خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً
١٥
-الإسراء

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي إنما كلّ أحد يحاسب عن نفسه لا عن غيره؛ فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضلّ فعقاب كفره عليه. { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } تقدّم في الأنعام. وقال ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال لأهل مكة: اتبعوني وٱكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم، فنزلت هذه الآية؛ أي إن الوليد لا يحمل آثامكم وإنما إثم كل واحد عليه. يقال: وَزَرَ يزِرِ وَزْرا ووِزْرَة، أي أثِم. والوِزر: الثِّقْل المثقِل والجمع أوزار؛ ومنه { يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ } [الأنعام: 31] أي أثقال ذنوبهم. وقد وَزَر إذا حَمَل فهو وازر؛ ومنه وزير السلطان الذي يحمل ثِقْل دولته. والهاء في قوله كناية عن النفس، أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، حتى أن الوالدة تَلْقي ولدها يوم القيامة فتقول: يا بني ألم يكن حجري لك وِطاء، ألم يكن ثديي لك سِقاء، ألم يكن بطني لك وعاء،! فيقول: بلى يا أُمّه فتقول: يا بني فإن ذنوبي أثقلتني فٱحمل عني منها ذنباً واحدا فيقول: إليك عني يا أمّه! فإني بذنبي عنكِ اليوم مشغول.

مسألة ـ نزعت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية في الردّ على ابن عمر حيث قال: إن الميت ليعَذَّبُ ببكاء أهله. قال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنه لم تسمعه، وأنه معارض للآية. ولا وجه لإِنكارها، فإن الرواة لهذا المعنى كثير؛ كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة وقَيْلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية؛ فلا وجه لتخطئتهم. ولا معارَضة بين الآية والحديث؛ فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصيّة الميت وسنته، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طَرَفة:

إذا مِتّ فانعيني بما أنا أهلهوشُقّي عليّ الجيب يا بنت مَعْبَدِ

وقال:

إلى الحَوْل ثم ٱسم السلام عليكماومن يَبْك حولاً كاملاً فقد اعتذر

وإلى هذا نحا البخاري. وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم داود إلى اعتقاد ظاهر الحديث، وأنه إنما يعذَّب بنَوْحِهم؛ لأنه أهمل نهيهَم عنه قبل موته وتأديبَهم بذلك، فيعذَّب بتفريطه في ذلك؛ وبترك ما أمره الله به من قوله: { { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم: 6] لا بذنب غيره، والله أعلم.

قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } أي لم نترك الخلق سُدًى، بل أرسلنا الرسل. وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، خلافاً للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحظر. وقد تقدّم في البقرة القول فيه. والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا؛ أي أن الله لا يهلك أمة بعذابٍ إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار. وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌقَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا } }. [الملك: 8] قال ابن عطية: والذي يعطيه النظر أن بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبَثّ المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفِطَر توجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد غرق الكفار. وهذه الآية أيضاً يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة، وهم أهل الفَتَرات الذين قد قدّر وجودَهم بعضُ أهل العلم. وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح، ولا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. قال المهدوِيّ: وروي عن أبي هريرة أن الله عز وجل يبعث يوم القيامة رسولاً إلى أهل الفترة والأبكم والأخرس والأصم؛ فيطيعه منهم من كان يريد أن يطيعه في الدنيا، وتلا الآية؛ رواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة، ذكره النحاس.

قلت: هذا موقوف، وسيأتي مرفوعاً في آخر سورة طه إن شاء الله تعالى؛ ولا يصح وقد استدلّ قوم في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام وآمنوا فلا تكليف عليهم فيما مضى؛ وهذا صحيح، ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل، والله أعلم.