خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً
٩٢
حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً
٩٣
قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً
٩٤
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً
٩٥
آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً
٩٦
فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً
٩٧
قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً
٩٨
-الكهف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } وهما جبلان من قبل أرمينية وأَذْرَبِيجان. روى عطاء الخراساني عن ابن عباس: «بين السدين» الجبلين أرمينية وأَذْرَبِيجان. { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } أي من ورائهما: { قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً }. وقرأ حمزة والكسائي «يُفْقِهُونَ» بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان أي لا يفقهون غيرهم كلاماً. الباقون بفتح الياء والقاف، أي يعلمون. والقراءتان صحيحتان، فلا هم يفقهون من غيرهم ولا يفقِهون غيرهم.

قوله تعالى: { قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ } أي قالت له أمة من الإنس صالحة: { إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ }. قال الأخفش: من همز «يأجوج» فجعل الألفين من الأصل يقول: يأجوج يَفْعول ومأجوج مَفْعول كأنه من أجيج النار. قال: ومن لا يهمز ويجعل الألفين زائدتين يقول: «ياجوج» من يَجَجت وماجوج من مَجَجت وهما غير مصروفين؛ قال رؤبة:

لو أن ياجوجَ وماجوجَ مَعَاوَعادَ عادٌ واستجاشوا تُبَّعَا

ذكره الجوهري. وقيل: إنما لم ينصرفا لأنهما اسمان أعجميان، مثل طالوت وجالوت غير مشتقين؛ علتاهما في منع الصرف العجمة والتعريف والتأنيث. وقالت فرقة: هو معرب من أَجَّ وأَجَّجَ علتاه في منع الصرف التعريف والتأنيث. وقال أبو عليّ: يجوز أن يكونا عربيين؛ فمن همز «يأجوج» فهو على وزن يفعول مثل يربوع، من قولك أَجَّت النارُ أي ضويت، ومنه الأجيج، ومنه ملح أجاج، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفاً مثل راس، وأما «مأجوج» فهو مفعول من أَجَّ، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق ومن لم يهمز فيجوز أن يكون خفف الهمزة، ويجوز أن يكون فاعولاً من مَجَّ، وترك الصرف فيهما للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة. واختلف في إفسادهم؛ فقال سعيد بن عبد العزيز: إفسادهم أكل بني آدم. وقالت فرقة: إفسادهم إنما كان متوقعاً، أي سيفسدون، فطلبوا وجه التحرز منهم. وقالت فرقة: إفسادهم هو الظلم والغَشْم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، والله أعلم. وقد وردت أخبار بصفتهم وخروجهم وأنهم من ولد يافث. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان" . وقال كعب الأحبار: احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسِف فخلقوا من ذلك الماء، فهم متصلون بنا من جهة الأب لا من جهة الأم. وهذا فيه نظر؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، وكذلك قال مقاتل وغيره. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل" . يعني يأجوج ومأجوج. وقال أبو سعيد: هم خمس وعشرون قبيلة من وراء يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل من هؤلاء ومن يأجوج ومأجوج حتى يخرج من صلبه ألف رجل، ذكره القشيري. وقال عبد الله بن مسعود: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام: "يأجوج ومأجوج أمتان كل أمة أربعمائة ألف (أمة) كل أمة لا يعلم عددها إلا الله لا يموت الرجل منهم حتى يولد له ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح قيل: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأَرْز ـ شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع ـ وصنف عرضه وطوله سواء نحواً من الذراع وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس" . وقال علي رضي الله تعالى عنه: وصنف منهم في طول شبر، لهم مخالب وأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، وعواء الذئاب، وشعور تقيهم الحرّ والبرد، وآذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها، يحفرون السدّ حتى كادوا ينقبونه فيعيده الله كما كان، حتى يقولوا: ننقبه غداً إن شاء الله تعالى فينقبونه ويخرجون، ويتحصن الناس بالحصون، فيرمون إلى السماء فيرد السهم عليهم ملطخاً بالدم، ثم يهلكهم الله تعالى بالنغف في رقابهم. ذكره الغزنوي. وقال عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يأجوج أمة لها أربعمائة أمير وكذا مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده" .

قلت: وقد جاء مرفوعاً من حديث أبي هريرة، خرجه ابن ماجه في السنن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يأجوج ومأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً فيعيده الله أشدّ ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله تعالى فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فيَنْشِفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليها الدمُ الذي أحفظ فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله تعالى عليهم نغَفَاً في أقفائهم فيقتلهم بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتَشْكَر شَكراً من لحومهم" قال الجوهري: شَكِرت الناقةُ تَشكَر شَكَراً فهي شكِرة؛ وأشكر الضرع امتلأ لبناً. وقال وهب بن منبه: رآهم ذو القرنين، وطول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخاليب في مواضع الأظفار وأضراس وأنياب كالسباع، وأحناك كأحناك الإبل، وهم هُلْبٌ عليهم من الشعر ما يواريهم، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى، وكل واحد منهم قد عرف أجله لا يموت حتى يخرج له من صلبه ألف رجل إن كان ذكراً، ومن رحمها ألف أنثى إن كانت أنثى. وقال السدي والضحاك: الترك شرذمة من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السدّ فبقيت في هذا الجانب. قال السُّدي: بُني السدّ على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السدّ فهم التّرك. وقاله قتادة.

قلت: وإذا كان هذا، فقد نعت النبي صلى الله عليه وسلم الترك كما نعت يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون التّرك قوماً وجوههم كالمجانِّ المُطْرَقَة يلبَسون الشّعر ويمشون في الشّعر" في رواية "ينتعلون الشّعر" خرجه مسلم وأبو داود وغيرهما. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم عددهم وكثرتهم وحِدَّة شوكتهم قال عليه الصلاة والسلام: "اتركوا الترك ما تركوكم" . وقد خرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله تعالى، ولا يردهم عن المسلمين إلا الله تعالى، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم. وروى أبو داود عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين ـ قال ابن يحيـى قال أبو معمر - وتكون من أمصار المسلمين - فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شاطىء النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء" . الغائط المطمئن من الأرض. والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة. وبنو قنطوراء هم الترك. يقال: إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، ولدت له أولاداً جاء من نسلهم الترك.

قوله تعالى: { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } استفهام على جهة حسن الأدب. «خَرْجاً» أي جعلا. وقرىء «خراجا» والخرج أخص من الخراج. يقال: أَدِّ خَرْج رأسك وخَرَاج مدينتك. وقال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة، ويقع على مال الفيء، ويقع على الجزية، وعلى الغلة. والخراج اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال. والخرج: المصدر. وقوله تعالى: { عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } أي ردماً؛ والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل. وثوب مردم أي مرقع، قاله الهروي. يقال: ردمت الثلمة أردِمها بالكسر ردماً أي سددتها. والردم أيضاً الاسم وهو السدّ. وقيل: الردم أبلغ من السدّ إذ السدّ كل ما يسدّ به، والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع. ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض. ومنه قول عنترة:

هـل غـادر الـشـعـراء مـن مُـتَـرَدَّمِ

أي من قول يُركَّب بعضه على بعض. وقرىء «سَدَّا» بالفتح في السين؛ فقال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم والفتح المصدر. وقال الكسائي: الفتح والضم لغتان بمعنى واحد. وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة: ما كان من خلقة الله لم يشارك فيه أحد بعمل فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح. ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرؤوا «سَدًّا» بالفتح، وقبله «بين السُّدَّيْنِ» بالضم، وهي قراءة حمزة والكسائي. وقال أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة. وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو سُد بالضم، وما لا ترى فهو سَدّ بالفتح.

الثانية: في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضرباً ويحبسون أو يكفلون ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه.

قوله تعالى: { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } المعنى قال لهم ذو القرنين: ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم ولكن أعينوني بقوّة الأبدان؛ أي برجال وعمل منكم بالأبدان، والآلة التي أبني بها الردم وهو السدّ. وهذا تأييد من الله تعالى لذي القرنين في هذه المحاورة؛ فإن القوم لو جمعوا له خرجاً لم يعنه أحد ولوكلوه إلى البنيان، ومعونته بأنفسهم أجمل به وأسرع في انقضاء هذا العمل، وربما أربى ما ذكروه له على الخرج. وقرأ ابن كثير وحده «مَا مَكَّنَنِي» بنونين. وقرأ الباقون { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي }.

الثانية: في هذه الآية دليل على أن الملِك فرض عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم، وسدّ فرجتهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم التي تفيء عليهم، وحقوقهم التي تجمعها خزانتهم تحت يده ونظره، حتى لو أكلتها الحقوق، وأنفذتها المؤن، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم، وعليه حسن النظر لهم؛ وذلك بثلاثة شروط: الأول: ألا يستأثر عليهم بشيء. الثاني: أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم. الثالث: أن يسوّي في العطاء بينهم على قدر منازلهم، فإذا فنيت بعد هذا وبقيت صفراً فأطلعت الحوادث أمراً بذلوا أنفسهم قبل أموالهم، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير، وتُصْرَف بتدبير؛ فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال في أن يكفّ عنهم ما يحذرونه من عادية يأجوج ومأجوج؛ قال: لست أحتاج إليه وإنما أحتاج إليكم { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ } أي اخدموا بأنفسكم معي، فإن الأموال عندي والرجال عندكم، ورأى أن الأموال لا تغني عنهم، فإنه إن أخذها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه، فيعود بالأجر عليهم، فكان التطوّع بخدمة الأبدان أولى. وضابط الأمر أنه لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض، فيؤخذ ذلك المال جهراً لا سراً، وينفق بالعدل لا بالاستئثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر. والله تعالى الموفق للصواب.

قوله تعالى: { آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ } أي أعطوني زبر الحديد وناولونيها. أمرهم بنقل الآلة، وهذا كله إنما هو استدعاء العطية التي بغير معنى الهبة، وإنما هو استدعاء للمناولة، لأنه قد ارتبط من قوله: إنه لا يأخذ منهم الخرج، فلم يبق إلا استدعاء المناولة، وأعمال الأبدان. و{ زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ } قطع الحديد. وأصل الكلمة الاجتماع، ومنه زُبْرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله. وزبرت الكتاب أي كتبته وجمعت حروفه. وقرأ أبو بكر والمفضل «ردما ايتوني» من الإتيان الذي هو المجيء؛ أي جيئوني بزبر الحديد، فلما سقط الخافض انتصب الفعل على نحو قول الشاعر:

أَمَـرْتُــكَ الـخــيـرَ...

حذف الجار فنصب الفعل. وقرأ الجمهور «زُبَرَ» بفتح الباء. وقرأ الحسن بضمها؛ وكل ذلك جمع زُبْرة وهي القطعة العظيمة منه.

قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ } يعني البناء فحذف لقوّة الكلام عليه. { بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ } قال أبو عبيدة: هما جانبا الجبل، وسميا بذلك لتصادفهما أي لتلاقيهما. وقاله الزهري وابن عباس؛ كأنه يعرض عن الآخر؛ من الصدوف؛ قال الشاعر:

كلاَ الصَّدَفَين يَنْفُذُه سَنَاهَاتَوقَّدُ مثلَ مِصباحِ الظّلامِ

ويقال للبناء المرتفع: صدف تشبيه بجانب الجبل. وفي الحديث: كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي. قال أبو عبيد: الصدف والهدف كل بناء عظيم مرتفع. ابن عطية: الصَّدفَان الجبلان المتناوِحان ولا يقال للواحد صَدف، وإنما يقال صَدَفان للاثنين؛ لأن أحدهما يصادف الآخر. وقرأ نافع وحمزة والكسائي «الصَّدَفَيْنِ» بفتح الصاد وشدّها وفتح الدال، وهي قراءة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعمر بن عبد العزيز، وهي اختيار أبي عبيدة لأنها أشهر اللغات. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «الصُّدُفين» بضم الصاد والدال. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «الصُّدْفَيْنِ» بضم الصاد وسكون الدال، نحو الجُرْف والجُرُف. فهو تخفيف. وقرأ ابن الماجشون بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ قتادة «بين الصَّدْفَين» بفتح الصاد وسكون الدال، وكل ذلك بمعنى واحد وهما الجبلان المتناوِحان.

قوله تعالى: { قَالَ ٱنفُخُواْ } إلى آخر الآية أي على زبر الحديد بالأكيار، وذلك أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار، فذلك قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلاف في القطر، فيفرغه على تلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد ولصق البعض بالبعض استأنف وضع طاقة أخرى، إلى أن استوى العمل فصار جبلاً صَلْداً. قال قتادة: هو كالبُرْد المحبَّر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء. ويروى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: يا رسول اللهٰ إني رأيت سدّ يأجوج ومأجوج، قال: كيف رأيته قال: رأيته كالبُرْد المحبَّر، طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد رأيتَه" . ومعنى { حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } أي كالنار. ومعنى { آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } أي أعطوني قطراً أفرغ عليه، على التقديم والتأخير. ومن قرأ «ائتوني» فالمعنى عنده تعالوا أفرغ عليه نحاساً. والقطر عند أكثر المفسرين النحاس المذاب، وأصله من القَطْر؛ لأنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء. وقالت فرقة: القطر الحديد المذاب. وقالت فرقة منهم ابن الأنباري: الرصاص المذاب. وهو مشتق من قَطَر يَقطُر قَطْراً. ومنه { { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ } [سبأ: 12].

قوله تعالى: { فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ } أي ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه؛ لأنه أملس مستوٍ مع الجبل والجبل عالٍ لا يرام. وارتفاع السدّ مائتا ذراع وخمسون ذراعاً. وروي: في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسون فرسخاً؛ قاله وهب بن منبه. { وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } لبعد عرضه وقوّته. وروي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثلُ هذه" وعقد وهب بن منبه بيده تسعين ـ وفي رواية ـ وحَلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها؛ وذكر الحديث. وذكر يحيـى بن سلاّم عن سعد بن أبي عَرُوبة عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يأجوج ومأجوج يخرقون السدّ كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستخرقونه غداً فيعيده الله كأشدّ ما كان حتى إذا بلغت مدّتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستخرقونه غداً إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس" الحديث وقد تقدّم.

قوله تعالى: { فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ } بتخفيف الطاء على قراءة الجمهور. وقيل: هي لغة بمعنى استطاعوا. وقيل: بل استطاعوا بعينه كثير في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء فقالوا: اسطاعوا. وحذف بعضهم منه الطاء فقال: استاع يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة. وقرأ حمزة وحده «فما اسطّاعوا» بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا، ثم أدغم التاء في الطاء فشدّدها، وهي قراءة ضعيفة الوجه؛ قال أبو علي: هي غير جائزة. وقرأ الأعمش «فَمَا اسْتطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسَتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً» بالتاء في الموضعين.

قوله تعالى: { قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } القائل ذو القرنين، وأشار بهذا إلى الردم، والقوّة عليه، والانتفاع به في دفع ضرر يأجوج ومأجوج. وقرأ ابن أبي عَبْلة «هذِهِ رَحْمَةٌ مِنْ ربي».

قوله تعالى: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } أي يوم القيامة. وقيل: وقت خروجهم. { جَعَلَهُ دَكَّآءَ } أي مستوياً بالأرض؛ ومنه قوله تعالى: { { إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكَّاً } [الفجر: 21] قال ابن عرفة: أي جعلت مستوية لا أكمة فيها، ومنه قوله تعالى: «جَعَلَهُ دكّاً» قال اليزيدي: أي مستوياً؛ يقال: ناقة دكاء إذا ذهب سنامها. وقال القتبي: أي جعله مدكوكاً ملصقاً بالأرض. وقال الكلبي: قطعاً متكسراً؛ قال:

هل غيرُ غادٍ دَكَّ غاراً فانهدم

وقال الأزهري: يقال دككته أي دققته. ومن قرأ «دَكَّاءَ» أراد جعل الجبل أرضاً دكاء، وهي الرابية التي لا تبلغ أن تكون جبلاً وجمعها دكاوات. قرأ حمزة وعاصم والكسائي «دكاء» بالمدّ على التشبيه بالناقة الدكاء، وهي التي لا سنام لها، وفي الكلام حذف تقديره: جعله مثل دكاء؛ ولا بدّ من تقدير هذا الحذف. لأن السدّ مذكر فلا يوصف بدكاء. ومن قرأ «دَكًّا» فهو مصدر دَكَّ يدك إذا هَدم ورَضّ؛ ويحتمل أن يكون «جعل» بمعنى خلق. وينصب «دَكًّا» على الحال. وكذلك النصب أيضاً في قراءة من مدّ يحتمل الوجهين.