خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً
١١
يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً
١٢
وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً
١٣
وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً
١٤
وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً
١٥
-مريم

الجامع لاحكام القرآن

فيه خمس مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ } أي أشرف عليهم من المصلى. والمحراب أرفع المواضع، وأشرف المجالس، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض، دليله محراب داود عليه السلام على ما يأتي. واختلف الناس في اشتقاقه؛ فقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات. وقالت فرقة: هو مأخوذ من الحَرَب (بفتح الراء) كأن ملازمه يلقى منه حرباً وتعباً ونصباً.

الثانية: هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعاً عندهم في صلاتهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الإمام أحمد بن حنبل وغيره متمسكاً بقصة المنبر. ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، وعَلَّل أصحابه المنع بخوف الكبْر على الإمام.

قلت: وهذا فيه نظر؛ وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام أن حذيفة أَمَّ الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا ـ أو ـ يُنهَى عن ذلكٰ قال: بلى؛ قد ذكرت حين مددتني. وروي أيضاً عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: حدّثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة فتقدّم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدّم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أَمَّ الرجلُ القوم فلا يقم في مكان أرفعَ من مقامهم" أو نحو ذلك؛ فقال عمّار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.

قلت: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ. ومما يدل على نسخه أن فيه عملاً زائداً في الصلاة، وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من الكِبْر؛ لأن كثيراً من الأئمة يوجد لا كِبْر عندهم. ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيراً؛ والله أعلم.

الثالثة قوله تعالى: { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } قال الكلبي وقتادة وابن منبه: أوحى إليهم أشار. القتبي: أومأ. مجاهد: كتب على الأرض. عكرمة: كتب في كتاب. والوحي في كلام العرب الكتابة؛ ومنه قول ذي الرُّمة:

سوى الأربع الدُّهْم اللواتي كأنَّهابَقِيَّةُ وَحْيٍ في بُطونِ الصَّحَائِف

وقال عَنْترة:

كوحي صحائفٍ من عهد كسرىفأهداها لأعجم طِمْطِمِيِّ

و«بكرة وعشيا» ظرفان. وزعم الفراء أن العشي يؤنث ويجوز تذكيره إذا أبهمتَ؛ قال: وقد يكون العشيّ جمع عشية.

الرابعة: قد تقدّم الحكم في الإشارة في «آل عمران». واختلف علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم إنساناً فكتب إليه كتاباً، أو أرسل إليه رسولاً؛ فقال مالك: إنه يحنث إلا أن ينوي مشافهته، ثم رجع فقال: لا ينوي في الكتاب ويحنث إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله. قال ابن القاسم: إذا قرأ كتابه حنث، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه. وقال أشهب: لا يحنث إذا قرأه الحالف؛ وهذا بيّن؛ لأنه لم يكلمه ولا ابتدأه بكلام، إلا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه فإنه يحنث وعليه يخرج قول ابن القاسم. فإن حلف ليكلمنه لم يبرّ إلا بمشافهته؛ وقال ابن الماجشون: وإن حلف لئن علم كذا ليُعلِمنّه أو ليُخبِرنّه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولاً بَرَّ، ولو علماه جميعاً لم يبر، حتى يُعلِمه لأن علمهما مختلف.

الخامسة: واتفق مالك والشافعي والكوفيون أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه؛ قال الكوفيون: إلا أن يكون رجل أصمِت أياماً فكتب لم يجز من ذلك شيء. قال الطحاوي: الخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع العارض لمرض ونحوه يوماً أو نحوه مخالف للعجز المأيوس منه الجماع، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة.

قوله تعالى: { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } في الكلام حذف؛ المعنى فولد له ولد وقال الله تعالى للمولود: { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ }. وهذا اختصار يدل الكلام عليه. و«الكتاب» التوراة بلا خلاف. «بقوّة» أي بجد واجتهاد؛ قاله مجاهد. وقيل: العلم به، والحفظ له والعمل به، وهو الالتزام لأوامره، والكفّ عن نواهيه؛ قاله زيد بن أسلم؛ وقد تقدّم في «البقرة». قوله تعالى: { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } قيل: الأحكام والمعرفة بها. وروى مَعْمَر أن الصبيان قالوا ليحيـى: اذهب بنا نلعب؛ فقال: ما للعب خلقت. فأنزل الله تعالى «وآتيناه الحكم صبِيا». وقال قتادة: كان ابن سنتين أو ثلاث سنين. وقال مقاتل: كان ابن ثلاث سنين. و«صبيا» نصب على الحال. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا. وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذَنْب إلا ما كان من يحيـى بن زكريا" . وقال قتادة: إن يحيـى عليه السلام لم يعص الله تعالى قط بصغيرة ولا كبيرة ولا هَمَّ بامرأة. وقال مجاهد: وكان طعام يحيـى عليه السلام العشب، وكان للدمع في خدّيه مجار ثابتة. وقد مضى الكلام في معنى قوله: { { وَسَيِّداً وَحَصُوراً } [آل عمران: 39] في «آل عمران».

قوله تعالى: { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } «حنانا» عطف على «الحكم». وروي عن ابن عباس أنه قال: والله ما أدري ما «الحنان»؟. وقال جمهور المفسرين: الحنان الشفقة والرحمة والمحبة؛ وهو فعل من أفعال النفس. النحاس: وفي معنى الحنان عن ابن عباس قولان: أحدهما: قال: تعطّف الله عز وجل عليه بالرحمة. والقول الآخر ما أعطيه من رحمة الناس حتى يخلصهم من الكفر والشرك. وأصله من حنين الناقة على ولدها. ويقال: حنانك وحنانيك؛ قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: حنانيك تثنية الحنان. وقال أبو عبيدة: والعرب تقول: حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد؛ تريد رحمتك. وقال امرؤ القيس:

ويَمْنَحُها بَنُو شَمَجَى بن جَرْمٍمَعِيزَهُمُ حَنَانكَ ذا الحَنانِ

وقال طرفة:

أبا مُنْذِرٍ أفنيتَ فاستبقِ بَعضَنَاحَنَانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهونُ مِنْ بَعْضِ

وقال الزمخشري: «حنانا» رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفاً وشفقة؛ وأنشد سيبويه:

فقالتْ حَنَانٌ ما أَتَى بكَ هَاهُنَاأَذُو نَسَبٍ أَمْ أنت بالحيِّ عارفُ

قال ابن الأعرابي: الحنّان من صفة الله تعالى مشدداً الرحيم. والحنَان مخفف: العطف والرحمة. والحنان: الرزق والبركة. ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضاً ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى؛ ومنه قول زيد بن عمرو بن نُفَيل في حديث بلال: والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حَنَانا؛ وذكر هذا الخبر الهرويّ؛ فقال: وفي حديث بلال ومر عليه ورقة بن نوفل وهو يعذَّب فقال: والله لئن قتلتموه لأتخذنه حَنَانا؛ أي لأتمسحنّ به. وقال الأزهري: معناه لأتعطفن عليه ولأترحمن عليه لأنه من أهل الجنة.

قلت: فالحنان العطف، وكذا قال مجاهد. و«حنانا» أي تعطفاً منا عليه أو منه على الخلق؛ قال الحطيئة:

تَحنَّنْ عليَّ هَدَاكَ الملِيكُفإنّ لكلِّ مقامٍ مَقَالاَ

عكرمة: محبة. وحَنَّة الرجل امرأته لتوادهما؛ قال الشاعر:

فقالتْ حنانٌ ما أَتَى بكَ هاهناأذو نسبٍ أم أنتَ بالحيّ عارفُ

قوله تعالى: { وَزَكَاةً } «الزكاة» التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير والبر؛ أي جعلناه مباركاً للناس يهديهم. وقيل: المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما تزكي الشهود إنسانا. وقيل: «زكاة» صدقة به على أبويه؛ قاله ابن قتيبة. { وَكَانَ تَقِيّاً } أي مطيعاً لله تعالى، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يُلمَّ بها.

قوله تعالى: { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ } البر بمعنى البار وهو الكثير البرّ. و{ جَبَّاراً } متكبراً. وهذا وصف ليحيـى عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح.

قوله تعالى: { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } قال الطبري وغيره: معناه أمان. ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله تعالى عليه، وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول.

قلت: وهذا قول حسن، وقد ذكرنا معناه عن سفيان بن عيينة في سورة «سبحان» عند قتل يحيـى. وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيـى التقيا ـ وهما ابنا الخالة ـ فقال يحيـى لعيسى: ادع الله لي فأنت خير مني؛ فقال له عيسى: بل أنت ادع الله لي فأنت خير مني؛ سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي؛ فانتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى؛ بأن قال: إدلاله في التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه. قال ابن عطية: ولكل وجه.