خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً
٢٩
قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً
٣٠
وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً
٣١
وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً
٣٢
وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً
٣٣
-مريم

الجامع لاحكام القرآن

فيه خمس مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت بـ«ـإني نذرت للرحمن صوماً» وإنما ورد بأنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال: إن أمرها بـ«ـقولي» إنما أريد به الإشارة. ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشدّ علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير: «كيف نكلم من كان فِي المهدِ صبِياً» و«كان» هنا ليس يراد بها الماضي؛ لأن كل واحد قد كان في المهد صبياً، وإنما هي في معنى هو (الآن). وقال أبو عبيدة: «كان» هنا لغو؛ كما قال:

وجِيرانٍ لنا كانوا كرامِ

وقيل: هي بمعنى الوجود والحدوث كقوله: «وَإِنْ كَانَ ذو عُسْرَةٍ» وقد تقدّم. وقال ابن الأنباري: لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت «صبياً»، ولا أن يقال «كان» بمعنى حدث، لأنه لو كانت بمعنى الحدوث والوقوع لاستغنى فيه عن الخبر، تقول: كان الحَرُّ وتكتفي به. والصحيح أن «من» في معنى الجزاء و«كان» بمعنى يكن؛ والتقدير: من يكن في المهد صبياً فكيف نكلمه؟! كما تقول: كيف أعطي من كان لا يقبل عطية؛ أي من يكن لا يقبل. والماضي قد يذكر بمعنى المستقبل في الجزاء؛ كقوله تعالى: { { تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [الفرقان: 10] أي إن يشأ يجعل. وتقول: من كان إليّ منه إحسان كان إليه مني مثله، أي من يكن منه إلى إحسان يكن إليه مني مثله. «والمهد» قيل: كان سريراً كالمهد. وقيل: «المهد» هاهنا حجر الأم. وقيل: المعنى كيف نكلم من كان سبيله أن ينوَّم في المهد لصغره، فلما سمع عيسى عليه السلام كلامهم قال لهم من مرقده { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } وهي:

الثانية: فقيل: كان عيسى عليه السلام يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } فكان أوّل ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وربوبيته، رداً على من غلا من بعده في شأنه والكتاب الإنجيل؛ قيل: آتاه في تلك الحالة الكتاب، وفهمه وعلمه، وآتاه النبوّة كما علم آدم الأسماء كلها، وكان يصوم ويصلي. وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا. وقيل: أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الأزل، وإن لم يكن الكتاب منزلاً في الحال؛ وهذا أصح. { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً } أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلِّماً له. التُّسْتَريّ: وجعلني آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف. { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ } أي لأؤدّيهما إذا أدركني التكليف، وأمكنني أداؤهما، على القول الأخير الصحيح. { مَا دُمْتُ حَيّاً } ما في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي. قوله تعالى: { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } قال ابن عباس: لما قال «وَبَرًّا بِوَالِدَتِي» ولم يقل بوالديّ علم أنه شيء من جهة الله تعالى. { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } أي متعظماً متكبراً يقتل ويضرب على الغضب. وقيل: الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقّاً قطّ. { شَقِيّاً } أي خائباً من الخير. ابن عباس: عاقاً. وقيل: عاصياً لربه. وقيل: لم يجعلني تاركاً لأمره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره.

الثالثة: قال مالك بن أنسرحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر! أخبر عيسى عليه السلام بما قضى من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت. وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا: إن هذا لأمر عظيم. وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الأطفال، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان، فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة. ولم يُنقَل أنه دام نطقه، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره من وقت الولادة لكان مِثله مما لا ينكتم، وهذا كله مما يدل على فساد القول الأول، ويصرح بجهالة قائله. ويدل أيضاً على أنه تكلم في المهد خلافاً لليهود والنصارى. والدليل على ذلك إجماع الفِرق على أنها لم تُحَدّ. وإنما صحّ براءتها من الزنى بكلامه في المهد. ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجباً على الأمم السالفة، والقرون الخالية الماضية، فهو مما يثبت حكمه، ولم ينسخ في شريعة أمره. وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع؛ يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على التراب، ويأوي حيث جَنّه الليل، لا مسكن له، صلى الله عليه وسلم.

الرابعة: الإشارة بمنزلة الكلام، وتُفهِم ما يُفهِم القول. كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال: «فأشارت إليه» وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: «كيف نكلم» وقد مضى هذا في «آل عمران» مستوفى.

الخامسة: قال الكوفيون: لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه. وروي مثله عن الشعبي، وبه قال الأوزاعيّ وأحمد وإسحاق، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفاً؛ ولا يتميز بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة. قالوا: واللعان عندنا شهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع. قال ابن القصار: قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فكذلك إشارة الأخرس. وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط. وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ. قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك. قال المهلب: وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام؛ مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت أنا والساعة كهاتين" نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة. وفي إجماع العقول على أن العِيان أقوى من الخبر دليل على أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام. { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ } أي السلامة عليّ من الله تعالى. قال الزجاج: ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام. وقوله: { يَوْمَ وُلِدْتُّ } يعني في الدنيا. وقيل: من همز الشيطان كما تقدّم في «آل عمران». { وَيَوْمَ أَمُوتُ } يعني في القبر. { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } يعني في الآخرة؛ لأن له أحوالاً ثلاثة: في الدنيا حياً، وفي القبر ميتاً، وفي الآخرة مبعوثاً؛ فسلم في أحواله كلها؛ وهو معنى قول الكلبي. ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان. وقال قتادة: ذكر لنا أن عيسى عليه السلام رأته امرأة يُحيِي الموتى، ويُبرىء الأكمة والأبرص في سائر آياته فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أرضعك؛ فقال لها عيسى عليه السلام: طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به.