خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً
٢٣
وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً
٢٤
-الإسراء

الجامع لاحكام القرآن

فيـه ست عشرة مسألة:

الأولى ـ { وَقَضَىٰ } أي أمر وألزم وأوجب. قال ابن عباس والحسن وقتادة: وليس هذا قضاء حُكْم بل هو قضاء أمر. وفي مصحف ابن مسعود «ووصَّى» وهي قراءة أصحابه وقراءة ابن عباس أيضاً وعليّ وغيرهما، وكذلك عند أُبَيّ بن كعب. قال ابن عباس: إنما هو «ووصى ربك» فالتصقت إحدى الواوين فقرئت «وقضى ربك» إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد. وقال الضحاك: تصحفت على قوم «وصى بقضى» حين اختلطت الواو بالصاد وقت كَتْب المصحف. وذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثلَ قول الضحاك. وقال عن ميمون بن مهْران أنه قال: إن على قول ابن عباس لنورا؛ قال الله تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } ثم أبى أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك. وقال: لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا، ثم قال علماؤنا المتكلمون وغيرهم القضاء يستعمل في اللغة على وجوه: فالقضاء بمعنى الأمر؛ كقوله تعالى: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } معناه أمر. والقضاء بمعنى الخلق؛ كقوله تعالى: { { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 12] يعني خلقهن. والقضاء بمعنى الحكم؛ كقوله تعالى: { { فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } [طه: 72] يعني احكم ما أنت تحكم. والقضاء بمعنى الفراغ؛ كقوله: { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [يوسف: 41] أي فُرغ منه؛ ومنه قوله تعالى { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ } [البقرة: 200]. وقوله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ } [الجمعة: 10]. والقضاء بمعنى الإرادة؛ كقوله تعالى: { { إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 47]. والقضاء بمعنى العهد؛ كقوله تعالى: { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ } [القصص: 44].

فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله؛ لأنه إن أريد به الأمر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك، لأن الله تعالى لم يأمر بها، فإنه لا يأمر بالفحشاء. وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن فقال إنه طلّق امرأته ثلاثا. فقال: إنك قد عصيت ربك وبانَتْ منك. فقال الرجل: قضى الله ذلك علي فقال الحسن وكان فصيحاً: ما قضى الله ذلك! أي ما أمر الله به، وقرأ هذه الآية: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ }.

الثانية ـ أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل برّ الوالدين مقروناً بذلك، كما قَرَن شكرهما بشكره فقال: «وقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاّ إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً». وقال: { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [لقمان: 14]. وفي صحيح البخاريّ "عن عبد الله قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أيّ العمل أحبّ إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها قال: ثم أيّ؟ قال: ثم بِرُّ الوالدين قال ثم أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله" فأخبر صلى الله عليه وسلم أن برّ الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام. ورتّب ذلك بـ «ـثُمّ» التي تعطي الترتيب والمهلة.

الثالثة ـ من البِرِّ بهما والإحسانِ إليهما ألاّ يتعرض لسَبّهما ولا يَعقُهُّما؛ فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف، وبذلك وردت السنة الثابتة؛ ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الكبائر شَتْمَ الرجلِ والديه قالوا: يا رسول الله، وهل يَشْتُم الرجل والديه؟ قال نعم. يسبّ الرجلُ أبا الرجل فيَسُبّ أباه ويَسُبُّ أمَّه فيسب أمّه" .

الرابعة ـ عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما؛ كما أن بِرَّهما موافقتهما على أغراضهما. وعلى هذا إذا أمرا أو أحدُهما ولدَهما بأمر وجبت طاعتهما فيه، إذا لم يكن ذلك الأمر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباح في أصله، كذلك إذا كان من قبيل المندوب. وقد ذهب بعض الناس إلى أن أَمَرَهما بالمباح يصيّره في حق الولد مندوباً إليه وأمرُهما بالمندوب يزيده تأكيداً في نَدْبيّته.

الخامسة ـ روى الترمذي "عن ابن عمر قال: كانت تحتي امرأة أحبّها، وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبَيْتُ، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبد الله بن عمر طَلّق امرأتك" . قال هذا حديث حسن صحيح.

السادسة ـ روى الصحيح عن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: مَن أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمُّك قال: ثم مَن؟ قال: ثم أمُّك قال: ثم من؟ قال: ثم أمك قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك" . فهذا الحديث يدلّ على أن محبة الأم والشفقةَ عليها ينبغي أن تكون ثلاثةَ أمثال محبة الأب؛ لذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم الأمَّ ثلاث مرات وذِكْرِ الأب في الرابعة فقط. وإذا توصّل هذا المعنى شهد له العِيان. وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب؛ فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب. ورُوي عن مالك أن رجلاً قال له: إن أبي في بلد السودان، وقد كتب إليّ أن أقدَم عليه، وأمِّي تمنعني من ذلك؛ فقال له: أطع أباك، ولا تَعْص أمك. فدلّ قول مالك هذا أن بِرّهما متساوٍ عنده. وقد سئل الليث عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم؛ وزعم أن لها ثلثي البر. وحديث أبي هريرة يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر؛ وهو الحجة على من خالف. وقد زعم المحاسِبِي في (كتاب الرعاية) له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثةَ أرباع البر وللأب الربع؛ على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والله أعلم.

السابعة ـ لا يختص بِرّ الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافِرَين يَبَرّهما ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد؛ قال الله تعالى: { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ } [الممتحنة: 8]. وفي صحيح البخارِيّ "عن أسماء قالت: قَدِمتْ أمّي وهي مشركة في عهد قريش ومدّتهم إذ عاهدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمّي قَدِمت وهي راغبة أفأصِلُها؟ قال: نعم صِليِ أمَّكِ" . وروي أيضاً "عن أسماء قالت: أتتني أميّ راغبة في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ قال: نعم" . قال ٱبن عُيينة: فأنزل الله عز وجل فيها: { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ } [الممتحنة: 8] الأوّل معلّق والثاني مسند.

الثامنة ـ من الإحسان إليهما والبِرّ بهما إذا لم يتعيّن الجهاد ألاّ يجاهد إلا بإذنهما. روى الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال: "جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: أحَيٌّ والداك؟ قال نعم. قال: ففيهما فجاهد" . لفظ مسلم. في غير الصحيح قال: نعم؛ وتركتهما يبكيان. قال: "اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما" . وفي خبر آخر أنه قال: "نومك مع أبويك على فراشهما يضاحكانك ويلاعبانك أفضل لك من الجهاد معي" . ذكره ٱبن خُوَيْز منداد. ولفظ البخارِيّ في كتاب بِرّ الوالدين: أخبرنا أبو نعيم أخبرنا سفيان عن عطاء بن السَّائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: "جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وتَرَكَ أبويه يبكيان فقال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما" . قال ابن المنذر: في هذا الحديث النّهيُ عن الخروج بغير إذن الأبوين ما لم يقع النَّفِير؛ فإذا وقع وجب الخروج على الجميع. وذلك بَيِّنٌ في حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيش الأمراء...؛ فذكر قصة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وابن رَوَاحة وأن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بعد ذلك: أن الصلاة جامعة؛ فٱجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس، ٱخرجوا فأمِدّوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد" فخرج الناس مشاةً وركباناً في حَرٍّ شديد. فدلّ قوله "ٱخرجوا فأمدوا إخوانكم" أن العذر في التخلف عن الجهاد إنما هو ما لم يقع النفير؛ مع قوله عليه السلام: "فإذا استنفرتم فانْفُروا"

قلت: وفي هذه الأحاديث دليل على أن الفروض أو المندوبات متى اجتمعت قُدّم الأهم منها. وقد استوفى هذا المعنى المحاسبيُّ في كتاب الرعاية.

التاسعة ـ واختلفوا في الوالدين المشركَيْن هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية؛ فكان الثَّوْرِيّ يقول: لا يغزو إلا بإذنهما. وقال الشافعيّ: له أن يغزو بغير إذنهما. قال ابن المنذر: والأجداد آباء، والجدّات أمهات فلا يغزو المرء إلا بإذنهم، ولا أعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الإخوة وسائر القرابات. وكان طاوس يرى السّعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل.

العاشرة ـ من تمام بِرِّهما صِلة أهل وُدِّهما؛ ففي الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من أبَرّ البر صلَة الرجل أهل وُدّ أبيه بعد أن يُوَلِّيَ" . "وروى أبو أسَيد وكان بَدْرِيًّا قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم جالساً فجاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر والدَيّ من بعد موتهما شيء أبَرّهما به؟ قال: نعم. الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهذا الذي بقي عليك" . وكان صلى الله عليه وسلم يُهدي لصدائق خديجة بِرًّا بها ووفاء لها وهي زوجته، فما ظنّك بالوالدين.

الحادية عشرة ـ قوله تعالى: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } خصّ حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بِرّه لتغيّر الحال عليهما بالضّعف والكبر؛ فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كَلاًّ عليه، فيحتاجان أن يَلِيَ منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يلِيَا منه؛ فلذلك خصّ هذه الحالة بالذكر. وأيضاً فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالّة البنوّة وقلّة الديانة، وأقلّ المكروه ما يظهره بتنفسه المتردَّد من الضجر. وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب فقال: «فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً». روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أنْفُه رغم أنفه رغم أنفه قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: مَن أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلَيْهما ثم لم يدخل الجنة" . وقال البخاري في كتاب بر الوالدين: حدّثنا مسدّد حدّثنا بشر بن المفضل حدّثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي سعيد المَقْبُرِيّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:

"رَغِم أنف رجل ذُكرت عنده فلم يصلّ عليّ. رَغِمَ أنفُ رجل أدرك أبويه عند الكبر أو أحدَهما فلم يدخلاه الجنة. ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم ٱنسلخ قبل أن يُغفر له" . حدّثنا ٱبن أبي أُوَيْس حدّثني أخي عن سليمان بن بلال عن محمد بن هلال عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة السالميّ عن أبيه رضي الله عنه قال: إن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه قال قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أحضروا المنبر فلما خرج رَقِيَ (إلى) المنبر، فرقي في أوّل درجة منه قال آمين ثم رقي في الثانية فقال آمين ثم لما رقي في الثالثة قال آمين، فلما فرغ ونزل من المنبر قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه منك؟ قال: وسمعتموه؟ قلنا نعم. قال: إن جبريل عليه السلام اعترض قال: بَعُد من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت آمين فلما رَقِيت في الثانية قال بَعُدَ من ذُكرتَ عنده فلم يصل عليك فقلت آمين فلما رقيت في الثالثة قال بَعُدَ من أدرك عنده أبواه الكبرَ أو أحدُهما فلم يُدخلاه الجنة قلت آمين" . حدّثنا أبو نعيم حدّثنا سلمة بن وردان سمعت أنساً رضي الله عنه يقول: "ارتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر درجة فقال آمين ثم ارتقى درجة فقال آمين ثم ارتقى الدرجة الثالثة فقال آمين، ثم استوى وجلس فقال أصحابه: يا رسول الله، علام أمّنت؟ قال: أتاني جبريل عليه السلام فقال رَغِم أنف من ذُكرتَ عنده فلم يصلّ عليك فقلت آمين ورغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخل الجنة فقلت آمين" الحديث. فالسعيد الذي يبادر اغتنام فرصة بِرّهما لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك. والشقيّ من عقّهما، لا سيما من بلغه الأمر ببرّهما.

الثانية عشرة ـ قوله تعالى: { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرّم. وعن أبي رجاء العُطَارِدِيّ قال: الأُفُّ الكلام القَذَع الرديء الخفيّ. وقال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيَخ الغائطَ والبول الذي رأياه منك في الصغر فلا تَقْذَرْهما وتقول أُفّ. والآية أعمّ من هذا. والأُفّ والتُّفّ وسخ الأظفار. ويقال لكل ما يُضجر ويستثقل: أفّ له. قال الأزهري: والتُّفّ أيضاً الشيء الحقير. وقرىء «أُفٍّ» منوّناً مخفوضاً؛ كما تُخفض الأصوات وتُنَوّن، تقول: صَهٍ ومهٍ. وفيه عشر لغات: أفَّ، وأفُّ، وأفِّ، وأُفًّا وأُفٍّ، وأُفٌّ، وأُفَّهْ، وإفْ لك (بكسر الهمزة)، وأُفْ (بضم الهمزة وتسكين الفاء)، وأُفًا (مخففة الفاء). وفي الحديث: "فألقى طرف ثوبه على أنفه ثم قال أف أف" . قال أبو بكر: معناه استقذار لما شَمّ. وقال بعضهم: معنى أف الاحتقار والاستقلال؛ أُخذ من الأَفَف وهو القليل. وقال القُتَبِيّ: أصله نفخك الشيء يَسقط عليك من رماد وتراب وغير ذلك، وللمكان تريد إماطة شيء لتقعد فيه؛ فقيلت هذه الكلمة لكل مستثقل. وقال أبو عمرو بن العَلاء: الأفّ وسخ بين الأظفار، والتُّفّ قُلامتها. وقال الزجاج: معنى أف النّتْن. وقال الأصْمَعِيّ: الأف وسخ الأذن، والتّف وسخ الأظفار؛ فكثر استعماله حتى ذكر في كل ما يُتأذَّى به. وروي من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو علم الله من العقوق شيئاً أردأ من أف لذكره فليعمل البارّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار. وليعمل العاقّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة" . قال علماؤنا: وإنما صارت قوله «أف» للأبوين أردأ شيء لأنه رفضهما رفض كفر النعمة، وجحد التربية وردّ الوصية التي أوصاه في التنزيل. و «أفّ» كلمة مقولة لكل شيء مرفوض؛ ولذلك قال إبراهيم لقومه: { { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [الأنبياء: 67] أي رَفْض لكم ولهذه الأصنام معكم.

الثالثة عشرة ـ قوله تعالى: { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } النَّهْر: الزجر والغِلظة. { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } أي لَيِّناً لطيفاً، مثل: يا أبتاه ويا أمّاه، من غير أن يسميهما أو يُكَنِّيهما؛ قاله عطاء. وقال أبو الهدّاج التُّجِيبيّ: قلت لسعيد بن المسيّب كلّ ما في القرآن من برّ الوالدين قد عرفته إلا قول: { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيّب: قولُ العبد المذنب للسيد الفَظّ الغليظ.

الرابعة عشرة ـ قوله تعالى: { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلّل الرعية للأمير والعبيد للسادة؛ كما أشار إليه سعيد بن المسيّب. وضَربَ خَفْضَ الجناح ونصبه مثلاً لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده. والذل: هو اللين. وقراءة الجمهور بضم الذال، من ذَلّ يَذِل ذُلاًّ وذِلّة ومَذلة فهو ذالّ وذليل. وقرأ سعيد بن جُبير وابن عباس وعروة بن الزبير «الذِّل» بكسر الذال، ورُويت عن عاصم؛ من قولهم: دابّة ذَلول بينة الذِّل. والذِّل في الدواب المنقاد السهل دون الصعب. فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذِلة، في أقواله وسكناته ونظره، ولا يُحِدّ إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب.

الخامسة عشرة ـ الخطاب في هذه الآية للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته؛ إذ لم يكن له عليه السلام في ذلك الوقت أبوان. ولم يذكر الذلّ في قوله تعالى: { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِين } َ } [الشعراء: 215] وذكره هنا بحسب عظم الحق وتأكيده. و «مِن» في قوله: { مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } لبيان الجنس، أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنّة في النفس، لا بأن يكون ذلك استعمالاً. ويصح أن يكون لانتهاء الغاية، ثم أمر تعالى عباده بالترحّم على آبائهم والدعاء لهم، وأنْ ترحمهما كما رحماك وتَرْفُق بهما كما رَفَقا بك؛ إذ وَلِيَاك صغيراً جاهلاً محتاجاً فآثراك على أنفسهما، وأسهرا ليلهما، وجاعا وأشبعاك، وتعرّيا وكَسَواك، فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحدَّ الذي كنت فيه من الصغر، فتَلي منهما ما وَلِيَا منك، ويكون لهما حينئذ فضل التقدّم. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يَجْزِي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشترِيَه فيُعْتِقه" . وسيأتي في سورة «مريم» الكلام على هذا الحديث.

السادسة عشرة ـ قوله تعالى: { كَمَا رَبَّيَانِي } خصّ التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقاً لهما وحناناً عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين. وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قُرْبَى، كما تقدم. وذُكر عن ابن عباس وقتادة أن هذا كله منسوخ بقوله: { { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 113] ـ إلى قوله ـ أصْحَابُ الجحِيم» فإذا كان والدا المسلم ذِمِّيّيْن استعمل معهما ما أمره الله به هاهنا؛ إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر؛ لأن هذا وحده نسخ بالآية المذكورة. وقيل: ليس هذا موضع نسخ، فهو دعاء بالرحمة الدنيوية للأبوين المشركين ما داما حيّين، كما تقدم. أو يكون عموم هذه الآية خُصّ بتلك، لا رحمة الآخرة، لا سيما وقد قيل إن قوله: { وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا } نزلت في سعد بن أبي وَقّاص، فإنه أسلم، فألقت أمُّه نفسها في الرّمْضَاء متجرِّدة، فذكر ذلك لسعد فقال: لِتَمُت، فنزلت الآية. وقيل: الآية خاصة في الدعاء للأبوين المسلمين. والصواب أن ذلك عموم كما ذكرنا، وقال ابن عباس قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من أمسى مُرْضِياً لوالدَيْه وأصبح أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة وإن واحداً فواحداً. ومن أمسى وأصبح مُسْخطاً لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار وإن واحداً فواحداً" فقال رجل: يا رسول الله، وإن ظلماه؟ قال: "وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه" . وقد روينا بالإسناد المتصل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: "جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للرجل: فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمِعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما بال ٱبنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقه إلا على إحدى عمّاته أو خالاته أو على نفسي! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيهِ، دعنا من هذا. أخبرني عن شيء قلتَه في نفسك ما سمِعَتْه أذناك؟ فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقينا، لقد قلتُ في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي. قال: قل وأنا أسمع قال قلت:"

غَذَوْتُكَ مولودا ومُنْتُك يافِعاتُعَلّ بما أجْنِي عليك وتُنْهَلُ
إذا ليلةٌ ضافَتك بالسُّقم لم أَبِتْلسُقْمك إلا ساهراً أتململُ
كأني أنا المطروق دونك بالذيطُرِقتَ به دوني فَعَيْنِيَ تَهْمُلُ
تخاف الرَّدَى نفسي عليك وإنهالتعلم أن الموت وقتٌ مؤجل
فلما بلغتَ السنّ والغايةَ التيإليها مَدَى ما كنتُ فيك أؤمّلُ
جعلتَ جزائِي غِلظة وفظاظةكأنك أنت المُنْعِمُ المتفضِّلُ
فليتَك إذ لم تَرْعَ حقّ أبوّتيفعلتَ كما الجار المُصَاقِب يفعل
فأوْليتني حقّ الجِوار ولم تكنعليّ بمال دون مالك تَبْخَلُ

" قال: فحينئذ أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بتلابيب ٱبنه وقال: أنت ومالك لأبيك" . قال الطبراني: اللَّخْمِيُّ لا يروى ـ يعني هذا الحديث ـ عن ابن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الإسناد؛ وتفرّد به عبيد الله بن خلصة. والله أعلم.