خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ
١١
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ
١٢
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١٣
-الأنفال

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الزجاج: { إِذْ } موضعها نصب على معنى { { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ } [آل عمران: 126] في ذلك الوقت. ويجوز أيضاً أن يكون التقدير: اذكروا إذ يغشيكم النعاس أمنة.

المسألة الثانية: في { يغشاكم } ثلاث قراآت: الأولى: قرأ نافع بضم الياء، وسكون الغين، وتخفيف الشين { يُغَشّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ } بالنصب. الثانية: { يغشاكم } بالألف وفتح الياء وسكون العين { يُغَشّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ } بالرفع وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير. الثالثة: قرأ الباقون { يُغَشّيكُمُ } بتشديد الشين وضم الياء من التغشية { ٱلنُّعَاسَ } بالنصب، أي يلبسكم النوم. قال الواحدي: القراءة الأولى من أغشى، والثانية من غشي، والثالثة من غشي فمن قرأ { يغشاكم } فحجته قوله: { ٱلْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً } يعني: فكما أسند الفعل هناك إلى النعاس والأمنة التي هي سبب النعاس كذلك في هذه الآية ومن قرأ { يُغَشّيكُمُ } أو { يُغَشّيكُمُ } فالمعنى واحد وقد جاء التنزيل بهما في قوله تعالى: { فَأغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [يۤس: 9] وقال: { فَغَشَّـٰهَا مَا غَشَّىٰ } [النجم: 54] وقال: { { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ } [يونس: 27] وعلى هذا فالفعل مسند إلى الله.

المسألة الثالثة: أنه تعالى لما ذكر أنه استجاب دعاءهم ووعدهم بالنصر فقال: { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } ذكر عقيبه وجوه النصر وهي ستة أنواع: الأول: قوله: { إِذ يُغَشّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ } أي من قبل الله، واعلم أن كل نوم ونعاس فإنه لا يحصل إلا من قبل الله تعالى فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله تعالى لا بد فيه من مزيد فائدة وذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أن الخائف إذا خاف من عدوه الخوف الشديد على نفسه وأهله فإنه لا يؤخذه النوم، وإذا نام الخائفون أمنوا، فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن. وثانيها: أنهم خافوا من جهات كثيرة. أحدها: قلة المسلمين وكثرة الكفار. وثانيها: الأهبة والآلة والعدة للكافرين وقلتها للمؤمنين. وثالثها: العطش الشديد فلولا حصول هذا النعاس وحصول الاستراحة حتى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تم الظفر.

والوجه الثالث: في بيان كون ذلك النعاس نعمة في حقهم، أنهم ما ناموا نوماً غرقاً يتمكن العدو من معاقصتهم بل كان ذلك نعاساً يحصل لهم زوال الأعياء والكلال مع أنهم كانوا بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله ولقدروا على دفعه.

والوجه الرابع: أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة. فلهذا السبب قيل: إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز.

فإن قيل: فإن كان الأمر كما ذكرتم فلو خافوا بعد ذلك النعاس؟

قلنا: لأن المعلوم أن الله تعالى يجعل جند الإسلام مظفراً منصوراً وذلك لا يمنع من صيرورة قوم منهم مقتولين.

فإن قيل: إذا قرىء { يُغَشّيكُمُ } بالتخفيف والتشديد ونصب { ٱلنُّعَاسَ } فالمضير لله عز وجل { وأمنة } مفعول له. أما إذا قرىء { يُغَشّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ } فكيف يمكن جعل قوله: { ءامِنَةً } مفعولاً له، مع أن المفعول له يجب أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل؟

قلنا: قوله: { يغشاكم } وإن كان في الظاهر مسنداً إلى النعاس، إلا أنه في الحقيقة مسند إلى الله تعالى، فصح هذا التعليل نظراً إلى المعنى. قال صاحب «الكشاف»: وقرىء { كَانَتْ ءامِنَةً } بسكون الميم، ونظير أمن أمنة، حي حياة، ونظير أمن أمنة، رحم رحمة. قال ابن عباس: النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان.

النوع الثاني: من أنواع نعم الله تعالى المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى: { وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن ٱلسَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَـٰنِ } ولا شبهة أن المراد منه المطر، وفي الخبر أن القوم سبقوا إلى موضع الماء، واستولوا عليه، وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة، وعطش المؤمنون وخافوا، وأعوزهم الماء للشرب والطهارة، وأكثرهم احتلموا وأجنبوا، وانضاف إلى ذلك أن ذلك الموضع كان رملاً تغوص فيه الأرجل ويرتفع منه الغبار الكثير، وكان الخوف حاصلاً في قلوبهم، بسبب كثرة العدو وسبب كثرة آلاتهم وأدواتهم، فلما أنزل الله تعالى ذلك المطر صار ذلك دليلاً على حصول النصرة والظفر، وعظمت النعمة به من جهات: أحدها: زوال العطش، فقد روي أنهم حفروا موضعاً في الرمل، فصار كالحوض الكبير، واجتمع فيه الماء حتى شربوا منه وتطهروا وتزودوا. وثانيها: أنهم اغتسلوا من ذلك الماء، وزالت الجنابة عنهم، وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنباً، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جرم عد تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه. وثالثها: أنهم لما عطشوا ولم يجدوا الماء ثم ناموا واحتلموا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إن المطر نزل فزالت عنهم تلك البلية والمحنة وحصل المقصود. وفي هذه الحالة ما قد يستدل به على زوال العسر وحصول اليسر والمسرة.

أما قوله: { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَـٰنِ } ففيه وجوه: الأول: أن المراد منه الاحتلام لأن ذلك من وساوس الشيطان. الثاني: أن الكفار لما نزلوا على الماء، وسوس الشيطان إليهم وخوفهم من الهلاك، فلما نزل المطر زالت تلك الوسوسة، روى أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم، تمثل لهم إبليس وقال أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة، وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي واتخذ المسلمون حياضاً واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام. الثالث: أن المراد من رجز الشيطان سائر ما يدعو الشيطان إليه من معصية وفساد.

فإن قيل: فأي هذه الوجوه الثلاثة أولى؟

قلنا: قوله: { لّيُطَهّرَكُمْ } معناه ليزيل الجنابة عنكم، فلو حملنا قوله: { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَـٰنِ } على الجنابة لزم منه التكرير وأنه خلاف الأصل، ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد من قوله: { لّيُطَهّرَكُمْ } حصول الطهارة الشرعية. والمراد من قوله: { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَـٰنِ } إزالة جوهر المني عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث، ثم تقول: حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة وذلك لأن تأثير الماء في إزالة العين عن العضو تأثير حقيقي أما تأثيره في إزالة الوسوسة عن القلب فتأثير مجازي وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، واعلم أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه لزم القطع بأن المني رجز الشيطان، وذلك يوجب الحكم بكونه نجساً مطلقاً لقوله تعالى: { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } [المدثر: 5].

النوع الثالث: من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: { وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ } والمراد أن بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوف والفزع عنهم، ومعنى الربط في اللغة الشد، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى: { { وَرَابِطُواْ } [آل عمران: 200] ويقال لكل من صبر على أمر، ربط قلبه عليه كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب يقال: رجل رابط أي حابس. قال الواحدي: ويشبه أن يكون { عَلَىٰ } ههنا صلة والمعنى ـ وليربط قلوبكم بالنصر ـ وما وقع من تفسيره يشبه أن لا يكون صلة لأن كلمة { عَلَىٰ } تفيد الاستعلاء. فالمعنى أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها.

والنوع الرابع: من النعم المذكورة ههنا قوله تعالى: { وَيُثَبّتَ بِهِ ٱلاْقْدَامَ } وذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أن ذلك المطر لبد ذلك الرمل وصيره بحيث لا تغوص أرجلهم فيه، فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا، ولولا هذا المطر لما قدروا عليه، وعلى هذا التقدير، فالضمير في قوله: { بِهِ } عائد إلى المطر. وثانيها: أن المراد أن ربط قلوبهم أوجب ثبات أقدامهم، لأن من كان قلبه ضعيفاً فر ولم يقف، فلما قوى الله تعالى قلوبهم لا جرم ثبت أقدامهم، وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله: { بِهِ } عائد إلى الربط. وثالثها: روى أنه لما نزل المطر حصل للكافرين ضد ما حصل للمؤمنين، وذلك لأن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب والوحل، فلما نزل المطر عظم الوحل، فصار ذلك مانعاً لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله: { وَيُثَبّتَ بِهِ ٱلاْقْدَامَ } يدل دلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك.

النوع الخامس: من النعم المذكورة ههنا قوله: { إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ } وفيه بحثان: الأول: قال الزجاج: { إِذْ } في موضع نصب، والتقدير: وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام حال ما يوحي إلى الملائكة بكذا وكذا، ويجوز أيضاً أن يكون على تقدير اذكروا. الثاني: قوله: { إِنّى مَعَكُمْ } فيه وجهان: الأول: أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي مع الملائكة حال ما أرسلهم ردأً للمسلمين. والثاني: أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم، وهذا الثاني أولى لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار، وإنما الخائف هم المسلمون.

ثم قال: { فَثَبّتُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } واختلفوا في كيفية هذا التثبيت على وجوه: الأول: أنهم عرفوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله ناصر المؤمنين والرسول عرف المؤمنين ذلك، فهذا هو التثبيت والثاني: أن الشيطان كما يمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان، فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهام إليه فهذا هو التثبيت في هذا الباب. والثالث: أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر.

والنوع السادس: من النعم المذكورة في هذه الآية قوله: { سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } وهذا من النعم الجليلة، وذلك لأن أمر النفس هو القلب فلما بين الله تعالى أنه ربط قلوب المؤمنين بمعنى أنه قواها وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرعب والخوف في قلوب الكافرين فكان ذلك من أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين.

أما قوله تعالى: { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلاعْنَـٰقِ } ففيه وجهان: الأول: أنه أمر للملائكة متصل بقوله تعالى: { فَثَبّتُواْ } وقيل: بل أمر للمؤمنين وهذا هو الأصح لما بينا أنه تعالى ما أنزل الملائكة لأجل المقاتلة والمحاربة، واعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في حق المسلمين جميع موجبات النصر والظفر، فعند هذا أمرهم بمحاربتهم، وفي قوله: { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلاعْنَـٰقِ } قولان: الأول: أن ما فوق العنق هو الرأس، فكان هذا أمراً بإزالة الرأس عن الجسد. والثاني: أن قوله: { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلاعْنَـٰقِ } أي فاضربوا الأعناق.

ثم قال: { وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يعني الأطراف من اليدين والرجلين، ثم اختلفوا فمنهم من قال المراد أن يضربوهم كما شاؤوا، لأن ما فوق العنق هو الرأس، وهو أشرف الأعضاء، والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء، فذكر الأشرف والأخس تنبيهاً على كل الأعضاء، ومنهم من قال: بل المراد إما القتل، وهو ضرب ما فوق الأعناق أو قطع البنان، لأن الأصابع هي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة، فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة.

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه الكثيرة من النعم على المسلمين. قال: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } والمعنى: أنه تعالى ألقاهم في الخزي والنكال من هذه الوجوه الكثيرة بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله. قال الزجاج: { شَاقُّواْ } جانبوا، وصاروا في شق غير شق المؤمنين، والشق الجانب { وَشَاقُّواْ *** ٱللَّهِ } مجاز، والمعنى: شاقوا أولياء الله، ودين الله.

ثم قال: { وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } يعني أن هذا الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء قليل مما أعده الله لهم من العقاب في القيامة، والمقصود منه الزجر عن الكفر والتهديد عليه.