خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً
٦٤
-الإسراء

الجامع لاحكام القرآن

فيه ست مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَٱسْتَفْزِزْ } أي استزلّ واستخفّ، وأصله القطع، ومنه تفزّز الثوب إذا انقطع. والمعنى استزِلّه بقطعك إياه عن الحق. واستفزّه الخوف أي استخفه. وقعد مُسْتَوْفِزاً أي غير مطمئن. «وٱسْتَفْزِز» أمر تعجيز، أي أنت لا تقدر على إضلال أحد، وليس لك على أحد سلطان فافعل ما شئت.

الثانية: قوله تعالى: { بِصَوْتِكَ } وصوتُه كلُّ داع يدعو إلى معصية الله تعالى، عن ابن عباس. مجاهد: الغناء والمزامير واللهو. الضحاك: صوت المزمار. وكان آدم عليه السلام أسكن أولاد هابيل أعلى الجبل، وولد قابيل أسفله، وفيهم بنات حسان، فزَمَر اللعين فلم يتمالكوا أن انحدروا فزَنَوا، ذكره الغزنوِيّ. وقيل: «بصوتك» بوسوستك.

الثالثة: قوله تعالى: { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } أصل الإجلاب السوقُ بجلبة من السائق، يقال: أجلب إجلابا. والجَلَب والجَلَبة: الأصوات، تقول منه: جلّبوا بالتشديد. وجَلَب الشيء يجلِبه ويجلُبه جَلَباً وجَلْبا. وجلبت الشيء إلى نفسي واجتلبته بمعنًى. وأجلب على العدوّ إجلاباً، أي جمّع عليهم. فالمعنى أجمع عليهم كلما تقدر عليه من مكايدك. وقال أكثر المفسرين: يريد كل راكب وماشٍ في معصية الله تعالى. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: إن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس، فما كان من راكب وماشٍ يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ورجّالته. وروى سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس قال: كل خيل سارت في معصية الله، وكل رجل مَشَتْ في معصية الله، وكلّ مال أصيب من حرام، وكلّ ولد بَغِيّة فهو للشيطان. والرَّجْل جمع راجل، مثلُ صَحْب وصاحب. وقرأ حفص «ورَجِلك» بكسر الجيم وهما لغتان، يقال: رَجْل ورَجِل بمعنى راجل. وقرأ عكرمة وقتادة «ورجالك» على الجمع.

الرابعة: { وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ } أي اجعل لنفسك شركة في ذلك. فشركته في الأموال إنفاقها في معصية الله، قاله الحسن. وقيل: هي التي أصابوها من غير حِلّها، قاله مجاهد. ابن عباس: ما كانوا يحرّمونه من البَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحام. وقاله قتادة. الضحاك: ما كانوا يذبحونه لآلهتهم. والأولاد قيل: هم أولاد الزنى، قاله مجاهد والضحاك وعبد الله بن عباس. وعنه أيضاً هو ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم. وعنه أيضاً: هو تسميتهم عبد الحارث وعبد العُزَّى وعبد الّلات وعبد الشمس ونحوه. وقيل: هو صِبغة أولادهم في الكفر حتى هوّدوهم ونصّروهم، كصنع النصارى بأولادهم بالغمس في الماء الذي لهم، قاله قتادة. وقول خامس ـ روي عن مجاهد قال: إذا جامع الرجل ولم يُسَمِّ انطوى الجانّ على إحْلِيله فجامع معه، فذلك قوله تعالى: { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } وسيأتي. "وروي من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فيكم مُغَرِّبين قلت: يا رسول الله، وما المغرّبون؟ قال: الذين يشترك فيهم الجن" . رواه الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول). قال الهَرَوِيّ: سموا مغرِّبين لأنه دخل فيهم عرق غريب. قال الترمذي الحكيم: فللجن مساماة بابن آدم في الأمور والاختلاط، فمنهم من يتزوّج فيهم، وكانت بِلْقِيس ملكة سَبَأ أحد أبويها من الجن. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

الخامسة: قوله تعالى: { وَعِدْهُمْ } أي مَنّهم الأماني الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب، وأنه إن كان حساب وجنة ونار فأنتم أوْلى بالجنة من غيركم. يقوّيه قوله تعالى: { { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } [النساء: 120] أي باطلاً. وقيل «وَعدْهُمْ» أي عِدهم النُّصرة على من أرادهم بسوء. وهذا الأمر للشيطان تهدّد ووعيد له. وقيل: استخفاف به وبمن ٱتبعه.

السادسة: في الآية ما يدلّ على تحريم المزامير والغناء واللّهو، لقوله: { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم } على قول مجاهد. وما كان من صوت الشيطان أو فعلِه وما يستحسنه فواجب التنزه عنه. وروى نافع عن ابن عمر أنه سمع صوت زمّارة فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع! أتسمع؟ فأقول نعم، فمضى حتى قلت له لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع (صوت) زمّارة راع فصنع مثل هذا. قال علماؤنا: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة «لقمان» إن شاء الله تعالى.