خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً
٢٨
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
٢٩
-الفتح

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

ثم قال تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً }.

تأكيداً لبيان صدق الله في رسوله الرؤيا، وذلك لأنه لما كان مرسلاً لرسوله ليهدي، لا يريد ما لا يكون مهدياً للناس فيظهر خلافه، فيقع ذلك سبباً للضلال، ويحتمل وجوهاً أقوى من ذلك، وهو أن الرؤيا بحيث توافق الواقع تقع لغير الرسل، لكن رؤية الأشياء قبل وقوعها في اليقظة لا تقع لكل أحد فقال تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ } وحكى له ما سيكون في اليقظة، ولا يبعد من أن يريه في المنام ما يقع فلا استبعاد في صدق رؤياه، وفيها أيضاً بيان وقوع الفتح ودخول مكة بقوله تعالى: { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ } أي من يقويه على الأديان لا يستبعد منه فتح مكة له و (الهدى) يحتمل أن يكون هو القرآن كما قال تعالى: { { أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ } [البقرة: 185] وعلى هذا { دِينَ ٱلْحَقِّ } هو ما فيه من الأصول والفروع، ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة أي أرسله بالحق أي مع الحق إشارة إلى ما شرع، ويحتمل أن يكون الهدى هو الأصول و { دِينَ ٱلْحَقِّ } هو الأحكام، وذلك لأن من الرسل من لم يكن له أحكام بل بين الأصول فحسب، والألف واللام في الهدى يحتمل أن تكون للاستغراق أي كل ما هو هدى، ويحتمل أن تكون للعهد وهو قوله تعالى: { { ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء } [الزمر: 23] وهو إما القرآن لقوله تعالى: { { كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ } [الزمر: 23] إلى أن قال: { { ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء } [الزمر: 23] وإما ما اتفق عليه الرسل لقوله تعالى: { { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90] والكل من باب واحد لأن ما في القرآن موافق لما اتفق عليه الأنبياء وقوله تعالى: { وَدِينِ ٱلْحَقّ } يحتمل وجوهاً: أحدها: أن يكون الحق اسم الله تعالى فيكون كأنه قال: بالهدى ودين الله، وثانيها: أن يكون الحق نقيض الباطل فيكون كأنه قال: ودين الأمر الحق وثالثها: أن يكون المراد به الانقياد إلى الحق والتزامه { لِيُظْهِرَهُ } أي أرسله بالهدى وهو المعجز على أحد الوجوه { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ } أي جنس الدين، فينسخ الأديان دون دينه، وأكثر المفسرين على أن الهاء في قوله { لِيُظْهِرَهُ } راجعة إلى الرسول، والأظهر أنه راجع إلى دين الحق أي أرسل الرسول بالدين الحق ليظهره أي ليظهر الدين الحق على الأديان، وعلى هذا فيحتمل أن يكون الفاعل للاظهار هو الله، ويحتمل أن يكون هو النبي أي ليظهر النبي دين الحق، وقوله تعالى: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } أي في أنه رسول الله وهذا مما يسلي قلب المؤمنين فإنهم تأذوا من رد الكفار عليهم العهد المكتوب، وقالوا لا نعلم أنه رسول الله فلا تكتبوا محمد رسول الله بل اكتبوا محمد بن عبد الله، فقال تعالى: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } في أنه رسول الله، وفيه معنى لطيف وهو أن قول الله مع أنه كاف في كل شيء، لكنه في الرسالة أظهر كفاية، لأن الرسول لا يكون إلا بقول المرسل، فإذا قال ملك هذا رسولي، لو أنكر كل من في الدنيا أنه رسول فلا يفيد إنكارهم فقال تعالى أي خلل في رسالته بإنكارهم مع تصديقي إياه بأنه رسولي، وقوله { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } فيه وجوه أحدها: خبر مبتدأ محذوف تقديره هو محمد الذي سبق ذكره بقوله { أَرْسَلَ رَسُولَهُ } ورسول الله عطف بيان وثانيها: أن محمداً مبتدأ خبره رسول الله وهذا تأكيد لما تقدم لأنه لما قال: { هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } ولا تتوقف رسالته إلا على شهادته، وقد شهد له بها محمد رسول الله من غير نكير وثالثها: وهو مستنبط وهو أن يقال { مُحَمَّدٌ } مبتدأ و { رَسُولِ ٱللَّهِ } عطف بيان سيق للمدح لا للتمييز { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } عطف على محمد، وقوله { أَشِدَّاءُ } خبره، كأنه تعالى قال: { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } جميعهم { أَشِدَّاءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم، أما في المؤمنين فكما في قوله تعالى: { { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } [المائدة: 54] وأما في حق النبي صلى الله عليه وسلم فكما في قوله { وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 73] وقال في حقه { { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128] وعلى هذا قوله { تَرَاهُمْ } لا يكون خطاباً مع النبي صلى الله عليه وسلم بل يكون عاماً أخرج مخرج الخطاب تقديره أيها السامع كائناً من كان، كما قلنا إن الواعظ يقول انتبه قبل أن يقع الانتباه ولا يريد به واحداً بعينه، وقوله تعالى: { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } لتمييز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار وسجودهم، وركوع المرائي وسجوده، فإنه لا يبتغي به ذلك. وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال الراكعون والساجدون { { لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } [فاطر: 30] وقال الراكع يبتغي الفضل ولم يذكر الأجر لأن الله تعالى إذا قال لكم أجر كان ذلك منه تفضلاً، وإشارة إلى أن عملكم جاء على ما طلب الله منكم، لأن الأجرة لا تستحق إلا على العمل الموافق للطلب من المالك، والمؤمن إذا قال أنا أبتغي فضلك يكون منه اعترافاً بالتقصير فقال: { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ } ولم يقل أجراً.

وقوله تعالى: { سِيمَـٰهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } فيه وجهان أحدهما: أن ذلك يوم القيامة كما قال تعالى: { { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106] وقال تعالى: { { نُورُهُمْ يَسْعَىٰ } [التحريم: 8] وعلى هذا فنقول نورهم في وجوههم بسبب توجههم نحو الحق كما قال إبراهيم عليه السلام: { { إِنّى وَجَّهْتُ وجهي للذي فطر ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } [الأنعام: 79] ومن يحاذي الشمس يقع شعاعها على وجهه، فيتبين على وجهه النور منبسطاً، مع أن الشمس لها نور عارضي يقبل الزوال، والله نور السمٰوات والأرض فمن يتوجه إلى وجهه يظهر في وجهه نور يبهر الأنوار وثانيهما: أن ذلك في الدنيا وفيه وجهان أحدهما: أن المراد ما يظهر في الجباه بسبب كثرة السجود والثاني: ما يظهره الله تعالى في وجوه الساجدين ليلاً من الحسن نهاراً، وهذا محقق لمن يعقل فإن رجلين يسهران بالليل أحدهما قد اشتغل بالشراب واللعب والآخر قد اشتغل بالصلاة والقراءة واستفادة العلم فكل أحد في اليوم الثاني يفرق بين الساهر في الشرب واللعب، وبين الساهر في الذكر والشكر.

وقوله تعالى: { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ } فيه ثلاثة أوجه مذكورة أحدها: أن يكون { ذٰلِكَ } مبتدأ، و { مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإنجِيلِ } خبراً له، وقوله تعالى: { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } خبراً مبتدأ محذوف تقديره ومثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع وثانيها: أن يكون خبر ذلك هو قوله { مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ } وقوله { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإنجِيلِ } مبتدأ وخبره كزرع وثالثها: أن يكون ذلك إشارة غير معينة أوضحت بقوله تعالى: { كَزَرْعٍ } كقوله { { ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [الحجر: 66] وفيه وجه رابع: وهو أن يكون ذلك خبراً له مبتدأ محذوف تقديره هذا الظاهر في وجوههم ذلك يقال ظهر في وجهه أثر الضرب، فنقول أي والله ذلك أي هذا ذلك الظاهر، أو الظاهر الذي تقوله ذلك.

وقوله تعالى: { وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ }.

أي وصفوا في الكتابين به ومثلوا بذلك وإنما جعلوا كالزرع لأنه أول ما يخرج يكون ضعيفاً وله نمو إلى حد الكمال، فكذلك المؤمنون، والشطء الفرخ و { فَآزَرَهُ } يحتمل أن يكون المراد أخرج الشطء وآزر الشطء، وهو أقوى وأظهر والكلام يتم عند قوله { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ }.

وقوله تعالى: { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } أي تنمية الله ذلك ليغيظ أو يكون الفعل المعلل هو.

وقوله تعالى: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } أي وعد ليغيظ بهم الكفار يقال رغماً لأنفك أنعم عليه.

وقوله تعالى: { مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } لبيان الجنس لا للتبعيض، ويحتمل أن يقال هو للتبعيض، ومعناه: ليغيظ الكفار والذين آمنوا من الكفار لهم الأجر العظيم، والعظيم والمغفرة قد تقدم مراراً والله تعالى أعلم، وههنا لطيفة وهو أنه تعالى قال في حق الراكعين والساجدين إنهم { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ } وقال: لهم أجر ولم يقل لهم ما يطلبونه من ذلك الفضل وذلك لأن المؤمن عند العمل لم يلتفت إلى عمله ولم يجعل له أجراً يعتد به، فقال لا أبتغي إلا فضلك، فإن عملي نزر لا يكون له أجر والله تعالى آتاه ما آتاه من الفضل وسماه أجراً إشارة إلى قبول عمله ووقوعه الموقع وعدم كونه عند الله نزراً لا يستحق عليه المؤمن أجراً، وقد علم بما ذكرنا مراراً أن قوله { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } لبيان ترتب المغفرة على الإيمان فإن كل مؤمن يغفر له كما قال تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [النساء: 48] والأجر العظيم على العمل الصالح، والله أعلم.

قال المصنفرحمه الله تعالى: تمّ تفسير هذه السورة يوم الخميس السابع عشر من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.