيء في التوراة ولم يبق شيء لم يذكره، فقال الذي في التوراة بالنسبة إلى كلام الله تعالى ليس إلا قطرة من بحار وأنزل هذه الآية، وقيل أيضاً إنها نزلت في واحد قال للنبـي عليه السلام إنك تقول: { { وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85] وتقول: { { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } [البقرة: 269] فنزلت الآية دالة على أنه خير كثير بالنسبة إلى العباد، وبالنسبة إلى الله وعلومه قليل، وقيل أيضاً إنها نزلت رداً على الكفار حيث قالوا بأن ما يورده محمد سينفد، فقال إنه كلام الله وهو لا ينفد. وما ذكر من أسباب النزول ينافي ما ذكرتم من التفسير، لأنها تدل على أن المراد الكلام، فنقول ما ذكرتم من اختلاف الأقوال فيه يدل على جواز ما ذكرنا، لأنه إذا صلح جواباً لهذه الأشياء التي ذكرتموها وهي متباينة علم أنها عامة وما ذكرنا لا ينافي هذا، لأن كلام الله عجيب معجز لا يقدر أحد على الإتيان بمثله، وإذا قلنا بأن عجائب الله لا نهاية لها دخل فيها كلامه، لا يقال إنك جعلت الكلام مخلوقاً، لأنا نقول المخلوق هو الحرف والتركيب وهو عجيب، وأما الكلمات فهي من صفات الله تعالى واعلم أن الآية وإن كانت نازلة على ترتيب غير الذي هو مكتوب، ولكن الترتيب المكتوب عليه القرآن بأمر الله، فإنه بأمر الرسول كتب كذلك، وأمر الرسول من أمر الله وذلك محقق متيقن من سنن الترتيب الذي فيه، ثم إن الآية فيها لطائف الأولى: قال: { وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } وحد الشجرة وجمع الأقلام ولم يقل ولو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام ولا قال ولو أن ما في الأرض من شجرة قلم إشارة إلى التكثير، يعني ولو أن بعدد كل شجرة أقلاماً، الثانية: قوله { والبحر يمده } تعريف البحر باللام لاستغراق الجنس وكل بحر مداد، ثم قوله: { يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } إشارة إلى بحار غير موجودة، يعني لو مدت البحار الموجودة بسبعة أبحر أخر وقوله: { سَبْعَةُ } ليس لانحصارها في سبعة، وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر، والسبعة خصصت بالذكر من بين الأعداد، لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة، والذي يدل عليه وجوه الأول: هو أن ما هو معلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان، لأن المكان فيه الأجسام والزمان فيه الأفعال، لكن المكان منحصر في سبعة أقاليم والزمان في سبعة أيام، ولأن الكواكب السيارة سبعة، وكان المنجمون ينسبون إليها أموراً، فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كل كثير الثاني: هو أن الآحاد إلى العشرة وهي العقد الأول وما بعده يبتدىء من الآحاد مرة أخرى فيقال أحد عشر واثنا عشر، ثم المئات من العشرات والألوف من المئات، إذا علم هذا فنقول أقل ما يلتئم منه أكثر المعدودات هو الثلاثة، لأنه يحتاج إلى طرفين مبدأ ومنتهى ووسط، ولهذا يقال أقل ما يكون الاسم والفعل منه هو ثلاثة أحرف، فإذا كانت الثلاثة هو القسم الأول من العشرة التي هو العدد الأصلي تبقى السبعة القسم الأكثر، فإذا أريد بيان الكثرة ذكرت السبعة، ولهذا فإن المعدودات في العبادات من التسبيحات في الانتقالات في الصلوات ثلاثة، والمرار في الوضوء ثلاثة تيسيراً للأمر على المكلف اكتفاءً بالقسم الأول، إذا ثبت هذا فنقول قوله عليه السلام: "المؤمن يأكل في معى والكافر يأكل في سبعة أمعاء" إشارة إلى قلة الأكل وكثرته من غير إرادة السبعة بخصوصها، ويحتمل أن يقال إن لجهنم سبعة أبواب بهذا التفسير، ثم على هذا فقولنا للجنة ثمانية أبواب إشارة إلى زيادتها فإن فيها الحسنى وزيادة فلها أبواب كثيرة وزائدة على كثرة غيرها، والذي يدل على ما ذكرنا في السبعة أن العرب عند الثامن يزيدون واواً، يقول الفراء إنها واو الثمانية وليس ذلك إلا للاستئناف لأن العدد بالسبعة يتم في العرف، ثم بالثامن استئناف جديد اللطيفة الثالثة: لم يقل في الأقلام المدد لوجهين أحدهما: هو أن قوله: { وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } بينا أن المراد منه هو أن يكون بعدد كل شجرة موجودة أقلام فتكون الأقلام أكثر من الأشجار الموجودة وقوله في البحر: { وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } إشارة إلى أن البحر لو كان أكثر من الموجود لاستوى القلم والبحر في المعنى والثاني: هو أن النقصان بالكتابة يلحق المداد أكثر فإنه هو النافد والقلم الواحد يمكن أن يكتب به كتب كثيرة فذكر المدد في البحر الذي هو كالمداد.

ثم قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } لما ذكر أن ملكوته كثيراً أشار إلى ما يحقق ذلك فقال: { إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي كامل القدرة فيكون له مقدورات لا نهاية لها وإلا لانتهت القدرة إلى حيث لا تصلح للإيجاد وهو حكيم كامل العلم ففي علمه ما لا نهاية له فتحقق أن البحر لو كان مداداً لما نفد ما في علمه وقدرته.

ثم قال تعالى: { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وٰحِدَةٍ } لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم للمعشر وقال: { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وٰحِدَةٍ } ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتى كونوا فيكونوا.

ثم قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } سميع لما يقولون بصير بما يعملون فإذاً كونه قادراً على البعث ومحيطاً بالأقوال والأفعال يوجب ذلك الاجتناب التام والاحتراز الكامل.