في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى كما ذكر في أهل الجنة أنهم يتساءلون عند الاجتماع على شرب خمر الجنة فإن محادثة العقلاء بعضهم مع بعض على الشرب من الأمور اللذيذة، وتذكر الخلاص عند اجتماع أسباب الهلاك من الأمور اللذيذة، ذكر تعالى في هذه الآية أن أهل الجنة إذا اجتمعوا على الشرب وأخذوا في المكالمة والمساءلة كان من جملة تلك الكلمات أنهم يتذكرون أنهم كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية، والمقصود من ذكر هذه الأشياء أن أهل الجنة يتكامل سرورهم وبهجتهم.
أما قوله: { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ } أي قال قائل: من أهل الجنة إني كان لي قرين في الدنيا { يِقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدّقِينَ } أي كان يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجبا: { أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـٰماً أَءنَّا لَمَدِينُونَ } أي لمحاسبون ومجازون، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار، ثم إن ذلك الرجل الذي هو من أهل الجنة يقول لجلسائه يدعوهم إلى كمال السرور بالاطلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته { هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ * فاطَّلِعَ } والأقرب أنه تكلف أمراً اطلع معه لأنه لو كان مطلعاً بلا تكلف لم يكن إلى اطلاعه حاجة فلذلك قال بعضهم إنه ذهب إلى بعض أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار { فَرَءاهُ فِى سَوَاء الجحيم } أي في وسط الجحيم قال له موبخاً: { تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } أي لتهلكني بدعائك إياي إلى إنكار البعث والقيامة { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى } بالإرشاد إلى الحق والعصمة عن الباطل { لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ } في النار مثلك، ولما تمم ذلك الكلام مع الرجل الذي كان في الدنيا قريناً له وهو الآن من أهل النار عاد إلى مخاطبة جلسائه الذين هم من أهل الجنة فقال: { أفما نحن بميتين } وفيه قولان الأول: أن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم في الجنة أنهم لا يموتون، فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون، فلعل هذا الكلام حصل قبل ذبح الموت والثاني: أن الذي يتكامل خيره وسعادته فإذا عظم تعجبه بها قد يقول أيدوم هذا لي؟ أفيبقى هذا لي؟ وإن كان على يقين من دوامه، ثم عند فراغهم من هذه المباحثات يقولون: { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }.
وأما قوله: { لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَـٰمِلُونَ } فقيل إنه من بقية كلامهم، وقيل إنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لطلب مثل هذه السعادات يجب أن يعمل العاملون.
المسألة الثانية: قال بعضهم المراد من هذا القائل ومن قرينه ما ذكره الله تعالى في سورة الكهف (32) في قوله:
{ { وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } إلى آخر الآيات، وروي أن رجلين كانا شريكين فحصل لهما ثمانية آلاف دينار فقال أحدهما للآخر أقاسمك فقاسمه واشترى داراً بألف ديناراً فأراها صاحبه وقال: كيف ترى حسنها فقال: ما أحسنها فخرج وقال: اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه تزوج بامرأة حسناء بألف دينار فتصدق هذا بألف دينار لأجل أن يزوجه الله من الحور العين، ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار، ثم إن الله أعطاه في الجنة ما طلب فعند هذا قال: { إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ } إلى قوله: { { فَٱطَّلَعَ فَرَءاهُ فِى سَوَاء ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 55]. المسألة الثالثة: قوله: { أَءنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدّقِينَ * أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـٰماً أَءنَّا لَمَدِينُونَ } اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة قرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير ممدودة والثالثة بكسر الألف من غير استفهام، ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين، وقرأ ابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام، وقرأ الباقون بالاستفهام في جميعها، ثم اختلفوا فإبن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة، وأبو عمرو مطولة، وعاصم وحمزة بهمزتين.
وأما قوله: { إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } قرأ نافع برواية ورش لترديني بإثبات الياء في الوصل والباقون بحذفها.
المسألة الرابع: احتج أصحابنا على أن الهدى والضلال من الله تعالى بقوله تعالى: { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ } وقالوا: مذهب الخصم أن كل ما فعله الله تعالى من وجوه الإنعام في حق المؤمن فقد فعله في حق الكافر، وإذا كان ذلك الإنعام مشتركاً فيه امتنع أن يكون سبباً لحصول الهداية للمؤمن. وأن يكون سبباً لخلاصه من الكفر والردى فوجب أن تكون تلك النعمة المخصوصة أمراً زائداً على تلك الإنعامات التي حصل الاشتراك فيها، وما ذلك إلا بقوة الداعي إلى الإيمان وتكميل الصارف عن الكفر.
المسألة الخامسة: احتج نفاة عذاب القبر بقول الرجل الذي من أهل الجنة { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأَولَىٰ } فهذا يدل على أن الإنسان لا يموت إلا مرة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلاً مرتين والجواب: أن قوله: { إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأَولَىٰ } المراد منه كل ما وقع في الدنيا، والله أعلم.