خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً
٢٩
-الكهف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } «الحقّ» رفع على خبر الابتداء المضمر؛ أي قل هو الحق. وقيل: هو رفع على الابتداء، وخبره في قوله «من ربكم». ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس! من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر، ليس إليّ من ذلك شيء، فالله يؤتي الحق من يشاء وإن كان ضعيفاً، ويحرمه من يشاء وإن كان قويّاً غنيّاً، ولست بطارد المؤمنين لهواكم؛ فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا. وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد. أي إن كفرتم فقد أعدّ لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة.

قوله تعالى: { إِنَّا أَعْتَدْنَا } أي أعددنا. { لِلظَّالِمِينَ } أي للكافرين الجاحدين. { نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } قال الجوهري: السُّرادق واحد السُّرادقات التي تمدّ فوق صحن الدار. وكل بيت من كرسف فهو سرادق. قال رؤبة:

يا حَكَمُ بنَ المنذر بن الجارُودْسُرادِقُ المجد عليك مَمْدُودْ

يقال: بيت مُسردَق. وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفِيَلة:

هو المْدخِل النعمانَ بيتاً سماؤهصُدورُ الفيولِ بعد بَيتٍ مَسَرْدَقِ

وقال ابن الأعرابي: «سرادقها» سورها. وعن ابن عباس: حائط من نار. الكلبي: عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة. القتبيّ: السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط. وقاله ابن عزيز. وقيل: هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله تعالى في سورة «والمرسلات» حيث يقول: { { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } [المرسلات: 30] وقوله: { { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } [الواقعة: 43] قاله قتادة. وقيل: إنه البحر المحيط بالدنيا. وروى يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البحر هو جهنم ـ ثم تلا ـ ناراً أحاط بهم سُرَادقها ـ ثم قال: والله لا أدخلها أبداً ما دمت حياً ولا يصيبني منها قطرة" ذكره الماورديّ. وخرج ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لسرادق النار أربع جدر كُثُف كل جدار مسيرة أربعين سنة" . وخرجه أبو عيسى الترمذي، وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب.

قلت: وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار، وجُدُره ما وُصف.

قوله تعالى: { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ } قال ٱبن عباس: المُهْل ماء غليظ مثل دُرْدِيّ الزيت. مجاهد: القَيْح والدّم. الضحاك: ماء أسود، وإن جهنم لسوداء، وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سُود. وقال أبو عبيدة: هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورَصاص ونُحاس وقَزْدير، فتموج بالغليان، فذلك المهل. ونحوه عن ٱبن مسعود. قال سعيد بن جُبير: هو الذي قد ٱنتهى حَره. وقال: المهل ضرب من القَطِران؛ يقال: مَهلت البعير فهو ممهول. وقيل: هو السم. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وفي الترمذي "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله كالمهل قال: كعَكَر الزيت فإذا قرّبه إلى وجهه سقطت فَروْة وجهه" قال أبو عيسى: هذا حديث إنما نعرفه من حديث رِشْدِين بن سعد ورِشْدين قد تُكُلِّم فيه من قبل حفظه. وخرج عن أبي أمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: { { ويُسْقَى مِن ماءٍ صَدِيدٍ يتجرعه } [إبراهيم: 16-17] قال: "يقرّب إلى فيه فيَكرهه فإذا أدْنِيَ منه شوَى وجهه ووقعت فَروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره" . يقول الله تعالى { { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [محمد: 15] يقول { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً }» قال: حديث غريب.

قلت: وهذا يدل على صحة تلك الأقوال، وأنها مرادة، والله أعلم. وكذلك نص عليها أهل اللغة. في الصحاح «المهل» النحاس المُذاب. ٱبن الأعرابي: المهل المذاب من الرصاص. وقال أبو عمرو: المهل درديّ الزيت. والمهل أيضاً القيح والصديد. وفي حديث أبي بكر: ٱدفنوني في ثَوْبَيّ هذين فإنهما للمهل والتراب. و { مُرْتَفَقاً } قال مجاهد: معناه مجتمعاً؛ كأنه ذهب إلى معنى المرافقة. ٱبن عباس: منزلاً. عطاء: مقرا. وقيل مهادا. وقال القتَبيّ: مجلسا. والمعنى متقارب؛ وأصله من المتّكأ، يقال منه: ٱرتفقت أي ٱتكأت على المرفق. قال الشاعر:

قالت له وٱرتفقتْ ألاَ فتًىيسوق بالقوم غَزالاتِ الضُّحا

ويقال: ارتفق الرجل إذا نام على مِرفقه لا يأتيه نوم. قال أبو ذُؤيب الهُذَليّ:

نام الخَليّ وبِتُّ الليل مُرْتَفِقاكأنّ عَيْنِيَ فيها الصّاب مَذبُوحُ

الصاب: عصارة شجر مرّ.