خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
٣٦
-الإسراء

الجامع لاحكام القرآن

فيه ست مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَلاَ تَقْفُ } أي لا تتبع ما لا تعلم ولا يَعْنِيكَ. قال قتادة: لا تقل رأيتُ وأنت لم تر، وسمعتُ وأنت لم تسمع، وعلمتُ وأنت لم تعلم؛ وقاله ابن عباس رضي الله عنهما. قال مجاهد: لا تَذُمّ أحداً بما ليس لك به علم؛ وقاله ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً. وقال محمد بن الحنفية: هي شهادة الزور. وقال القُتَبِيّ: المعنى لا تتبع الحَدْس والظنون؛ وكلها متقاربة. وأصل القَفْو البُهْتُ والقذفُ بالباطل؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "نحن بنو النضر بن كنانة لا نَقفو أُمَّنا ولا ننتفي من أبينا" أي لا نَسُبّ أمنا. وقال الكُمَيت:

فلا أرمي البريء بغير ذنبولا أَقْفُو الحواصن إن قُفينا

يقال: قَفَوْتُه أقْفُوه، وقُفْتُه أَقُوفُه، وقَفّيته إذا ٱتّبَعت أثره. ومنه القافة لتتبعهم الآثار وقافية كلِّ شيء آخره، ومنه قافية الشِّعر؛ لأنها تقفو البيت. ومنه ٱسم النبيّ صلى الله عليه وسلم المُقَفِّي؛ لأنه جاء آخر الأنبياء. ومنه القائف، وهو الذي يتبع أثر الشّبَه. يقال: قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك. وتقول: فَقَوْت الأثر، بتقديم الفاء على القاف. ابنُ عطية: ويشبه أن يكون هذا من تلعّب العرب في بعض الألفاظ، كما قالوا: رَعَمْلي في لَعَمْرِي. وحكى الطبريّ عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عتا وعات. وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثلُ جَبَذ وجَذَب. وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة. وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي «تَقُفْ» بضم القاف وسكون الفاء. وقرأ الجراح «والفَآد» بفتح الفاء، وهي لغة لبعض الناس، وأنكرها أبو حاتم وغيره.

الثانية: قال ابن خُوَيْزِمنداد: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة؛ لأنه لما قال: «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» دلَّ على جواز ما لنا به علم، فكلّ ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به، وبهذا احتججنا على إثبات القُرْعة والخَرْص؛ لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يُسَمَّى علماً ٱتساعاً. فالقائف يُلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. وفي الصحيح عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليّ مسروراً تَبْرُق أسارير وجهه فقال: "ألم تَرَىْ أن مُجَزِّزاً نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة قد غَطّيا رؤوسهما وبَدَتْ أقدامهما فقال إن بعض هذه الأقدام لَمن بعض" . وفي حديث يونس بن يزيد: "وكان مُجَزِّز قائفاً" .

الثالثة: قال الإمام أبو عبد الله المازَرِي: كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيضَ من القطن، هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. قال القاضي عِيَاض: وقال غير أحمد كان زيد أزهرَ اللون، وكان أسامة شديد الأُدْمة؛ وزيد بن حارثة عربيّ صريح من كَلْب، أصابه سِباء، حسبما يأتي في سورة «الأحزاب» إن شاء الله تعالى.

الرابعة: استدل جمهور العلماء على الرجوع إلى القافة عند التنازع في الولد، بسرور النبيّ صلى الله عليه وسلم بقول هذا القائف؛ وما كان عليه السلام بالذي يُسَرّ بالباطل ولا يعجبه. ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة وإسحاق والثّوْرِيّ وأصحابهم متمسّكين بإلغاء النبيّ صلى الله عليه وسلم الشبه في حديث اللّعان: على ما يأتي في سورة «النور» إن شاء الله تعالى.

الخامسة: واختلف الآخذون بأقوال القافة، هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء أو يختص بأولاد الإماء، على قولين؛ فالأوّل: قول الشافعيّ ومالك رضي الله عنهما في رواية ابن وهب عنه، ومشهورُ مذهبه قَصْرُه على ولد الأَمَة. والصحيح ما رواه ابن وهب عنه وقاله الشافعيّ رضي الله عنه؛ لأن الحديث الذي هو الأصل في الباب إنما وقع في الحرائر، فإن أسامة وأباه حُرّان فكيف يُلْغَى السبب الذي خُرّج عليه دليل الحكم وهو الباعث عليه، هذا مما لا يجوز عند الأصوليين. وكذلك اختلف هؤلاء، هل يكتفَى بقول واحد من القافة أو لا بُدّ من اثنين لأنها شهادة؛ وبالأوّل قال ابن القاسم وهو ظاهر الخبر بل نصّه. وبالثاني قال مالك والشافعيّ رضي الله عنهما.

السادسة: قوله تعالى: { إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } أي يسأل كل واحد منهم عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما ٱفتكر فيه واعتقده، والسمع والبصر عما رأى من ذلك وسمع. وقيل: المعنى أن الله سبحانه وتعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده؛ ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "كلّكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته" فالإنسان راع على جوارحه؛ فكأنه قال كل هذا كان الإنسان عنه مسؤولا، فهو على حذف مضاف. والمعنى الأول أبلغ في الحجة؛ فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي؛ كما قال: { { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يۤس: 65]، وقوله: { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [فصلت: 20]. وعبّر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها بأولئك. وقال سيبويهرحمه الله في قوله تعالى: { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } إنما قال: «رأيتهم» في نجوم، لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل مَن يعقل عبّر عنها بكناية مَن يعقل؛ وقد تقدّم. وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري:

ذُمّ المنازل بعد منزلة اللِّوَىوالعيش بعد أولئك الأيام

وهذا أمر يوقف عنده. وأما البيت فالرواية فيه «الأقوام» والله أعلم.