خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ
١٦١
خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ
١٦٢
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَهُمْ كُفَّارٌ } الواو واو الحال. قال ٱبن العربي: قال لي كَثير من أشياخي إن الكافر المعيَّن لا يجوز لعنه؛ لأن حاله عند الموافاة لا تُعلم، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة: الموافاة على الكفر؛ وأما ما رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لعن أقواماً بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمآلهم. قال ٱبن العربي: والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله؛ وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللَّهُمّ إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أني لست بشاعر فألعنه وٱهجه عدد ما هجاني" . فلعنه، وإن كان الإيمان والدِّين والإسلام مآله. وٱنتصف بقوله: «عدد ما هجاني» ولم يزد ليعلم العدل والإنصاف، وأضاف الهَجْوَ إلى الله تعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف بذلك؛ كما يضاف إليه المكر والاستهزاء والخديعة. سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون عُلُوّاً كبيراً.

قلت: أما لعن الكفار جملة من غير تعيين فلا خلاف في ذلك؛ لما رواه مالك عن داود بن الحُصَين أنه سمع الأعرج يقول: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. قال علماؤنا: وسواء كانت لهم ذِمّة أم لم تكن، وليس ذلك بواجب، ولكنه مباح لمن فعله؛ لجحدهم الحق وعداوتهم للدّين وأهله. وكذلك كل مَن جاهر بالمعاصي كشُرّاب الخمر وأكلة الرّبَا، ومَن تشبّه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه.

الثانية: ليس لعن الكافر بطريق الزَّجْر له عن الكفر؛ بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره؛ كان الكافر ميتاً أو مجنوناً. وقال قوم من السلف: إنه لا فائدة في لعن مَن جُنّ أو مات منهم، لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر، فإنه لا يتأثّر به.

والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثّر بذلك ويتضرّر ويتألّم قلبه؛ فيكون ذلك جزاء على كفره؛ كما قال تعالى: { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [العنكبوت: 25]، ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله تعالى بلعنهم، لا على الأمر. وذكر ٱبن العربي أن لعن العاصي المعيَّن لا يجوز إتفاقاً؛ لما روي "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أُتِيَ بشارب خمر مراراً، فقال بعض من حضره: لعنه الله، ما أكثر ما يُؤتَى به! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عَوْن الشيطان على أخيكم" فجعل له حُرمة الأخوة؛ وهذا يوجب الشفقة، وهذا حديث صحيح.

قلت: خرّجه البخاري ومسلم. وقد ذكر بعض العلماء خلافاً في لعن العاصي المعيَّن؛ قال: وإنما قال عليه السلام: "لا تكونوا عَوْن الشيطان على أخيكم" في حق نُعيْمان بعد إقامة الحدّ عليه؛ ومن أقيم عليه حدُّ الله تعالى فلا ينبغي لعنه، ومَن لم يُقَم عليه الحدّ فلعنته جائزة سواء سُمِّيَ أو عُيِّن أم لا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للّعن؛ فإذا تاب منها وأقلع وطهّره الحدّ فلا لعنة تتوجّه عليه. وبيّن هذا قولُه صلى الله عليه وسلم: "إذا زَنَت أَمَة أحدِكم فليجلدها الحدّ ولا يُثرِّب" . فدلّ هذا الحديث مع صحته على أن التّثريب واللّعن إنما يكون قبل أخذ الحدّ وقبل التوبة؛ والله تعالى أعلم.

قال ٱبن العربي: وأما لعن العاصي مطلقاً فيجوز إجماعاً؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله السارق يَسْرِق البَيْضة فتُقْطع يده" .

الثالثة: قوله تعالى: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أي إبعادهم من رحمته. وأصل اللعن: الطرد والإبعاد؛ وقد تقدم. فاللعنة من العباد الطرد، ومن الله العذاب. وقرأ الحسن البصري «وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَٱلنَّاسُ أَجْمَعون } بالرفع. وتأويلها: أولئك جزاؤهم أن يلعنهم الله وتلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون؛ كما تقول: كرهت قيام زيدٍ وعمروٌ وخالدٌ؛ لأن المعنى: كرهت أن قام زيد. وقراءة الحسن هذه مخالفة للمصاحف.

فإن قيل: ليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم؛ قيل عن هذا ثلاثة أجوبة؛ أحدها: أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة الناس تغليباً لحكم الأكثر على الأقل. الثاني: قال السُّدّي: كل أحد يلعن الظالم، وإذا لعن الكافرُ الظالمَ فقد لعن نفسه. الثالث: قال أبو العالية: المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس؛ كما قال تعالى: { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [العنكبوت: 25]. ثم قال جل وعز: { خَالِدِينَ فِيهَا } يعني في اللعنة؛ أي في جزائها. وقيل: خلودهم في اللعنة أنها مؤبدة عليهم { وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } أي لا يؤخرّون عن العذاب وقتاً من الأوقات. و «خالدين» نصب على الحال من الهاء والميم في «عليهم»؛ والعامل فيه الظرف من قوله: «عليهِم» لأن فيها معنى ٱستقرار اللعنة.