خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً
٦
-الأحزاب

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

قوله تعالى: { ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } تقرير لصحة ما صدر منه عليه الصلاة والسلام من التزوج بزينب وكأن هذا جواب عن سؤال وهو أن قائلاً لو قال هب أن الأدعياء ليسوا بأبناء كما قلت لكن من سماه غيره ابناً إذا كان لدعيه شيء حسن لا يليق بمروءته أن يأخذه منه ويطعن فيه عرفاً فقال الله تعالى { ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } جواباً عن ذلك السؤال وتقريره هو أن دفع الحاجات على مراتب؛ دفع حاجة الأجانب ثم دفع حاجة الأقارب الذين على حواشي النسب ثم دفع حاجة الأصول والفصول ثم دفع حاجة النفس، والأول عرفاً دون الثاني وكذلك شرعاً فإن العاقلة تتحمل الدية عنهم ولا تتحملها عن الأجانب والثاني دون الثالث أيضاً وهو ظاهر بدليل النفقة والثالث دون الرابع فإن النفس تقدم على الغير وإليه أشار النبـي عليه الصلاة والسلام بقوله: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" إذا علمت هذا فالإنسان إذا كان معه ما يغطي به إحدى الرجلين أو يدفع به حاجة عن أحد شقي بدنه، فلو أخذ الغطاء من أحدهما وغطى به الآخر لا يكون لأحد أن يقول له لم فعلت فضلاً عن أن يقول بئسما فعلت، اللهم إلا أن يكون أحد العضوين أشرف من الآخر مثل ما إذا وقى الإنسان عينه بيده ويدفع البرد عن رأسه الذي هو معدن حواسه ويترك رجله تبرد فإنه الواجب عقلاً، فمن يعكس الأمر يقال له لم فعلت، وإذا تبين هذا فالنبـي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمن من نفسه فلو دفع المؤمن حاجة نفسه دون حاجة نبيه يكون مثله مثل من يدهن شعره ويكشف رأسه في برد مفرط قاصداً به تربية شعره ولا يعلم أنه يؤذي رأسه الذي لا نبات لشعره إلا منه، فكذلك دفع حاجة النفس فراغها إلى عبادة الله تعالى ولا علم بكيفية العبادة إلا من الرسول عليه الصلاة والسلام، فلو دفع الإنسان حاجته لا للعبادة فهو ليس دفعاً للحاجة لأن دفع الحاجة ما هو فوق تحصيل المصلحة وهذا ليس فيه مصلحة فضلاً عن أن يكون حاجة وإذا كان للعبادة فترك النبـي الذي منه يتعلم كيفية العبادة في الحاجة ودفع حاجة النفس مثل تربية الشعر مع إهمال أمر الرأس، فتبين أن النبـي صلى الله عليه وسلم إذا أراد شيئاً حرم على الأمة التعرض إليه في الحكمة الواضحة.

ثم قال تعالى: { وَأَزْوٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ } تقريراً آخر، وذلك لأن زوجة النبـي صلى الله عليه وسلم ما جعلها الله تعالى في حكم الأم إلا لقطع نظر الأمة عما تعلق به غرض النبـي عليه الصلاة والسلام، فإذا تعلق خاطره بامرأة شاركت الزوجات في التعلق فحرمت مثل ما حرمت أزواجه على غيره، فلو قال قائل كيف قال: { وَأَزْوٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ } وقال من قبل: { وَمَا جَعَلَ أَزْوٰجَكُمُ ٱللاَّئِى تُظَـٰهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَـٰتِكُمْ } إشارة إلى أن غير من ولدت لا تصير أماً بوجه، ولذلك قال تعالى في موضع آخر: { { إِنْ أُمَّهَـٰتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ } [المجادلة: 2] فنقول قوله تعالى في الآية المتقدمة: { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى ٱلسَّبِيلَ } جواب عن هذا معناه أن الشرع مثل الحقيقة، ولهذا يرجع العاقل عند تعذر اعتبار الحقيقة إلى الشريعة. كما أن امرأتين إذا ادعت كل واحدة ولداً بعينه ولم يكن لهما بينة وحلفت إحداهما دون الأخرى حكم لها بالولد، وإن تبين أن التي حلفت دون البلوغ أو بكر ببينة لا يحكم لها بالولد، فعلم أن عند عدم الوصول إلى الحقيقة يرجع إلى الشرع، لا بل في بعض المواضع على الندور تغلب الشريعة الحقيقة، فإن الزاني لا يجعل أباً لولد الزنا. إذا ثبت هذا فالشارع له الحكم فقول القائل هذه أمي قول يفهم لا عن حقيقة ولا يترتب عليه حقيقة. وأما قول الشارع (فهو) حق والذي يؤيده هو أن الشارع به الحقائق حقائق فله أن يتصرف فيها، ألا ترى أن الأم ما صارت أماً إلا بخلق الله الولد في رحمها، ولو خلقه في جوف غيرها لكانت الأم غيرها، فإذا كان هو الذي يجعل الأم الحقيقية أماً فله أن يسمى امرأة أماً ويعطيها حكم الأمومة، والمعقول في جعل أزواجه أمهاتنا هو أن الله تعالى جعل زوجة الأب محرمة على الابن، لأن الزوجة محل الغيرة والتنازع فيها، فإن تزوج الابن بمن كانت تحت الأب يفضي ذلك إلى قطع الرحم والعقوق، لكن النبـي عليه الصلاة والسلام أشرف وأعلى درجة من الأب وأولى بالإرضاء، فإن الأب يربـي في الدنيا فحسب، والنبـي عليه الصلاة والسلام يربـي في الدنيا والآخرة، فوجب أن تكون زوجاته مثل زوجات الآباء، فإن قال قائل: فلم لم يقل إن النبـي أبوكم ويحصل هذا المعنى، أو لم يقل إن أزواجه أزواج أبيكم فنقول لحكمة، وهي أن النبـي لما بينا أنه إذا أراد زوجة واحد من الأمة وجب عليه تركها ليتزوج بها النبـي عليه الصلاة والسلام، فلو قال أنت أبوهم لحرم عليه زوجات المؤمنين على التأبيد، ولأنه لما جعله أولى بهم من أنفسهم والنفس مقدم على الأب لقوله عليه الصلاة والسلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" ولذلك فإن المحتاج إلى القوت لا يجب عليه صرفه إلى الأب، ويجب عليه صرفه إلى النبـي عليه الصلاة والسلام، ثم إن أزواجه لهم حكم زوجات الأب حتى لا تحرم أولادهن على المؤمنين ولا أخواتهن ولا أمهاتهن، وإن كان الكل يحرمن في الأم الحقيقية والرضاعية.

ثم قال تعالى: { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى ٱلْكِتَـٰبِ مَسْطُوراً } إشارة إلى الميراث، وقوله: { إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً } إشارة إلى الوصية، يعني إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم، فإن قيل فعلى هذا أي تعلق للميراث والوصية بما ذكرت نقول تعلق قوي خفي لا يتبين إلا لمن هداه الله بنوره، وهو أن غير النبـي عليه الصلاة والسلام في حال حياته لا يصير له مال الغير، وبعد وفاته لا يصير ماله لغير ورثته، والنبـي عليه الصلاة والسلام في حال حياته كان يصير له مال الغير إذا أراده ولا يصير ماله لورثته بعد وفاته كأن الله تعالى عوض النبـي عليه الصلاة والسلام عن قطع ميراثه بقدرته على تملك مال الغير وعوض المؤمنين بأن ما تركه يرجع إليهم، حتى لا يكون حرج على المؤمنين في أن النبـي صلى الله عليه وسلم إذا أراد شيئاً يصير له ثم يموت ويبقى لورثته فيفوت عليهم ولا يرجع إليهم فقال تعالى: { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ } يعني بينكم التوارث فيصير مال أحدكم لغيره بالإرث والنبـي لا توارث بينه وبين أقاربه فينبغي أن يكون له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم الثاني: هو أن الله تعالى ذكر دليلاً على أن النبـي عليه الصلاة والسلام أولي بالمؤمنين وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، ثم إذا أراد أحد براً مع صديق فيوصي له بشيء فيصير أولى من قريبه وكأنه بالوصية قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا إلى من أريده، فكذلك الله تعالى جعل لصديقه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره وقوله: { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } فيه وجهان أحدهما: في القرآن وهو آية المواريث والوصية والثاني: في اللوح المحفوظ.