خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً
١٥٧
بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٥٨
-النساء

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وسادسها: قوله تعالى: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ }.

وهذا يدل على كفر عظيم منهم لأنهم قالوا فعلنا ذلك، وهذا يدل على أنهم كانوا راغبين في قتله مجتهدين في ذلك، فلا شك أن هذا القدر كفر عظيم.

فإن قيل: اليهود كانوا كافرين بعيسى أعداء له عامدين لقتله يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة، فكيف قالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله؟

والجواب عنه من وجهين: الأول: أنهم قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون { { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [الشعراء: 27] وكقول كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: { { وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر: 6]، والثاني: أنه يجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عليه السلام عما كانوا يذكرونه به.

ثم قال تعالى { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبّهَ لَهُمْ }.

واعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود أنهم زعموا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام فالله تعالى كذبهم في هذه الدعوى وقال { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبّهَ لَهُمْ } وفي الآية سؤالان:

السؤال الأول: قوله { شُبّهَ } مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح فهو مشبّه به وليس بمشبه، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر.

والجواب من وجهين: الأول: أنه مسند إلى الجار والمجرور، وهو كقولك: خيل إليه كأنه قيل: ولكن وقع لهم الشبه. الثاني: أن يسند إلى ضمير المقتول لأن قوله { وَمَا قَتَلُوهُ } يدل على أنه وقع القتل على غيره فصار ذلك الغير مذكوراً بهذا الطريق، فحسن إسناد { شُبّهَ } إليه.

السؤال الثاني: أنه إن جاز أن يقال: أن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة، فإنا إذا رأينا زيداً فلعله ليس بزيد، ولكنه ألقى شبه زيد عليه، وعند ذلك لا يبقى النكاح والطلاق والملك، وثوقاً به، وأيضاً يفضي إلى القدح في التواتر لأن خبر التواتر إنما يفيد العلم بشرط انتهائه في الآخرة إلى المحسوس، فإذا جوزنا حصول مثل هذه الشبهة في المحسوسات توجه الطعن في التواتر، وذلك يوجب القدح في جميع الشرائع، وليس لمجيب أن يجيب عنه بأن ذلك مختص بزمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنا نقول: لو صح ما ذكرتم فذاك إنما يعرف بالدليل والبرهان، فمن لم يعلم ذلك الدليل وذلك البرهان وجب أن لا يقطع بشيء من المحسوسات ووجب أن لا يعتمد على شيء من الأخبار المتواترة، وأيضاً ففي زماننا إن انسدت المعجزات فطريق الكرامات مفتوح، وحينئذ يعود الاحتمال المذكور في جميع الأزمنة: وبالجملة ففتح هذا الباب يوجب الطعن في التواتر، والطعن فيه يوجب الطعن في نبوّة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذا فرع يوجب الطعن في الأصول فكان مردوداً.

والجواب: اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضع وذكروا وجوهاً:

الأول: قال كثير من المتكلمين: إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم، فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس أنه المسيح، والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلاّ بالاسم لأنه كان قليل المخالطة للناس، وبهذا الطريق زال السؤال. لا يقال: إن النصارى ينقلون عن أسلافهم أنهم شاهدوه مقتولاً، لأنا نقول: إن تواتر النصارى ينتهي إلى أقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب.

والطريق الثاني: أنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر ثم فيه وجوه: الأول: أن اليهود لما علموا أنه حاضر في البيت الفلاني مع أصحابه أمر يهوذا رأس اليهود رجلاً من أصحابه يقال له طيطايوس أن يدخل على عيسى عليه السلام ويخرجه ليقتله، فلما دخل عليه أخرج الله عيسى عليه السلام من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى فظنوه هو فصلبوه وقتلوه. الثاني: وكلوا بعيسى رجلاً يحرسه وصعد عيسى عليه السلام في الجبل ورفع إلى السماء، وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست بعيسى. الثالث: أن اليهود لما هموا بأخذه وكان مع عيسى عشرة من أصحابه فقال لهم: من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي؟ فقال واحد منهم أنا، فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقتل، ورفع الله عيسى عليه السلام. الرابع: كان رجل يدعي أنه من أصحاب عيسى عليه السلام، وكان منافقاً فذهب إلى اليهود ودلهم عليه، فلما دخل مع اليهود لأخذه ألقى الله تعالى شبهه عليه فقتل وصلب. وهذه الوجوه متعارضة متدافعة، والله أعلم بحقائق الأمور.

ثم قال تعالى:{ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } وفيه مسألتان: المسأله الأولى:اعلم أن في قوله { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } قولين: الأول: أنهم هم النصارى وذلك لأنهم بأسرهم متفقون على أن اليهود قتلوه، إلا أن كبار فرق النصارى ثلاثة: النسطورية، والملكانية، واليعقوبية.

أما النسطورية فقد زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته، وأكثر الحكماء يرون ما يقرب من هذا القول، قالوا: لأنه ثبت أن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو إما جسم شريف منساب في هذا البدن، وإما جوهر روحاني مجرد في ذاته وهو مدبر في هذا البدن، فالقتل إنما ورد على هذا الهيكل، وأما النفس التي هي في الحقيقة عيسى عليه السلام فالقتل ما ورد عليه، لا يقال: فكل إنسان كذلك فما الوجه لهذا التخصيص؟ لأنا نقول: إن نفسه كانت قدسية علوية سماوية شديدة الاشراق بالأنوار الإلهية عظيمة القرب من أرواح الملائكة، والنفس متى كانت كذلك لم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن، ثم إنها بعد الانفصال عن ظلمة البدن تتخلص إلى فسحة السموات وأنوار عالم الجلال فيعظم بهجتها وسعادتها هناك، ومعلوم أن هذه الأحوال غير حاصلة لكل الناس بل هي غير حاصلة من مبدأ خلقة آدم عليه السلام إلى قيام القيامة إلا لأشخاص قليلين، فهذا هو الفائدة في تخصيص عيسى عليه السلام بهذه الحالة.

وأما الملكانية فقالوا: القتل والصلب وصلا إلى الاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة.

وقالت اليعقوبية: القتل واللصلب وقعا بالمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين، فهذا هو شرح مذاهب النصارى في هذا الباب، وهو المراد من قوله { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ }.

القول الثاني: أن المراد بالذين اختلفوا هم اليهود، وفيه وجهان: الأول: أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به كان الشبه قد ألقى على وجهه ولم يلق عليه شبه جسد عيسى عليه السلام، فلما قتلوه ونظروا إلى بدنه قالوا: الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره. الثاني: قال السدي: إن اليهود حبسوا عيسى مع عشرة من الحواريين في بيت، فدخل عليه رجل من اليهود ليخرجه ويقتله، فألقى الله شبه عيسى عليه ورفع إلى السماء، فأخذوا ذلك الرجل وقتلوه على أنه عيسى عليه السلام، ثم قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ فذلك اختلافهم فيه.

المسألة الثانية: احتج نفاة القياس بهذه الآية وقالوا: العمل بالقياس اتباع للظن، واتباع الظن مذموم في كتاب الله بدليل أنه إنما ذكره في معرض الذم، ألا ترى أنه تعالى وصف اليهود والنصارى ههنا في معرض الذم بهذا فقال { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنّ } وقال في سورة الأنعام في مذمة الكفار { { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ لا يَخْرُصُونَ } [الأنعام: 116] وقال في آية أخرى { { وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقّ شَيْئاً } [يونس: 36] وكل ذلك يدل على أن اتباع الظن مذموم.

والجواب: لا نسلم أن العمل بالقياس اتباع الظن، فإن الدليل القاطع لما دل على العمل بالقياس كان الحكم المستفاد من القياس معلوماً لا مظنوناً، وهذا الكلام له غور وفيه بحث.

ثم قال تعالى: { وَمَا قَتَلُوهُ بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ }.

واعلم أن هذا اللفظ يحتمل وجهين: أحدهما: يقين عدم القتل، والآخر يقين عدم الفعل، فعلى التقدير الأول يكون المعنى: أنه تعالى أخبر أنهم شاكون في أنه هل قتلوه أم لا، ثم أخبر محمداً بأن اليقين حاصل بأنهم ما قتلوه، وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أنهم شاكون في أنه هل قتلوه أم لا، ثم أخبر محمداً بأن اليقين حاصل بأنهم ما قتلوه، وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أنهم شاكون في أنه هل قتلوه؟ ثم أكد ذلك بأنهم قتلوا ذلك الشخص الذي قتلوه لا على يقين أنه عيسى عليه السلام، بل حين ما قتلوه كانوا شاكين في أنه هل هو عيسى أم لا، والاحتمال الأول أولى لأنه تعالى قال بعده { بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ } وهذا الكلام إنما يصح إذا تقدم القطع واليقين بعدم القتل.

أما قوله: { بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو والكسائي { بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ } بإدغام اللام في الراء والباقون بترك الإدغام، حجتهما قرب مخرج اللام من الراء والراء أقوى من اللام بحصول التكرير فيها، ولهذا لم يجز إدغام الراء في اللام لأن الأنقص يدغم في الأفضل، وحجة الباقين أن الراء واللام حرفان من كلمتين فالأولى ترك الإدغام.

المسألة الثانية: المشبهة احتجوا بقوله تعالى: { بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ } في إثبات الجهة.

والجواب: المراد الرفع إلى موضع لا يجرى فيه حكم غير الله تعالى كقوله { { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلامُورُ } [البقرة: 210] وقال تعالى: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـٰجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [النساء: 100] وكانت الهجرة في ذلك الوقت إلى المدينة، وقال إبراهيم { { إِنّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبّى } [الصافات: 99].

المسألة الثالثة: رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ثابت بهذه الآية، ونظير هذه الآية قوله في آل عمران { إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [آل عمران: 55] واعلم أنه تعالى لما ذكر عقيب ما شرح أنه وصل إلى عيسى أنواع كثيرة من البلاء والمحنة أنه رفعه إليه دل ذلك على أن رفعه إليه أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية، وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية.

ثم قال تعالى: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }.

والمراد من العزة كمال القدرة، ومن الحكمة كمال العلم، فنبّه بهذا على أن رفع عيسى من الدنيا إلى السموات وإن كان كالمتعذر على البشر لكنه لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وإلى حكمتي، وهو نظير قوله تعالى: { { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء: 1] فإن الإسراء وإن كان متعذراً بالنسبة إلى قدرة محمد إلا أنه سهل بالنسبة إلى قدرة الحق سبحانه ثم قال تعالى: