خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
٣٠
نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ
٣١
نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ
٣٢
-فصلت

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

أعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بهذا الوعد الشريف، وهذا ترتيب لطيف مدار كل القرآن عليه، وقد ذكرنا مراراً أن الكمالات على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية وأشرف المراتب النفسانية وأوسطها البدنية وأدونها الخارجية، وذكرنا أن الكمالات النفسانية محصورة في نوعين العلم اليقيني والعمل الصالح، فإن أهل التحقيق قالوا كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله وإليه الإشارة بقوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } ورأس الأعمال الصالحة ورئيسها أن يكون الإنسان مستقيماً في الوسط غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط، كما قال: { { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة: 143] وقال أيضاً: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وإليه الإشارة في هذه الآية بقوله { ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } وسمعت أن القارىء قرأ في مجلس العبادي هذه الآية، فقال العبادي: والقيامة في القيامة، بقدر الاستقامة، إذا عرفت هذا فنقول: قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } ليس المراد منه القول باللسان فقط لأن ذلك لا يفيد الاستقامة، فلما ذكر عقيب ذلك القول الاستقامة علمنا أن ذلك القول كان مقروناً باليقين التام والمعرفة الحقيقية، إذ عرفت هذا فنقول في الاستقامة قولان أحدهما: أن المراد منه الاستقامة في الدين والتوحيد والمعرفة الثاني: أن المراد منه الاستقامة في الأعمال الصالحة أما على القول الأول ففيه عبارات: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ثم استقاموا أي لم يتلفتوا إلى إله غيره، قال ابن عباس في بعض الروايات هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وقع في أنواع شديدة من البلاء والمحنة ولم يتغير ألبتة عن دينه، فكان هو الذي قال: { رَبُّنَا ٱللَّهُ } وبقي مستقيماً عليه لم يتغير بسبب من الأسباب، وأقول يمكن فيه وجوه أخرى، وذلك أن من أقر بأن لهذا العالم إلهاً بقيت له مقامات أخرى فأولها: أن لا يتوغل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل، ولا يتوغل في جانب الاثبات إلى حيث ينتهي إلى التشبيه، بل يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين التشبيه والتعطيل، وأيضاً يجب أن يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين الجبر والقدر، وكذا في الرجاء والقنوط يجب أن يكون على الخط المتسقيم، فهذا هو المراد من قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } وأما على القول الثاني وهو أن نحمل الاستقامة على الإتيان بالأعمال الصالحة، فهذا قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، قالوا وهذا أولى حتى يكون قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } متناولاً للقول والاعتقاد ويكون قوله { ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } متناولاً للأعمال الصالحة.

ثم قال: { تَتَنَزَلَ عَلَيْهِمْ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } قيل عند الموت وقيل في مواقف ثلاثة عند الموت وفي القبر وعند البعث إلى القيامة { أَلاَّ تَخَافُواْ } أن بمعنى أي أو بمخففة من الثقيلة وأصله بأنه لا تخافوا والهاء ضمير لشأن واعلم أن الغاية القصوى في رعاية المصالح دفع المضار وجلب المنافع، ومعلوم أن دفع المضرة أولى بالرعاية من جلب المصلحة، والمضرة إما أن تكون حاصلة في المستقبل أو في الحال أو في الماضي، وههنا دقيقة عقلية وهي أن المتسقبل مقدم على الحاضر والحاضر مقدم على الماضي، فإن الشيء الذي لم يوجد ويتوقع حدوثه يكون مستقبلاً، فإذا وجد يصير حاضراً، فإذا عدم وفني بعد ذلك يصير ماضياً، وأيضاً المستقبل في كل ساعة يصير أقرب حصولاً والماضي في كل حالة أبعد حصولاً، ولهذا قال الشاعر:

فلا زال ما تهواه أقرب من غدولا زال ما تخشاه أبعد من أمس

وإذا ثبت هذا فالمضار التي يتوقع حصولها في المستقبل أولى بالدفع من المضار الماضية، وأيضاً الخوف عبارة عن تألم القلب بسبب توقع حصول مضرة في المستقبل، والغم عبارة عن تألم القلب بسبب قوة نفع كان موجوداً في الماضي، وإذا كان كذلك فدفع الخوف أولى من دفع الحزن الحاصل بسبب الغم، إذا عرفت هذا، فنقول: إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم في أول الأمر يخبرون بأنه لا خوف عليكم بسبب ما تستقبلونه من أحوال القيامة، ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتكم من أحوال الدنيا، وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية، ثم بعد الفراغ منه يبشرون بحصول المنافع وهو قوله تعالى: { وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } فإن قيل البشارة عبارة عن الخبر الأول بحصول المنافع، فأما إذا أخبر الرجل بحصول منفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كان الإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارة، والمؤمن قد يسمع بشارات الخير فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة، فما السبب في تسمية هذا الخبر بالبشارة، قلنا المؤمن يسمع أن من كان مؤمناً تقياً كان له الجنة، أما من لم يسمع ألبتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا الكلام من الملائكة كان هذا إخباراً بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الأول بذلك فكان ذلك بشارة.

واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث لا يكون فازعاً من الأهوال ومن الفزع الشديد، بل يكون آمن القلب ساكن الصدر لأن قوله { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } يفيد نفي الخوف والحزن على الإطلاق.

ثم إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم قالوا للمؤمنين { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلأَخِرَةِ } وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال: { { وَقيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء } [فصلت: 25] ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية، بالإلهامات والمكاشفات اليقينية، والمقامات الحقيقية، كما أن للشياطين تأثيرات في الأوراح بإلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إليها. وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات، فهم يقولون: كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدينا فهي تكون باقية في الآخرة فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال، بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى، وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة، وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس، والقطرة بالنسبة إلى البحر، والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات" فإذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية، فقد زال الغطاء والوطاء، فيتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة بالبحر، والشعلة بالشمس، فهذا هو المراد من قوله { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُنيا وَفِي ٱلأَخِرَةِ } ثم قال: { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } قال ابن عباس: { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أي ما تتمنون، كقوله تعالى: { { لَهُمْ فِيهَا فَـٰكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [يس: 57] فإن قيل فعلى هذا التفسير لا يبقى فرق بين قوله { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } وبين قوله { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } قلنا: الأقرب عندي أن قوله { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } إشارة إلى الجنة الجسمانية، وقوله { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله { { دَعْوٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [يونس: 10].

ثم قال: { نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } والنزل: رزق النزيل وهو الضيف، وانتصابه على الحال، قال العارفون: دلّت هذه الآية على أن كل هذه الأشياء المذكورة جارية مجرى النزل، والكريم إذ أعطى النزل فلا بد وأن يبعث الخلع النفيسة بعدها، وتلك الخلع النفيسة ليست إلا السعادات الحاصلة عند الرؤية والتجلي والكشف التام، نسأل الله تعالى أن يجعلنا لها أهلاً بفضله وكرمه، إنه قريب مجيب.