خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كۤهيعۤصۤ
١
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ
٢
إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
٣
قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً
٤
وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً
٥
-مريم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { كۤهيعۤصۤ } تقدّم الكلام في أوائل السور. وقال ابن عباس في { كۤهيعۤصۤ }: إن الكاف من كافٍ، والهاء من هادٍ، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق؛ ذكره ابن عزيز القشيري عن ابن عباس؛ معناه كافٍ لخلقه، هادٍ لعباده، يده فوق أيديهم، عالم بهم، صادق في وعده؛ ذكره الثعلبي عن الكلبي والسدي ومجاهد والضحاك. وقال الكلبي أيضاً: الكاف من كريم وكبير وكافٍ، والهاء من هادٍ، والياء من رحيم، والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق؛ والمعنى واحد. وعن ابن عباس أيضاً: هو اسم من أسماء الله تعالى؛ وعن عليّ رضي الله عنه هو اسم الله عز وجل وكان يقول: يا كهيعص اغفر لي؛ ذكره الغزنوي. السدي: هو اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب. قتادة: هو اسم من أسماء القرآن؛ ذكره عبد الرزاق عن مَعْمَر عنه. وقيل: هو اسم للسورة؛ وهو اختيار القشيري في أوائل الحروف؛ وعلى هذا قيل: تمام الكلام عند قوله: «كهيعص» كأنه إعلام باسم السورة، كما تقول: كتاب كذا أو باب كذا ثم تشرع في المقصود. وقرأ ابن جعفر هذه الحروف متقطعة، ووصلها الباقون، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء، وابن عامر وحمزة بالعكس، وأمالها جميعاً الكسائي وأبو بكر وخلف. وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة نافع وغيره. وفتحهما الباقون. وعن خارجة أن الحسن كان يضم كاف، وحكى غيره أنه كان يضم ها، وحكى إسماعيل بن إسحاق أنه كان يضم يا. قال أبو حاتم: ولا يجوز ضم الكاف ولا الهاء ولا الياء؛ قال النحاس: قراءة أهل المدينة من أحسن ما في هذا، والإمالة جائزة في هَا ويَا. وأما قراءة الحسن فأشكلت على جماعة حتى قالوا: لا تجوز؛ منهم أبو حاتم. والقول فيها ما بيَّنه هارون القارىء؛ قال: كان الحسن يشم الرفع؛ فمعنى هذا أنه كان يومىء؛ كما حكى سيبويه أن من العرب من يقول: الصلاة والزكاة يومىء إلى الواو، ولهذا كتبتا في المصحف بالواو. وأظهر الدال من هجاء «صۤ» نافع وابن كثير وعاصم ويعقوب، وهو اختيار أبي عبيد؛ وأدغمها الباقون.

قوله تعالى: { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ * إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً }.

فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } في رفع «ذكر» ثلاثة أقوال؛ قال الفراء: هو مرفوع بـ«ـكهيعص»؛ قال الزجاج: هذا محال؛ لأن «كهيعص» ليس هو مما أنبأنا الله عز وجل به عن زكريا، وقد خبّر الله تعالى عنه وعن ما بشّر به، وليس «كهيعص» من قصته. وقال الأخفش: التقدير؛ فيما يقص عليكم ذكر رحمة ربك. والقول الثالث: أن المعنى هذا الذي يتلوه عليكم ذكر رحمة ربك. وقيل: «ذكر رحمة ربك» رفع بإضمار مبتدأ؛ أي هذا ذكر رحمة ربك؛ وقرأ الحسن: «ذَكَّرَ رَحْمَةَ رَبِّك» أي هذا المتلو من القرآن ذَكَّر رحمة ربك. وقرىء «ذَكِّرْ» على الأمر. «ورحمة» تكتب ويوقف عليها بالهاء، وكذلك كل ما كان مثلها، لا اختلاف فيها بين النحويين، واعتلوا في ذلك أن هذه الهاء لتأنيث الأسماء فرقاً بينها وبين الأفعال.

الثانية: قوله تعالى: { عَبْدَهُ } قال الأخفش: هو منصوب بـ«ـرحمة». «زكريا» بدل منه؛ كما تقول: هذا ذكر ضرب زيد عمراً؛ فعمراً منصوب بالضرب، كما أن «عبده» منصوب بالرحمة. وقيل: هو على التقديم والتأخير؛ معناه: ذِكر ربك عبده زكريا برحمة؛ فـ«ـعبده» منصوب بالذكر؛ ذكره الزجاج والفراء. وقرأ بعضهم «عَبْدُهُ زكرِيا» بالرفع؛ وهي قراءة أبي العالية. وقرأ يحيـى بن يعمر «ذَكَرَ» بالنصب على معنى هذا القرآن ذَكرَ رحمة عبده زكريا. وتقدمت اللغات والقراءة في «زكريا» في «آل عمران».

الثالثة: قوله تعالى: { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } مثل قوله: { { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } [الأعراف: 55] وقد تقدّم. والنداء الدعاء والرغبة؛ أي ناجى ربه بذلك في محرابه. دليله قوله: { { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ } [آل عمران: 93] فبيّن أنه استجاب له في صلاته، كما نادى في الصلاة. واختلف في إخفائه هذا النداء؛ فقيل: أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند كبر السن؛ ولأنه أمر دنيوي، فإن أجيب فيه نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف بذلك أحد. وقيل: مخلصاً فيه لم يطلع عليه إلا الله تعالى. وقيل: لما كانت الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء أخفاه. وقيل: «خَفِيًّا» سِرًّا من قومه في جوف الليل؛ والكل محتمل والأوّل أظهر؛ والله أعلم. وقد تقدّم أن المستحب من الدعاء الإخفاء في سورة «الأعراف» وهذه الآية نص في ذلك؛ لأنه سبحانه أثنى بذلك على زكريا. وروى إسماعيل قال: حدّثنا مسدد قال: حدّثنا يحيـى بن سعيد عن أسامة بن زيد عن محمد بن عبد الرحمن وهو ابن أبي كبشة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن خير الذكر الخفيّ وخير الرزق ما يكفي" وهذا عام. قال يونس بن عبيد: كان الحسن يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويؤمن من خلفه من غير رفع صوت، وتلا يونس { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً }. قال ابن العربي: وقد أسر مالك القنوت وجهر به الشافعي، والجهر به أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو به جهراً.

قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ } قرىء «وَهَنَ» بالحركات الثلاث أي ضعف. يقال: وهَنَ يَهِن وَهْنا إذا ضعف فهو واهنٌ. وقال أبو زيد يقال: وَهَن يَهِن ووَهِن يَوْهَن. وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته؛ ولأنه أشدّ ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن منه. ووحّده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام، وأشدّ ما تركّب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها.

الثانية: قوله تعالى: { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } أدغم السين في الشين أبو عمرو. وهذا من أحسن الاستعارة في كلام العرب. والاشتعال انتشار شعاع النار؛ شبه به انتشار الشيب في الرأس؛ يقول: شخت وضعفت؛ وأضاف الاشتعال إلى مكان الشعر ومَنْبِته وهو الرأس. ولم يُضِف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا عليه السلام. «وشيباً» في نصبه وجهان: أحدهما: أنه مصدر لأن معنى اشتعل شاب؛ وهذا قول الأخفش. وقال الزجاج: وهو منصوب على التمييز. النحاس: قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل فالمصدر أولى به. والشيب مخالطة الشعر الأبيض الأسود.

الثالثة: قال العلماء: يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نِعَم الله تعالى عليه وما يليق بالخضوع؛ لأن قوله تعالى: { وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } إظهار للخضوع. وقوله: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته؛ أي لم أكن بدعائي إياك شقياً؛ أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك؛ أي إنك عودتني الإجابة فيما مضى. يقال: شقي بكذا أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده. وعن بعضهم أن محتاجاً سأله وقال: أنا الذي أحسنتَ إليه في وقت كذا؛ فقال: مرحباً بمن توسل بنا إلينا؛ وقضى حاجته.

قوله تعالى: { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } فيه سبع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ } قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين ويحيـى بن يعمر رضي الله تعالى عنهم «خَفَّتِ» بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وسكون الياء من «الموالي» لأنه في موضع رفع «بخفت» ومعناه انقطعت أي بالموت. وقرأ الباقون «خِفْتُ» بكسر الخاء وسكون الفاء وضم التاء ونصب الياء من «الْمَوَالِيَ» لأنه في موضع نصب بـ«ـخفت». و«الموالي» هنا الأقارب وبنو العم والعصبة الذين يلونه في النسب. والعرب تسمي بني العم الموالي؛ قال الشاعر:

مَهْلاً بَنِي عمِّنَا مَهْلاً مَوَالِينَالا تَنْبُشُوا بَيْنَنَا ما كان مَدْفُونَا

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق أن يرثه غير الولد. وقالت طائفة: إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب ولياً يقوم بالدين بعده؛ حكى هذا القول الزجاج؛ وعليه فلم يسل من يرث ماله؛ لأن الأنبياء لا تُورَث. وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" وفي كتاب أبي داود: "إن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً ورَّثُوا العلم" . وسيأتي في هذا مزيد بيان عند قوله: "يرثني" .

الثانية: هذا الحديث يدخل في التفسير المسند؛ لقوله تعالى: { { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } [النمل: 16] وعبارة عن قول زكريا: { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } وتخصيص للعموم في ذلك، وأن سليمان لم يرث من داود مالاً خلّفه داود بعده؛ وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيـى من آل يعقوب؛ هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض، وإلا ما روي عن الحسن أنه قال: "يرثني" مالاً "ويرث من آل يعقوب" النبوّة والحكمة؛ وكل قول يخالف قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو مدفوع مهجور؛ قاله أبو عمر. قال ابن عطية: والأكثر من المفسرين على أن زكريا إنما أراد وراثة المال؛ ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا معشر الأنبياء لا نورث" ألا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم؛ فتأمله. والأظهر الأليق بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة. ألا ترى أنه لما طلب ولياً ولم يخصص ولداً بلّغه الله تعالى أمله على أكمل الوجوه. وقال أبو صالح وغيره: قوله «من آل يعقوب» يريد العلم والنبوة.

الثالثة: قوله تعالى: { مِن وَرَآئِي } قرأ ابن كثير بالمدّ والهمز وفتح الياء. وعنه أنه قرأ أيضاً مقصوراً مفتوح الياء مثل عصايَ. الباقون بالهمز والمدّ وسكون الياء. والقراء على قراءة «خِفت» مثل نِمت إلا ما ذكرنا عن عثمان. وهي قراءة شاذة بعيدة جداً؛ حتى زعم بعض العلماء أنها لا تجوز. قال كيف يقول: خَفَّتِ الموالي مِن بعدِي أي من بعد موتي وهو حيّ؟!. النحاس: والتأويل لها ألا يعني بقوله: «مِنْ وَرَائِي» أي من بعد موتي، ولكن من ورائي في ذلك الوقت؛ وهذا أيضاً بعيد يحتاج إلى دليل أنهم خفّوا في ذلك الوقت وقلّوا، وقد أخبر الله تعالى بما يدل على الكثرة حين قالوا: «أيهم يكفل مريم». ابن عطية: «من ورائي» من بعدي في الزمن، فهو الوراء على ما تقدّم في «الكهف.»

الرابعة: قوله تعالى: { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } امرأته هي إيشاع بنت فاقوذا بن قبيل، وهي أخت حنة بنت فاقوذا؛ قاله الطبريّ. وحنة هي أم مريم حسب ما تقدم في «آل عمران» بيانه. وقال القتبي: امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران، فعلى هذا القول يكون يحيـى ابن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة. وعلى القول الآخر يكون ابن خالة أمه. وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام: "فلقيت ابني الخالة يحيـى وعيسى" شاهدا للقول الأوّل. والله أعلم. والعاقر التي لا تلد لكبر سنها؛ وقد مضى بيانه في «آل عمران». والعاقر من النساء أيضاً التي لا تلد من غير كبر. ومنه قوله تعالى: { { وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } [الشورى: 50]. وكذلك العاقر من الرجال؛ ومنه قول عامر بن الطفيل:

لبئس الفتى إنْ كنتُ أعورَ عاقراًجبانا فما عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ

الخامسة: قوله تعالى: { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } سؤال ودعاء. ولم يصرح بولد لما علم من حاله وبعده عنه بسبب المرأة. قال قتادة: جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة. مقاتل: خمس وتسعين سنة؛ وهو أشبه؛ فقد كان غلب على ظنه أنه لا يولد له لكبره؛ ولذلك قال: { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً }. وقالت طائفة: بل طلب الولد، ثم طلب أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه، تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد ولكن يُخْتَرم، ولا يتحصل منه الغرض.

السادسة: قال العلماء: دعاء زكريا عليه السلام في الولد إنما كان لإظهار دينه، وإحياء نبوّته، ومضاعفة لأجره لا للدنيا، وكان ربه قد عوّده الإجابة، ولذلك قال: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً }، أي بدعائي إياك. وهذه وسيلة حسنة؛ أن يتَشفَّع إليه بنعمه، ويستدر فضله بفضله؛ يروى أن حاتم الجود لقيه رجل فسأله؛ فقال له حاتم: من أنت؟ قال: أنا الذي أحسنتَ إليه عام أول؛ فقال: مرحباً بمن تَشفَّع إلينا بنا. فإن قيل: كيف أقدم زكريا على مسألة ما يخرق العادة دون إذن؟ فالجواب أن ذلك جائز في زمان الأنبياء. وفي القرآن ما يكشف عن هذا المعنى؛ فإنه تعالى قال: { { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنًّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37] فلما رأى خارق العادة استحكم طمعه في إجابة دعوته؛ فقال تعالى: { { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [آل عمران: 38] الآية.

السابعة: إن قال قائل: هذه الآية تدل على جواز الدعاء بالولد، والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من آفات الأموال والأولاد، ونبه على المفاسد الناشئة من ذلك؛ فقال: { { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن: 15]. { { إِنَّ مِنْ أزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحذَرُوهُمْ } [التغابن: 14]. فالجواب أن الدعاء بالولد معلوم من الكتاب والسنة حسب ما تقدّم في «آل عمران» بيانه. ثم إن زكريا عليه السلام تحرز فقال: { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } وقال: { وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً }. والولد إذا كان بهذه الصفة نفع أبويه في الدنيا والآخرة، وخرج من حدّ العداوة والفتنة إلى حدّ المسرة والنعمة. وقد "دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس خادمه فقال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته" فدعا له بالبركة تحرزاً مما يؤدّي إليه الإكثار من الهلكة. وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده، ونجاته في أولاه وأخراه اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء الأولياء؛ وقد تقدم في «آل عمران» بيانه.