خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ
١٦
وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
١٧
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨
إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ
١٩
هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
٢٠
أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٢١
-الجاثية

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى بيّـن أنه أنعم بنعم كثيرة على بني إسرائيل، مع أنه حصل بينهم الاختلاف على سبيل البغي والحسد: والمقصود أن يبين أن طريقة قومه كطريقة من تقدم.

واعلم أن النعم على قسمين: نعم الدين، ونعم الدنيا، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا، فلهذا بدأ الله تعالى بذكر نعم الدين، فقال { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ } والأقرب أن كل واحد من هذه الثلاثة يجب أن يكون مغايراً لصاحبه، أما الكتاب فهو التوراة، وأما الحكم ففيه وجوه، يجوز أن يكون المراد العلم والحكمة، ويجوز أن يكون المراد العلم بفصل الحكومات، ويجوز أن يكون المراد معرفة أحكام الله تعالى وهو علم الفقه، وأما النبوة فمعلومة، وأما نعم الدنيا فهي المراد من قوله تعالى: { وَرَزَقناهم مِّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } وذلك لأنه تعالى وسع عليهم في الدنيا، فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم ثم أنزل عليهم المن والسلوى، ولما بيّـن تعالى أنه أعطاهم من نعم الدين ونعم الدنيا نصيباً وافراً، قال: { وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمينَ } يعني أنهم كانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن سواهم في وقتهم، فلهذا المعنى قال المفسرون المراد: وفضلناهم عن عالمي زمانهم.

ثم قال تعالى: { وَءاتَيْنَـٰهُم بَيّنَـٰتٍ مّنَ ٱلأَمْرِ } وفيه وجوه الأول: أنه آتاهم بينات من الأمر، أي أدلة على أمور الدنيا الثاني: قال ابن عباس: يعني بيّـن لهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، ويكون أنصاره أهل يثرب الثالث: المراد { وَءاتَيْنَـٰهُم بَيّنَـٰتٍ } أي معجزات قاهرة على صحة نبوتهم، والمراد معجزات موسى عليه السلام.

ثم قال تعالى: { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } وهذا مفسر في سورة { { حـم * عسق } [الشورى: 1، 2] والمقصود من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وههنا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف، وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم، ثم ههنا احتمالات يريد أنهم علموا ثم عاندوا، ويجوز أن يريد بالعلم الدلالة التي توصل إلى العلم، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق، لكنهم على وجه الحسد والعناد اختلفوا وأظهروا النزاع.

ثم قال تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضي بَيْنَهم يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } والمرد أنه لا ينبغي أن يغتر المبطل بنعم الدنيا، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها، فإنه سيرى في الآخرة ما يسؤوه، وذلك كالزجر لهم، ولما بيّـن تعالى أنهم أعرضوا عن الحق لأجل البغي والسحد، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعدل عن تلك الطريقة، وأن يتمسك بالحق، وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق وتقرير الصدق، فقال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مّنَ ٱلأَمْرِ } أي على طريقة ومنهاج من أمر الدين، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والبينات، ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال وأديانهم المبنية على الأهواء والجهل، قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة: ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ثم قال تعالى: { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة فصرت مستحقاً للعذاب، فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك، ثم بيّـن تعالى أن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وفي الآخرة، ولا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون، فالله وليهم وناصرهم وهم موالوه، وما أبين الفرق بين الولايتين، ولما بيّـن الله تعالى هذه البيانات الباقية النافعة، قال: { هَـٰذَا بَصَـٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وقد فسرناه في آخر سورة الأعراف، والمعنى هذا القرآن بصائر للناس جعل ما فيه من البيانات الشافية، والبينات الكافية بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعل في سائر الآيات روحاً وحياة، وهو هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن، ولم بيّـن الله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه الذي تقدم، بيّـن الفرق بينهما من وجه آخر، فقال: { أم حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } وفيه مباحث:

البحث الأول: { أَمْ } كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر، سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً، والتقدير ههنا: أفيعلم المشركون هذا، أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين؟

البحث الثاني: الاجتراح: الاكتساب، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أهله، أي كاسبهم، قال تعالى: { { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } [الأنعام: 60].

البحث الثالث: قال الكلبي: نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين: عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقاً لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنا أفضل حالاً منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبيّـن أنه لا يمكن أن يكون حال لمؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب، ومنازل السعادات.

واعلم أن لفظ { حَسِبَ } يستدعي مفعولين أحدهما: الضمير المذكور في قوله { أَن نَّجْعَلَهُمْ } والثاني: الكاف في قوله { كَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } والمعنى أحسب هؤلاء المجترحين أن نجعلهم أمثال الذين آمنوا؟ ونظيره قوله تعالى: { { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } [السجدة: 18] وقوله { { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّـٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ٱلْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ } [غافر: 51، 52] وقوله تعالى: { { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كالمجرمين * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [القلم: 35، 36] وقوله { { أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِى ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ص:28].

ثم قال تعالى: { سَوَاء مَّحْيَـاهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم { سواء } بالنصب، والباقون بالرفع، واختيار أبي عبيد النصب، أما وجه القراءة بالرفع، فهو أن قوله { مَّحْيَـاهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب على البدل من المفعول الثاني لقوله { أَمْ نَجْعَلُ } وهو الكاف في قوله { كَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } ونظيره قوله: ظننت زيداً أبوه منطلق، وأما وجه القراءة بالنصب فقال صاحب «الكشاف» أجرى سواء مجرى مستوياً، فارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية وكان مفرداً غير جملة، ومن قرأ { وَمَمَـٰتُهُمْ } بالنصب جعل { مَّحْيَـاهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } ظرفين كمقدم الحاج، وخفوق النجم، أي سواء في محياهم وفي مماتهم، قال أبو علي من نصب سواء جعل المحيا والممات بدلاً من الضمير المنصوب في نجعلهم فيصير التقدير أن نجعله محياهم ومماتهم سواء، قال ويجوز أن نجعله حالاً ويكون المفعول الثاني هو الكاف في قوله { كَٱلَّذِينَ }.

المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله { مَّحْيَـاهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } قال مجاهد عن ابن عباس يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم، كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وذلك لأن المؤمن ما دام يكون في الدينا فإنه يكون وليه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه، والكافر بالضد منه، كما ذكره في قوله { وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } وعند القرب إلى الموت، فإن حال المؤمن ما ذكره في قوله تعالى: { { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } [النمل: 32] وحال الكافر ما ذكره في قوله: { { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } [النحل: 28] وأما في القيامة فقال تعالى: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَـٰحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [عبس: 38 ـ 41] فهذا هو الإشارة إلى بيان وقوع التفاوت بين الحالتين والوجه الثاني: في تأويل الآية أن يكون المعنى إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات والوجه الثالث: في التأويل أن قوله { سَوَاء مَّحْيَـاهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } مستأنف على معنى أن محيا المسيئين ومماتهم سواء فكذلك محيا المسحنين ومماتهم،أي كل يموت على حسب ما عاش عليه، ثم إنه تعالى صرح بإنكار تلك التسوية فقال: { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } وهو ظاهر.