خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
٢٨
-غافر

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام أنه ما زاد في دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله، بيّن أنه تعالى قيض إنساناً أجنبياً غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه وبالغ في تسكين تلك الفتنة واجتهد في إزالة ذلك الشر.

يقول مصنف هذا الكتابرحمه الله ، ولقد جربت في أحوال نفسي أنه كلما قصدني شرير بشر ولم أتعرض له وأكتفي بتفويض ذلك الأمر إلى الله، فإنه سبحانه يقيض أقواماً لا أعرفهم ألبتة، يبالغون في دفع ذلك الشر، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اختلفوا في ذلك الرجل الذي كان من آل فرعون، فقيل إنه كان ابن عم له، وكان جارياً مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة، وقيل كان قبطياً من آل فرعون وما كان من أقاربه، وقيل إنه كان من بني إسرائيل، والقول الأول أقرب لأن لفظ الآل يقع على القرابة والعشيرة قال تعالى: { { إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَـٰهُم بِسَحَرٍ } [القمر: 34] وعن رسول الله أنه قال: "الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل ياسين، ومؤمن آل فرعون الذي قال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ ٱللَّهُ } والثالث علي ابن أبي طالب وهو أفضلهم" وعن جعفر بن محمد أنه قال: كان أبو بكر خيراً من مؤمن آل فرعون لأنه كان يكتم إيمانه وقال أبو بكر جهاراً { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ ٱللَّهُ } فكان ذلك سراً وهذا كان جهاراً.

المسألة الثانية: لفظ من في قوله { مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } يجوز أن يكون متعلقاً بقوله { مُؤْمِنٍ } أي كان ذلك المؤمن شخصاً من آل فرعون ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله { يَكْتُمُ إِيمَـٰنَهُ } والتقدير رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون، وقيل إن هذا الاحتمال غير جائز لأنه يقال كتمت من فلان كذا، إنما يقال كتمته كذا قال تعالى: { { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } [النساء: 42].

المسألة الثالثة: رجل مؤمن الأكثرون قرأوا بضم الجيم وقرىء رجل بكسر الجيم كما يقال عضد في عضد.

المسألة الرابعة: قوله تعالى: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ ٱللَّهُ } استفهام على سبيل الإنكار، وقد ذكر في هذا الكلام ما يدل على حسن ذلك الاستنكار، وذلك لأنه ما زاد على أن قال: { رَبّىَ ٱللَّهُ } وجاء بالبينات وذلك لا يوجب القتل ألبتة وقوله { وَقَدْ جَاءكُمْ بِٱلْبَيّنَـٰتِ مِن رَّبّكُمْ } يحتمل وجهين الأول: أن قوله { رَبّىَ ٱللَّهُ } إشارة إلى التوحيد، وقوله { وَقَدْ جَاءكُمْ بِٱلْبَيّنَـٰتِ } إشارة إلى الدلائل الدالة على التوحيد، وهو قوله في سورة طه [50] { { رَبُّنَا ٱلَّذِى أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } وقوله في سورة الشعراء [24] { { رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } إلى آخر الآيات، ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية في أن الإقدام على قتله غير جائز وهي حجة مذكورة على طريقة التقسيم، فقال إن كان هذا الرجل كاذباً كان وبال كذبه عائداً عليه فاتركوه وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم، فثبت أن على كلا التقديرين كان الأولى إبقاؤه حياً.

فإن قيل السؤال على هذا الدليل من وجهين الأول: أن قوله { وَإِن يَكُ كَـٰذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } معناه أن ضرر كذبه مقصور عليه ولا يتعداه، وهذا الكلام فاسد لوجوه أحدها: أنا لا نسلم أن بتقدير كونه كاذباً كان ضرر كذبه مقصوراً عليه، لأنه يدعو الناس إلى ذلك الدين الباطل، فيغتر به جماعة منهم، ويقعون في المذهب الباطل والاعتقاد الفاسد، ثم يقع بينهم وبين غيرهم الخصومات الكثيرة فثبت أن بتقدير كونه كاذباً لم يمكن ضرر كذبه مقصوراً عليه، بل كان متعدياً إلى الكل، ولهذا السبب العلماء أجمعوا على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى زندقته يجب قتله وثانيها: أنه إن كان الكلام حجة له، فلا كذاب إلا ويمكنه أن يتمسك بهذه الطريقة، فوجب تمكن جميع الزنادقة والمبطلين من تقرير أديانهم الباطلة وثالثها: أن الكفار الذين أنكروا نبوّة موسى عليه السلام وجب أن لا يجوز الإنكار عليهم، لأنه يقال: إن كان ذلك المنكر كاذباً في ذلك الإنكار فعليه كذبه، وإن يك صادقاً انتفعتم بصدقه، فثبت أن هذا الطريق يوجب تصويب ضده، وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلاً.

السؤال الثاني: أنه كان من الواجب أن يقال وإن يك صادقاً يصبكم كل الذي يعدكم لأن الذي يصيب في بعض ما يعد دون البعض هم أصحاب الكهانة والنجوم، أما الرسول الصادق الذي لا يتكلم إلا بالوحي فإنه يجب أن يكون صادقاً في كل ما يقول فكان قوله { يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِى يَعِدُكُمْ } غير لائق بهذا المقام والجواب: عن الأسئلة الثلاثة بحرف واحد وهو أن تقدير الكلام أن يقال إنه لا حاجة بكم في دفع شره إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه عن إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذباً فحينئذ لا يعود ضرره إلا إليه، وإن يك صادقاً انتفعتم به، والحاصل أن المقصود من ذكر ذلك التقسيم بيان أنه لا حاجة إلى قتله بل يكفيكم أن تعرضوا عنه وأن تمنعوه عن إظهار دينه فبهذا الطريق (تكون) الأسئلة الثلاثة مدفوعة.

وأما السؤال الثاني: وهو قوله كان الأولى أن يقال يصبكم كل الذي يعدكم، فالجواب عنه من وجوه الأول: أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللجاج لأن المقصود منه إن كان كاذباً كان ضرر كذبه مقصوراً عليه، وإن كان صادقاً فلا أقل من أن يصل إليكم بعض ما يعدكم، وإن كان المقصود من هذا الكلام ما ذكر صح، ونظيره قولله تعالى: { { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } [سبأ: 24]، والوجه الثاني: أنه عليه السلام كان يتوعدهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة، فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصابهم بعض الذي يعدهم به، الوجه الثالث: حُكي عن أبي عبيدة أنه قال ورود لفظ البعض بمعنى الكل جائز، واحتج بقول لبيد:

تراك أمكنة إذا لم أرضهاأو يرتبط بعض النفوس حمامها

والجمهور على أن هذا القول خطأ، قالوا وأراد لبيد ببعض النفوس نفسه، والله أعلم.

ثم حكى الله تعالى عن هذا المؤمن حكاية ثالثة في أنه لا يجوز إيذاء موسى عليه السلام فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } وتقرير هذا الدليل أن يقال: إن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بهذه المعجزات الباهرة، ومن هداه الله إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذاباً فهذا يدل على أن موسى عليه السلام ليس من الكاذبين، فكان قوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } إشارة إلى علو شأن موسى عليه السلام على طريق الرمز والتعريض، ويحتمل أيضاً أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمه على قتل موسى، كذاب في إقدامه على ادعاء الإلٰهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يبطله ويهدم أمره.