خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ يٰبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ
٦٧
-يوسف

الجامع لاحكام القرآن

فيه سبع مسائل:

الأولى: لما عزموا على الخروج خشي عليهم العين؛ فأمرهم ألا يدخلوا مصر من باب واحد، وكانت مصر لها أربعة أبواب؛ وإنما خاف عليهم العين لكونهم أحد عشر رجلاً لرَجُل واحد؛ وكانوا أهل جَمال وكمال وبَسْطة؛ قاله ابن عباس والضّحاك وقَتَادة وغيرهم.

الثانية: إذا كان هذا معنى الآية فيكون فيها دليل على التحرّز من العين، والعين حق؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العين لتدخِل الرجل القبر والجمل القِدر" . وفي تعوّذه عليه السلام: "أعوذ بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامَّة" ما يدلّ على ذلك. وروى مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي سهل بن حُنيف بالخرّار فنزع جُبّة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عَذْراء! فوُعك سهل مكانه واشتدّ وَعْكه، فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلاً وُعِك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله؛ فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلاَمَ يقتل أحدكم أخاه أَلاَ بَرَّكْت إنّ العين حق تَوضأْ له" فتوضأ عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس؛ في رواية «ٱغتسلْ» فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح ثم صبّ عليه؛ فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس. وركب سعد بن أبي وَقّاص يوماً فنظرت إليه ٱمرأة فقالت: إن أميركم هذا ليعلم أنه أهضم الكَشْحين؛ فرجع إلى منزله فسقط، فبلغه ما قالت المرأة، فأرسل إليها فغسلت له؛ ففي هذين الحديثين أن العين حق، وأنها تقتل كما قال (النبيّ) صلى الله عليه وسلم؛ وهذا قول علماء الأمّة، ومذهب أهل السنة؛ وقد أنكرته طوائف من المبتدعة، وهم محجوجون بالسنة وإجماع علماء هذه الأمّة، وبما يشاهد من ذلك في الوجود؛ فكم من رجل أدخلته العين القبر، وكم من جمل ظهير أدخلته القِدر، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال: { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [البقرة: 102]. قال الأصمعي: رأيت رجلاً عَيُوناً سمع بقرة تحلب فأعجبه شَخْبها فقال: أيتهنّ هذه؟ فقالوا: الفلانية لبقرة أخرى يورون عنها، فهلكتا جميعاً، المورَى بها والمورَي عنها. قال الأصمعيّ. وسمعته يقول: إذا رأيتُ الشيء يعجبني وجدتُ حرارة تخرج من عينيّ.

الثالثة: واجب على كل مسلم أعجبه شيء أن يُبَرِّك؛ فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة؛ ألا ترى قوله عليه السلام لعامر: "ألا برّكت" فدلّ على أن العين لا تضر ولا تعدو إذا بَرَّك العائن، وأنها إنما تعدو إذا لم يُبَرِّك. والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين! اللهم بارك فيه.

الرابعة: العائن إذا أصاب بعينه ولم يُبَرِّك فإنه يؤمر بالاغتسال، ويُجبر على ذلك إنْ أباه؛ لأن الأمر على الوجوب، لا سيما هذا؛ فإنه قد يخاف على ٱلمَعِين الهلاك، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به أخوه ولا يضره هو، ولا سيما إذا كان بسببه وكان الجاني عليه.

الخامسة: من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعاً لضرره؛ وقد قال بعض العلماء: يأمره الإمام بلزوم بيته؛ وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم به، ويكفّ أذاه عن الناس. وقد قيل: إنه يُنفى؛ وحديث مالك الذي ذكرناه يرد هذه الأقوال؛ فإنه عليه السلام لم يأمر في عامر بحبس ولا بنفي، بل قد يكون الرجل الصالح عائناً، وأنه لا يقدح فيه ولا يفسّق به؛ ومن قال: يحبس ويؤمر بلزوم بيته. فذلك ٱحتياط ودفع ضرر، والله أعلم.

السادسة: روى مالك عن حميد بن قيس المكّي أنه قال: "دُخِل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب فقال لحاضنتهما: ما لي أراهما ضَارِعَين فقالت حاضنتهما: يا رسول الله! إنه تسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نَسْتَرْقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ٱسْتَرْقُوا لهما فإنه لو سبق شيء القدَر سبقته العين" . وهذا الحديث منقطع، ولكنه محفوظ لأسماء بنت عُمَيس الْخَثْعمية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة متصلة صحاح؛ وفيه أن الرُّقَى مما يُستَدفع به البلاء، وأن العين تؤثر في الإنسان وتَضْرَعه، أي تضعفه وتنحله؛ وذلك بقضاء الله تعالى وقدره. ويقال: إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار، والله أعلم.

السابعة: أمر صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أُمامة العائن بالاغتسال للمَعِين، وأمر هنا بالاسترقاء؛ قال علماؤنا: إنما يسترقي من العين إذا لم يعرف العائن؛ وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء على حديث أبي أمامة، والله أعلم.

قوله تعالى: { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } أي من شيء أحذره عليكم؛ أي لا ينفع الحذر مع القدر. { إِنِ ٱلْحُكْمُ } أي الأمر والقضاء. { إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي ٱعتمدت ووثقت. { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ }.]