خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ
٩٤
قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ
٩٥
فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَٱرْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٩٦
قَالُواْ يٰأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ
٩٧
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٩٨
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ
٩٩
-يوسف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ } أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، يقال: فَصَلَ فُصُولاً، وفَصَلْته فَصْلاً، فهو لازم ومتعد. { قَالَ أَبُوهُمْ } أي قال لمن حضر من قرابته ممن لم يخرج إلى مصر وهم ولد ولده: { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ }. وقد يحتمل أن يكون خرج بعض بنيه، فقال لمن بقي: «إنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ». قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف إليه، وبينهما مسيرة ثمان ليال. وقال الحسن: مسيرة عشر ليال؛ وعنه أيضاً مَسيرة شهر. وقال مالك (بن أنس) رضي الله عنه: إنما أوصل ريحه من أوصل عرش بلقيس قبل أن يرتدّ إلى سليمان عليه السلام طرفه. وقال مجاهد: هبّت ريح فصَفَقَت القميصَ فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فعند ذلك قال: «إنِّي لأَجِدُ» أي أشم؛ فهو وجود بحاسة الشم. { لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } قال ابن عباس ومجاهد: لولا أن تُسفّهون؛ ومنه قول النابغة:

إلاَّ سُليمان إذ قال المليكُ لَهُقُمْ في البرِيَّة فٱحْدُدْها عنِ الفَنَدِ

أي عن السَّفَه. وقال سعيد بن جُبير والضحاك: لولا أن تكذِّبون. والفَنَد الكذب. وقد أَفْنَد إفْنَاداً كَذَب؛ ومنه قول الشاعر:

هل في ٱفتخار الكريم من أَوَدِأَمْ هل لقول الصَّدُوقِ من فَنَدِ

أي من كذب. وقيل: لولا أن تُقبِّحون؛ قاله أبو عمرو؛ والتّفنيد التقبيح، قال الشاعر:

يا صاحبيّ دعا لوميِ وتَفْنيدِيفليس ما فاتَ مِن أمرِي بمردودِ

وقال ٱبن الأعرابي: «لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ» لولا أن تُضعِّفوا رأيي؛ وقاله ابن إسحق. والفند ضعف الرأي من كِبر. وقول رابع: تُضلِّلون، قاله أبو عبيدة. وقال الأخفش: تلوموني؛ والتفنيد اللوم وتضعيف الرأي. وقال الحسن وقَتَادة ومجاهد أيضاً: تُهرِّمون؛ وكله متقارب المعنى، وهو راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي؛ يقال: فَنَّده تفنيداً إذا أعجزه، كما قال:

أهلكنـي باللـوم والتفنِيـد

ويقال: أفند إذا تكلم بالخطأ؛ والفند الخطأ في الكلام والرأي، كما قال النابغة:

... فٱحـددهـا عـن الفَنَـدِ

أي ٱمنعها عن الفساد في العقل، ومن ذلك قيل: اللوم تفنيد؛ قال الشاعر:

يا عاذليّ دَعَا الْمَلاَمَ وأَقْصِرَاطالَ الهَوَى وأطلتما التَّفْنِيدا

ويقال: أَفْنَد فلاناً الدهرُ إذا أفسده؛ ومنه قول ابن مُقْبِل:

دَعِ الدَّهْرَ يَفْعَلْ ما أَرادَ فإنَّهُإذا كُلِّف الإفنادَ بالناسِ أَفْنَدَا

قوله تعالى: { قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ } أي لفي ذهاب عن طريق الصواب. وقال ابن عباس وابن زيد: لفي خطئِك الماضي من حبّ يوسف لا تنساه. وقال سعيد بن جُبير: لفي جنونك القديم. قال الحسن: وهذا عقوق. وقال قَتَادة وسفيان: لفي محبتك القديمة. وقيل: إنما قالوا هذا؛ لأن يوسف عندهم كان قد مات. وقيل: إن الذي قال له ذلك من بقي معه من ولده ولم يكن عندهم الخبر. وقيل: قال له ذلك من كان معه من أهله وقرابته. وقيل: بنو بنيه وكانوا صغاراً؛ فالله أعلم.

قوله تعالى: { فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ } أي على عينيه. { فَٱرْتَدَّ بَصِيراً } «أَنْ» زائدة، والبشير قيل هو شمعون. وقيل: يهوذا قال: أنا أذهب بالقميص اليوم كما ذهبت به مُلَطَّخاً بالدّم؛ قاله ابن عباس. وعن السدّي أنه قال لإخوته: قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص التَّرْحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفَرْحة. وقال يحيـى بن يمان عن سفيان: لما جاء البشير إلى يعقوب قال له: على أيّ دِينٍ تركت يوسف؟ قال: على الإسلام؛ قال: الآن تمت النعمة؛ وقال الحسن: لما ورد البشير على يعقوب لم يجد عنده شيئاً يُثِيبه به؛ فقال: والله ما أصبتُ عندنا شيئاً، وما خبزنا شيئاً منذ سبع ليال، ولكن هوّن الله عليك سكراتِ الموت.

قلت: وهذا الدعاء من أعظم ما يكون من الجوائز، وأفضل العطايا والذخائر. ودلّت هذه الآية على جواز البذل والهِبات عند البشائر. وفي الباب حديث كعب بن مالك ـ الطويل ـ وفيه: «فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشّرني نزعت ثوبيّ فكسوتهما إياه ببشارته» وذكر الحديث، وقد تقدّم بكماله في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، وكسوة كعب ثوبيه للبشير مع كونه ليس له غيرهما دليل على جواز مثل ذلك إذا ٱرتجى حصول ما يستبشر به، وهو دليل على جواز إظهار الفرح بعد زوال الغمّ والتّرَح. ومن هذا الباب جواز حِذَاقة الصبيان، وإطعام الطعام فيها، وقد نحر عمر بعد (حفظه) سورة «البقرة» جَزُوراً. والله أعلم.

قوله تعالى: { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ذَكَّرهم قوله: { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.

قوله تعالى: { قَالُواْ يٰأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } في الكلام حذف، التقدير: فلما رجعوا من مصر قالوا يا أبانا؛ وهذا يدلّ على أن الذي قال له: «تَاللَّهِ إنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ» بنو بنيه أو غيرهم من قرابته وأهله لا ولده؛ فإنهم كانوا غُيّبًا، وكان يكون ذلك زيادة في العقوق. والله أعلم. وإنما سألوه المغفرة، لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لم يسقط المأثم عنه إلا بإحلاله.

قلت: وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلماً في نفسه أو ماله أو غير ذلك ظالماً له؛ فإنه يجب عليه أن يَتَحَلَّل له ويخبره بالمَظْلِمة وقدرها؛ وهل ينفعه التّحليل المطلق أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينفع؛ فإنه لو أخبره بمظلِمة لها قَدْرٌ وبَالٌ ربما لم تَطب نفس المظلوم في التَّحلُّل منها. والله أعلم. وفي صحيح البخاريّ وغيره عن أبي هُريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له مَظْلِمَة لأخيه من عِرْضه أو شيءٌ فلْيحلّله منه اليوم قبل ألا يكونَ دينارٌ ولا دِرْهمٌ إن كان له عمل صالح أُخِذ منه بقدر مَظلِمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فُحمِل عليه" قال المهلَّب فقوله صلى الله عليه وسلم: «أُخذ منه بقدر مَظْلِمته» يجب أن تكون المظلمة معلومة القدر مشاراً إليها مبيّنة، والله أعلم.

قوله تعالى: { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ } قال ابن عباس: أَخَّر دعاءه إلى السَّحَر. وقال المُثَنَّى بن الصَّبَّاح عن طاوس قال: سَحَر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء. وفي دعاء الحِفِط ـ من كتاب الترمذيّ ـ "عن ابن عباس أنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فقال: ـ بأبي أنت وأمِّي ـ تَفَلَّتَ هذا القرآنُ من صدرِي، فما أجدني أقدر عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمك كلماتٍ يَنفعْكَ اللَّهُ بهنّ ويَنفعْ بهنّ من عَلَّمته ويُثبِّت ما تعلمتَ في صدرك قال: أجل يا رسول الله! فَعلَّمني؛ قال: إذا كان ليلة الجمعة فإن ٱستطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخرِ فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب وقد قال أخي يعقوب لبنيه سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي يقول حتى تأتي ليلة الجمعة" وذكر الحديث. وقال أيوب بن أبي تميمة السَّخْتِيَاني عن سعيد بن جُبير قال: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» في الليالي البيض، في الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة فإن الدعاء فيها مستجاب. وعن عامر الشّعبي قال: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» أي أسأل يوسف إن عفا عنكم ٱستغفرت لكم ربي؛ وذكر سُنَيد بن داود قال: حدّثنا هشيم قال حدّثنا عبد الرحمن بن إسحق عن محارب بن دِثَار عن عَمّه قال: كنت آتي المسجد في السَّحر فأمرُّ بدار ٱبن مسعود فأسمعه يقول: اللهم إنك أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سَحَرٌ فٱغفر لي، فلقيت ٱبن مسعود فقلت: كلمات أسمعك تقولهنّ في السحر؟ فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السَّحَر بقوله: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي».

قوله تعالى: { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ } أي قَصْراً كان له هناك. { آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } قيل: إن يوسف بعث مع البشير مائتي راحلة وجهازاً، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده جميعاً؛ فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه، أي ضمّ؛ ويعني بأبويه أباه وخالته، وكانت أمّه قد ماتت في ولادة أخيه بنيامين. وقيل: أحيا الله (له) أمّه تحقيقاً للرؤيا حتى سجدت له، قاله الحسن؛ وقد تقدّم في «البقرة» أن الله تعالى أحيا لنبيه عليه السلام أباه وأمه فآمنا به.

قوله تعالى: { ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } قال ٱبن جريج: أي سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله؛ قال: وهذا من تقديم القرآن وتأخيره؛ قال النحاس: يذهب ٱبن جُرَيج إلى أنهم قد دخلوا مصر فكيف يقول: «ٱدْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ». وقيل: إنما قال: «إنْ شَاءَ اللَّهُ» تَبَرُّكاً وجَزْماً. «آمنين» من القَحْط، أو من فرعون؛ وكانوا لا يدخلونها إلا بجوازه.