خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً
٢٩
وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
-النساء

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن في كيفية النظم وجيهن: الأول: أنه تعالى لما شرح كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر بعده كيفية التصرف في الأموال. والثاني: قال القاضي: لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهور والنفقات، بين من بعد كيف التصرف في الأموال فقال: { يَٰـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ } وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: أنه تعالى خص الأكل ههنا بالذكر وإن كانت سائر التصرفات الواقعة على الوجه الباطل محرمة، لما أن المقصود الأعظم من الأموال: الأكل، ونظيره قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً } [النساء: 10].

المسألة الثانية: ذكروا في تفسير الباطل وجهين: الأول: أنه اسم لكل ما لا يحل في الشرع، كالربا والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة وجحد الحق. وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه يقتضي كونها مجملة، لأنه يصير تقدير الآية: لا تأكلوا أموالكم التي جعلتموها بينكم بطريق غير مشروع، فان الطرق المشروعة لما لم تكن مذكورة ههنا على التفصيل صارت الآية مجملة لا محالة. والثاني: ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله عنهم: أن الباطل هو كل ما يؤخذ من الانسان بغير عوض، وبهذا التقدير لا تكون الآية مجملة، لكن قال بعضهم: إنها منسوخة، قالوا: لما نزلت هذه الآية تحرج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئا، وشق ذلك على الخلق، فنسخه الله تعالى بقوله في سورة النور: { لَّيْسَ عَلَى ٱلاْعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلاْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } [النور: 61] الآية. وأيضا: ظاهر الآية إذا فسرنا الباطل بما ذكرناه، تحرم الصدقات والهبات، ويمكن أن يقال: هذا ليس بنسخ وإنما هو تخصيص، ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود أنه قال: هذه الآية محكمة ما نسخت، ولا تنسخ إلى يوم القيامة.

المسألة الثالثة: قوله تعالى: { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ } يدخل تحته أكل مال الغير بالباطل، وأكل مال نفسه بالباطل؛ لأن قوله: { أَمْوٰلَكُمْ } يدخل فيه القسمان معا، كقوله: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه بالباطل. أما أكل مال نفسه بالباطل. فهو إنفاقه في معاصي الله، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه.

ثم قال: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي: { تِجَـٰرَةً } بالنصب، والباقون بالرفع. أما من نصب فعلى «كان» الناقصة، والتقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، وأما من رفع فعلى «كان» التامة، والتقدير: إلا أن توجد وتحصل تجارة. وقال الواحدي: والاختيار الرفع، لأن من نصب أضمر التجارة فقال: تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة، والاضمار قبل الذكر ليس بقوى وإن كان جائزا.

المسألة الثانية: قوله: { إِلا } فيه وجهان: الأول: أنه استثناء منقطع، لأن التجارة عن تراض ليس من جنس أكل المال بالباطل، فكان «إلا» ههنا بمعنى «بل» والمعنى: لكن يحل أكله بالتجارة عن تراض. الثاني: ان من الناس من قال: الاستثناء متصل وأضمر شيئاً، فقال التقدير: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وإن تراضيتم كالربا وغيره، إلا أن تكون تجارة عن تراض.

واعلم أنه كما يحل المستفاد من التجارة، فقد يحل أيضاً المال المستفاد من الهبة والوصية والارث وأخذ الصدقات والمهر وأروش الجنايات، فان أسباب الملك كثيرة سوى التجارة.

فان قلنا: إن الاستثناء منقطع فلا إشكال، فانه تعالى ذكر ههنا سبباً واحد، من أسباب الملك ولم يذكر سائرها، لا بالنفي ولا باثبات.

وإن قلنا: الاستثناء متصل كان ذلك حكما بأن غير التجارة لا يفيد الحل، وعند هذا لا بد إما من النسخ أو التخصيص.

المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمة الله عليه: النهي في المعاملات يدل على البطلان، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يدل عليه، واحتج الشافعي على صحة قوله بوجوه: الأول: أن جميع الأموال مملوكة لله تعالى، فاذا أذن لبعض عبيده في بعض التصرفات كان ذلك جاريا مجرى ما إذا وكل الانسان وكيلا في بعض التصرفات، ثم إن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول الموكل فذاك غير منعقد بالاجماع، فاذا كان التصرف الواقع على خلاف قول المالك المجازي لا ينعقد فبأن يكون التصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي غير منعقد كان أولى. وثانيها: أن هذه التصرفات الفاسدة إما أن تكون مستلزمة لدخول المحرم المنهي عنه في الوجود، وإما أن لا تكون فان كان الأول وجب القول ببطلانها قياسا على التصرفات الفاسدة. والجامع السعي في أن لا يدخل منشأ النهي في الوجود، وإن كان الثاني وجب القول بصحتها، قياسا على التصرفات الصحيحة، والجامع كونها تصرفات خالية عن المفسد، فثبت أنه لا بد من وقوع التصرف على هذين الوجهين. فأما القول بتصرف لا يكون صحيحا ولا باطلا فهو محال، وثالثها: أن قوله: لا تبيعوا الدرهم بدرهمين، كقوله: لا تبيعوا الحر بالعبد، فكما أن هذا النهي باللفظ لكنه نسخ للشريعة فكذا الأول، وإذا كان ذلك نسخا للشريعة بطل كونه مفيداً للحكم،والله أعلم.

المسألة الرابعة: قال أبو حنيفة رحمة الله عليه، خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة، وقال الشافعي رحمة الله عليه: ثابت، احتج أبو حنيفة بالنصوص: أولها: هذه الآية، فان قوله: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ } ظاهره يقتضي الحل عند حصول التراضي، سواء حصل التفرق أو لم يحصل. وثانيها: قوله: { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد عن نفسه. وثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه" وقد حصلت الطيبة ههنا بعقد البيع، فوجب أن يحصل الحل. ورابعها: قوله عليه الصلاة والسلام: "من ابتاع طعاما لا يبعه حتى يقبضه" جوز بيعه بعد القبض، وخامسها: ما روي أنه عليه السلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصيعان، وأباح بيعه إذا جرى فيه الصيعان، ولم يشترط فيه الافتراق. وسادسها: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" واتفقوا على أنه كما اشترى حصل العتق، وذلك يدل على أنه يحصل الملك بمجرد العقد.

واعلم أن الشافعي يسلم عموم هذه النصوص، لكنه يقول: أنتم أثبتم خيار الرؤية في شراء ما لم يره المشتري بحديث اتفق المحدثون على ضعفه، فنحن أيضاً نثبت خيار المجلس بحديث اتفق علماء الحديث على قبوله، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" وتأويلات أصحاب أبي حنيفة لهذا الخبر وأجوبتها مذكورة في الخلافيات،والله أعلم.

قوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } اتفقوا على أن هذا نهي عن أن يقتل بعضهم بعضا وإنما قال: { أَنفُسَكُـمْ } لقوله عليه السلام: "المؤمنون كنفس واحدة" ولأن العرب يقولون: قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم لأن قتل بعضهم يجري مجرى قتلهم. واختلفوا في أن هذا الخطاب هل هو نهي لهم عن قتلهم أنفسهم؟ فانكره بعضهم وقال: إن المؤمن مع إيمانه لا يجوز أن ينهى عن قتل نفسه، لأنه ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه، وذلك لأن الصارف عنه في الدنيا قائم، وهو الألم الشديد والذم العظيم، والصارف عنه أيضا في الآخرة قائم، وهو استحقاق العذاب العظيم، وإذا كان الصارف خالصا امتنع منه أن يفعل ذلك وإذا كان كذلك لم يكن للنهي عنه فائدة، وإنما يمكن أن يذكر هذا النهي فيمن يعتقد في قتل نفسه ما يعتقده أهل الهند، وذلك لا يتأتى من المؤمن، ويمكن أن يجاب عنه بأن المؤمن مع كونه مؤمناً بالله واليوم الآخر، قد يلحقه من الغم والأذية ما يكون القتل عليه أسهل من ذلك، ولذلك نرى كثيرا من المسلمين قد يقتلون أنفسهم بمثل السبب الذي ذكرناه، وإذا كان كذلك كان في النهي عنه فائدة، وأيضا ففيه احتمال آخر، كأنه قيل: لا تفعلوا ما تستحقون به القتل: من القتل والردة والزنا بعد الاحصان، ثم بين تعالى أنه رحيم بعباده ولأجل رحمته نهاهم عن كل ما يستوجبون به مشقة أو محنة، وقيل: إنه تعالى أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم وكان بكم يا أمة محمد رحيما، حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.

ثم قال: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }.

واعلم أن فيه مسائل:

المسألة الأولى: اختلفوا في أن قوله: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } إلى ماذا يعود؟ على وجوه: الأول: قال عطاء: إنه خاص في قتل النفس المحرمة، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات. الثاني: قال الزجاج: إنه عائد إلى قتل النفس وأكل المال بالباطل لأنهما مذكوران في آية واحدة. والثالث: قال ابن عباس: إنه عائد إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هذا الموضع.

المسألة الثانية: إنما قال: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً } لأن في جملة ما تقدم قتل البعض للبعض، وقد يكون ذلك حقا كالقود، وفي جملة ما تقدم أخذ المال، وقد يكون ذلك حقا كما في الدية وغيرها، فلهذا السبب شرطه تعالى في ذلك الوعيد.

المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على القطع بوعيد أهل الصلاة. قالوا: وقوله: { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } وان كان لا يدل على التخليد إلا أن كل من قطع بوعيد الفساق قال: بتخليدهم، فيلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر، لأنه لا قائل بالفرق. والجواب عنه بالاستقصاء قد تقدم في مواضع، إلا أن الذي نقوله ههنا: ان هذا مختص بالكفار، لأنه قال: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً } ولا بد من الفرق بين العدوان وبين الظلم دفعا للتكرير، فيحمل الظلم على ما اذا كان قصده التعدي على تكاليف الله، ولا شك أن من كان كذلك كان كافراً لا يقال: أليس أنه وصفهم بالايمان فقال: { يا أيها الذين آمنوا } فكيف يمكن أن يقال: المراد بهم الكفار؟ لأنا نقول: مذهبكم أن من دخل تحت هذا الوعيد لا يكون مؤمنا ألبتة، فلا بد على هذا المذهب أن تقولوا: أنهم كانوا مؤمنين، ثم لما أتوا بهذه الأفعال ما بقوا على وصف الايمان، فاذا كان لا بد لكم من القول بهذا الكلام. فلم لا يصح هذا الكلام منا أيضا في تقرير ما قلناه؟ والله أعلم.

ثم أنه تعالى ختم الآية فقال: { وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }.

واعلم أن جميع الممكنات بالنسبة إلى قدرة الله على السوية، وحينئذ يمتنع أن يقال: ان بعض الأفعال أيسر عليه من بعض، بل هذا الخطاب نزل على القول المتعارف فيما بيننا كقوله تعالى: { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم:27] أو يكون معناه المبالغة في التهديد، وهو أن أحداً لا يقدر على الهرب منه ولا على الامتناع عليه.