خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً
٣١
-النساء

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به فذكر هذه الآية، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: من الناس من قال: جميع الذنوب والمعاصي كبائر. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله، فان الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الاسلام، أو جاحدا فريضة، أو مكذبا بقدر. واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه:

الحجة الأولى: هذه الآية، فان الذنوب لو كانت بأسرها كبائر لم يصح الفصل بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر.

الحجة الثانية: قوله تعالى: { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [القمر: 53] وقوله: { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49].

الحجة الثالثة: ان الرسول عليه الصلاة والسلام نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر، كقوله: " الكبائر:الإشراك بالله واليمين الغموس وعقوق الوالدين وقتل النفس" وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر.

الحجة الرابعة: قوله تعالى: { { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } [الحجرات: 7] وهذا صريح في أن المنهيات أقسام ثلاثة: أولها: الكفر، وثانيها: الفسوق. وثالثها: العصيان، فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ليصح العطف، وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر، فالكبائر هي الفسوق، والصغائر هي العصيان. واحتج ابن عباس بوجهين: أحدهما: كثرة نعم من عصى. والثاني: إجلال من عصى، فان اعتبرنا الأول فنعم الله غير متناهية، كما قال: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [النحل: 18] وان اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها، وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر، فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة.

والجواب من وجهين: الأول: كما أنه تعالى أجل الموجودات وأشرفها، فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين، وكل ذلك يوجب خفة الذنب. الثاني: هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث أنها ذنوب، ولكن بعضها أكبر من بعض، وذلك يوجب التفاوت. إذا ثبت أن الذنوب على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر، فالقائلون بذلك فريقان: منهم من قال: الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها، ومنهم من قال: هذا الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها، بل بحسب حال فاعليها، ونحن نشرح كل واحد من هذين القولين.

أما القول الأول: فالذاهبون اليه والقائلون به اختلفوا اختلافا شديداً، ونحن نشير إلى بعضها، فالأول: قال ابن عباس: كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة، نحو قتل النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف. الثاني: قال ابن مسعود: افتتحوا سورة النساء، فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة، ثم قال: مصداق ذلك: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } [النساء: 31]الثالث: قال قوم: كل عمد فهو كبيرة. واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة.

أما الأول: فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل، فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه.

وأما الثاني: فهو أيضا ضعيف، لأن الله تعالى ذكر كثيراً من الكبائر في سائر السور، ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة.

وأما الثالث: فضعيف أيضا، لأنه ان أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله، فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه، فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه، وان أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية، فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم لا يعلمون أنه معصية، وهو مع ذلك كفر كبير، فبطلت هذه الوجوه الثلاثة. وذكر الشيخ الغزاليرحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر فقال: فهذا كله قول من قال: الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها.

وأما القول الثاني: وهو قول من يقول: الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار أحوال فاعليها، فهؤلاء الذين يقولون: إن لكل طاعة قدرا من الثواب، ولكل معصية قدرا من العقاب، فاذا أتى الانسان بطاعة واستحق بها ثوابا، ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا، فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتعادلا ويتساويا، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد، لأنه تعالى قال: { فَرِيقٌ فِى ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ٱلسَّعِيرِ } [الشورى: 7] ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير.

والقسم الثاني: أن يكون ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته، وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من الثواب، ويفضل من الثواب شيء، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة، وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير.

والقسم الثالث: أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب، ويفضل من العقاب شيء، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة، وهذا الانحباط هو المسمى بالاحباط، وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة. وهذا قول جمهور المعتزلة.

واعلم أن هذا الكلام مبني علىأصول كلها باطلة عندنا. أولها: أن هذا مبني على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا، وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن صدور الفعل عن العبد لا يمكن إلا اذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل، ومتى كان كذلك امتنع كون الطاعة موجبة للثواب، وكون المعصية موجبة للعقاب، وثانيها: أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك، إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة، فان ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر، فان أصروا وقالوا: بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أبطلوا على أنفسهم أصلهم، فانهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين، ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم، فان دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد، وثالثها: أن نعم الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد، وتلك النعم السابقة موجبة لهذه الطاعات، فكان أداء الطاعات أداء لما وجب بسبب النعم السابقة، ومثل هذا لا يوجب في المستقبل شيئاً آخر، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا، وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فان عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها، فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر، وذلك أيضاً باطل. ورابعها: أن هذا الكلام مبني على القول بالاحباط، وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالاحباط في سورة البقرة، فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة اليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق.

المسألة الثانية: اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا؟ فالأكثرون قالوا: إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر، لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر، فاذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة، عرف أنه متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراء له بالاقدام على تلك الصغائر، والاغراء بالقبيح لا يليق بالجملة، أما إذا لم يميز الله تعالى كل الكبائر عن كل الصغائر، ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة، ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه كبيرة فيكون ذلك زاجراً له عن الاقدام عليه. قالوا: ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الاجابة في ساعات الجمعة، ووقت الموت في جميع الأوقات. والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة، وأن لا يبين أن الكبائر ليست إلا كذا وكذا، فانه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة، فحينئذ تصير الصغيرة معلومة، ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما تعدون الكبائر" فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: "الاشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات" وعن عبدالله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها: استحلال آمين البيت الحرام، وشرب الخمر، وعن ابن مسعود أنه زاد فيها: القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله. وذكر عن ابن عباس أنها سبعة، ثم قال: هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية أخرى إلى السبعمائة أقرب، والله أعلم.

المسألة الثالثة: احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر فقال: قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد، لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر، بين أن من اجتنبها يكفر عن سيآته، وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر، ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام.

وأجاب أصحابنا عنه من وجوه: الأول: أنكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث أنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيآت، وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها، لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وهذا باطل. لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل، وعندنا انه دلالة ظنية ضعيفة، وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق بكلمة «إن» على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء، وهذا أيضا ضعيف، ويدل عليه آيات: إحداها: قوله: { وَٱشْكُرُواْ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [البقرة: 172] فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد. وثانيها: قوله تعالى: { { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ } [البقرة: 283] وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك. وثالثها: { { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } [البقرة: 282] والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم يحصلا. ورابعها: { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَـٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ } [البقرة:283] والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يجده. وخامسها: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [النور: 33] والاكراه على البغاء محرم، سواء أردن التحصن أو لم يردن. وسادسها: { { وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء } [النساء: 3] والنكاح جائز سواء حصل ذلك الخوف أو لم يحصل، وسابعها: { { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ إِنْ خِفْتُمْ } [النساء:101] والقصر جائز، سواء حصل الخوف أو لم يحصل وثامنها: { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [النساء:11] والثلثان كما أنه حق الثلاثة فهو أيضاً حق الثنتين، وتاسعها: قوله: { { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ } [النساء: 35] وذلك جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل. وعاشرها: قوله: { إِن يُرِيدَا إِصْلَـٰحاً يُوَفّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَا } [النساء: 35] وقد يحصل التوفيق بدون إرادتيهما، والحادي عشر: قوله: { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ } [النساء: 130] وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق، وهذا الجنس من الآيات فيه كثرة، فثبت أن المعلق بكلمة «إن» على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء، والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكملة «إن» على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء، ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية، وذلك يدل على أن حب الانسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي.

الوجه الثاني من الجواب: قال أبو مسلم الاصفهاني: إن هذه الآية إنما جاءت عقيب الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات، وعن عضل النساء وأخذ أموال اليتامى وغير ذلك، فقال تعالى: إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا. وإذا كان هذا الوجه محتملا، لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة. وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين: الأول: أن قوله: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } عام، فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز. الثاني: أن قوله: إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد؛ لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين: إما أن يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم، فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر، أو لا يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم، فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيآت؟ هذا لفظ القاضي في تفسيره.

والجواب عن الأول: أنا لا ندعي القطع بأن قوله: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } محمول على ما تقدم ذكره، لكنا نقول: إنه محتمل، ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية على ما ذكروه. وعن الثاني: أن قولك: من أين أن اجتناب هذا الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات؟ سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم، وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال، وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم من الاستدلال والله أعلم.

الوجه الثالث: من الجواب عن هذا الاستدلال: هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول: إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيآته، وحينئذ تصير هذه الآية عامة في الوعيد، وعمومات الوعيد ليست قليلة، فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية، فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا الباب، وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي: إن الله قد كشف الشبهة بهذه الآية عن هذه المسألة وجه.

الوجه الرابع: أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا، بالنسبة إلى شيء، ويكون صغيراً بالنسبة إلى شيء آخر، وكذا القول في الصغائر، إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الاطلاق هو الكفر، وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } الكفر؟ وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة: منها الكفر بالله وبأنبيائه وباليوم الآخر وشرائعه، فكان المراد أن من اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا، وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [النساء: 48]وإذا كان هذا محتملا، بل ظاهراً سقط استدلالهم بالكلية وبالله التوفيق.

المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر، وعندنا أنه لا يجب عليه شيء، بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان، وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة.

ثم قال تعالى: { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قرأ المفضل عن عاصم { يَكْفُرْ وَيُدْخِلْكُمْ } بالياء في الحرفين على ضمير الغائب، والباقون بالنون على استئناف الوعد، وقرأ نافع { مُّدْخَلاً } بفتح الميم وفي الحج مثله، والباقون بالضم، ولم يختلفوا في { مُدْخَلَ صِدْقٍ } بالضم، فبالفتح المراد موضع الدخول، وبالضم المراد المصدر وهو الادخال، أي: ويدخلكم إدخالا كريما، وصف الادخال بالكرم بمعنى أن ذلك الادخال يكون مقرونا بالكرم على خلاف من قال الله فيهم: { ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ } [الفرقان: 34]

المسألة الثانية: أن مجرد الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة، بل لا بد معه من الطاعات، فالتقدير: ان أتيتم بجميع الواجبات، واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم بقية السيئات وأدخلناكم الجنة، فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة. ومن المعلوم أن عدم السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب، بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي، وهو فضل الله وكرمه ورحمته، كما قال: { { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [يونس: 58]،والله أعلم.