خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ
١٩٨
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: { جُنَاحٌ } أي إثم، وهو ٱسم ليس. { أَن تَبْتَغُواْ } في موضع نصب خبر ليس؛ أي في أن تبتغوا. وعلى قول الخليل والكسائي أنها في موضع خفض. ولما أمر تعالى بتنزيه الحج عن الرَّفَث والفُسوق والجدال رخّص في التجارة؛ المعنى: لا جناح عليكم في أن تبتغوا فضل الله. وٱبتغاءُ الفضل وَرَدَ في القرآن بمعنى التجارة، قال الله تعالى: { فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [الجمعة: 10]. والدليل على صحة هذا ما رواه البخاريّ عن ٱبن عباس قال: كانت عُكَاظ ومَجَنّة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأثّموا أن يتّجروا في المواسم فنزلت: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } في مواسم الحج.

الثانية: إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركاً ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، خلافاً للفقراء. أمَا إن الحج دون تجارة أفضل؛ لعُرُوّها عن شوائب الدنيا وتعلّقِ القلب بغيرها. روى الدَارَقُطْنِيّ في سُننه عن أبي أمامة التَّيمي قال قلت لابن عمر: إني رجل أكرى في هذا الوجه، وإن ناساً يقولون: إنه لا حجّ لك. "فقال ٱبن عمر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله مثل هذا الذي سألتني، فسكت حتى نزلت هذه الآية: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك حَجًّا" .

قوله تعالى: { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ } فيه ست عشرة مسألة.

الأولى: قوله تعالى: { فَإِذَآ أَفَضْتُم } أي ٱندفعتم. ويقال: فاض الإناء إذا ٱمتلأ حتى ينصبّ عن نواحيه. ورجل فَيّاض؛ أي مندفق بالعطاء. قال زُهير:

وأَبْيَضَ فَيّاضٍ يداه غمامةعلى مُعْتَفِيه ما تُغِبّ فواضله

وحديث مستفيض؛ أي شائع.

الثانية: قوله تعالى: { مِّنْ عَرَفَاتٍ } قراءة الجماعة «عَرفاتٍ» بالتنوين؛ وكذلك لو سُمِّيت ٱمرأةٌ بمسلمات؛ لأن التنوين هنا ليس فرقاً بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين. قال النحاس: هذا الجيّد. وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات؛ يقول: هذه عرفات يا هذا، ورأيت عرفاتِ يا هذا، بكسر التاء وبغير تنوين؛ قال: لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين. وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء، تشبيهاً بتاء فاطمة وطلحة. وأنشدوا:

تَنَوّرتها من أذرعاتَ وأهلُهابيَثْرِبَ أدْنَى دارِها نَظَرٌ عالِ

والقول الأوّل أحسن، وأن التنوين فيه على حدّه في مسلمات؛ الكسرة مقابلة الياء في مسلمين والتنوين مقابل النون. وعرفات: ٱسم عَلَم، سُمّي بجَمْع كأذرعات. وقيل: سُمّيَ بما حوله، كأرضٍ سباسِب. وقيل: سُمِّيَتْ تلك البُقْعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها. وقيل: لأن آدم لما هبط وقع بالهند، وحوّاء بجُدّة، فٱجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عَرفة وتعارفَا؛ فسُميَ اليوم عرفة، والموضع عرفات؛ قاله الضحاك. وقيل غير هذا لما تقدّم ذكره عند قوله تعالى: { { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } [البقرة: 128]. قال ٱبن عطية: والظاهر أن ٱسمه مرتجل كسائر أسماء البقاع. وعرفة هي نَعمان الأراك؛ وفيها يقول الشاعر:

تزوّدتُ من نَعمان عُودَ أراكةلهِنْدٍ ولكن منَ يُبَلّغُه هِنْداً

وقيل: هي مأخوذة من العَرْف وهو الطِّيب؛ قال الله تعالى: { عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي طَيّبها، فهي طيبة بخلاف مِنىً التي فيها الفُرُوث والدماء؛ فلذلك سُمِّيتْ عرفات. ويوم الوقوف يوم عرفة. وقال بعضهم: أصل هذين الاسمين من الصبر؛ يقال: رجل عارف، إذا كان صابراً خاشعاً. ويقال في المَثَل: النّفْسُ عَرُوف وما حَملّتها تتحمّل. قال:

فصَبْرْتُ عارفةً لذلك حُرّةً

أي نفس صابرة.

وقال ذو الرُّمّة:

عَرُوفٌ لِما خَطْت عليه المقادِرُ

أي صبور على قضاء الله؛ فسُمّيَ بهذا الاسم لخضوع الحاجّ وتذلّلهم، وصبرهم على الدعاء وأنواع البلاء وٱحتمال الشدائد؛ لإقامة هذه العبادة.

الثالثة: أجمع أهل العلم على أن مَن وقف بعرفة يوم عَرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يُعتدّ بوقوفه ذلك قبل الزوال. وأجمعوا على تمام حَجّ من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهاراً قبل الليل؛ إلا مالك بن أنس فإنه قال: لا بدّ أن يأخذ من الليل شيئاً. وأمّا مَن وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجّه. والحجة للجمهور مطلقُ قوله تعالى: { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } ولم يخصّ ليلاً من نهار، وحديث عُرْوة بن مُضَرِّس قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في الموقف من جَمْعِ، فقلت يا رسول الله، جئتك من جَبَلَيْ طَيْء، أَكْلَلْتُ مَطِيّتي، وأتعبتُ نفْسي، والله إن تركتُ من حَبل إلا وقفتُ عليه، فهل لي مِن حَجّ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلّى معنا صلاةَ الغداة بجَمْع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد قَضَى تَفَثَه وتَمّ حجه" . أخرجه غير واحد من الأئمة، منهم أبو داود والنسائي والدارقُطْنِي واللفظ له. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال أبو عمر: حديث عُرْوة بن مُضَرِّس الطائي حديث ثابت صحيح، رواه جماعة من أصحاب الشّعبي الثقات عن الشعبي عن عروة بن مضرس؛ منهم إسماعيل بن أبي خالد وداود ابن أبي هند وزكريا بن أبي زائدة وعبد اللَّه بن أبي السَّفَر ومُطَرِّف، كلهم عن الشعبيّ عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام. وحجةُ مالك من السُّنة الثابتة: حديث جابر الطويل، خرّجه مسلم؛ وفيه: فلم يزل واقفاً حتى غَرَبت الشمس وذهبت الصُّفرة قليلاً حتى غاب القُرص. وأفعاله على الوجوب، لاسِيّمَا في الحج وقد قال: "خذوا عنّي مناسككم" .

الرابعة: وٱختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه مع صحة الحج؛ فقال عطاء وسفيان الثوريّ والشافعيّ وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم: عليه دَمٌ. وقال الحسن البصري: عليه هَدْيٌ. وقال ٱبن جُريج: عليه بَدَنة. وقال مالك: عليه حجٌّ قابلٌ، والهَدْيُ ينحره في حجّ قابل، وهو كمن فاته الحج. فإن عاد إلى عرفة حتى يَدْفع بعد مغيب الشمس فقال الشافعيّ: لا شيء عليه، وهو قول أحمد وإسحٰق وداود، وبه قال الطبري. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوريّ: لا يسقط عنه الدّم وإن رجع بعد غروب الشمس؛ وبذلك قال أبو ثور.

الخامسة: ولا خلاف بين العلماء في أن الوقوف بعرفة راكباً لمن قدر عليه أفضل؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كذلك وقف إلى أن دَفع منها بعد غروب الشمس، وأردف أسامةَ بن زيد؛ وهذا محفوظ في حديث جابر الطويل وحديث عليّ، وفي حديث ٱبن عباس أيضاً. قال جابر: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القَصْواء إلى الصَّخَرات، وجعل حَبْلَ المُشاة بين يديه وٱستقبل القبلة؛ فلم يزل واقفاً حتى غَرَبت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القُرص، وأردف أسامةَ بن زيد خلفه، الحديث. فإن لم يقدر على الركوب وقف قائماً على رجليه داعياً، ما دام يقدر، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف؛ وفي الوقوف راكباً مباهاةٌ وتعظيم للحج { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } [الحج: 32]. قال ٱبن وهب في مُوَطّئه قال لي مالك: الوقوف بعَرَفة على الدواب والإبل أحبّ إليّ من أن أقف قائماً، قال: ومن وقف قائماً فلا بأس أن يستريح.

السادسة: ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أسامة ابن زيد؛ أنه عليه السلام كان إذا أفاض من عَرَفة يسير العَنَق فإذا وَجد فَجْوَةً نَصَّ. قال هشام بن عروة: والنّص فوق العَنَق. وهكذا ينبغي على أئمة الحاج فَمَن دونهم؛ لأن في ٱستعجال السير إلى المزدلفة ٱستعجال الصلاة بها، ومعلوم أن المغرب لا تُصلَّى تلك الليلة إلا مع العشاء بالمزدلفة، وتلك سُنّتها؛ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

السابعة: ظاهر عموم القرآن والسنة الثابتة يدل على أن عرفة كلها مَوْقف؛ قال صلى الله عليه وسلم: "ووقَفتُ ها هنا وعَرَفة كلها موقف" . رواه مسلم وغيره من حديث جابر الطويل. وفي مُوَطّأ مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عرفةُ كلها موقف وٱرتفعوا عن بطن عُرَنة والمزدلفةُ كلها موقف وٱرتفعوا عن بطن مُحَسِّر" . قال ابن عبد البر: هذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد اللَّه، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث عليّ بن أبي طالب، وأكثر الآثار ليس فيها ٱستثناء بطن عُرَنة من عَرَفة، وبطن مُحَسِّر من المزدلفة؛ وكذلك نقلها الحفاظ الثقات الأثبات من أهل الحديث في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. قال أبو عمر: وٱختلف الفقهاء فيمن وقف بعرفة بعُرَنة؛ فقال مالك فيما ذكر ٱبن المنذر عنه: يُهْرِيق دماً وحجُّه تام. وهذه رواية رواها خالد بن نزار عن مالك. وذكر أبو المصعب أنه كمن لم يقف وحجّه فائت، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عُرَنة. وروي عن ٱبن عباس قال: من أفاض من عُرَنة فلا حج له. وهو قول ٱبن القاسم وسالم، وذكر ٱبن المنذر هذا القول عن الشافعيّ، قال وبه أقول: لا يجزيه أن يقف بمكانٍ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يوقف به. قال ٱبن عبد البر: الاستثناء ببطن عُرَنة من عرفة لم يجىء مجيئاً تلزمُ حُجته، لا من جهة النقل ولا من جهة الإجماع. وحُجة من ذهب مذهب أبي المصعب أن الوقوف بعرفة فرض مجمع عليه في موضع معيّن، فلا يجوز أداؤه إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف. وبطن عُرَنة يقال بفتح الراء وضمها، وهو بغربي مسجد عرفة؛ حتى لقد قال بعض العلماء: إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة. وحكى الباجي عن ٱبن حبيب أن عرفة في الحِلّ، وعرنة في الحَرَم. قال أبو عمر: وأما بطن مُحَسِّر فذكر وَكِيع: حدّثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَوْضَع في بطن مُحَسِّر.

الثامنة: ولا بأس بالتعريف في المساجد يوم عَرَفة بغير عرفة، تشبيهاً بأهل عرفة. روى شعبة عن قتادة عن الحسن قال: أوّل من صنع ذلك ٱبن عباس بالبصرة. يعني ٱجتماع الناس يوم عرفة في المسجد بالبصرة. وقال موسى بن أبي عائشة: رأيت عمر بن حُرَيث يخطب يوم عرفة وقد ٱجتمع الناس إليه. وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن التعريف في الأمصار، يجتمعون يوم عرفة، فقال: أرجو ألا يكون به بأس، قد فعله غير واحد: الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة.

التاسعة: في فضل يوم عرفة. يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم، يكفّر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال؛ قال صلى الله عليه وسلم: "صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية" . أخرجه في الصحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيّون من قبلي لا إلٰه إلا الله وحده لا شريك له" . وروى الدّارَقُطْنِيّ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثرَ أن يُعتق الله فيه عدداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يُباهِي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء" . وفي الموطأ عن عبيد الله بن كَرِيز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أَحْقَر ولا أَدْحَر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزُّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر. قيل: وما رأى (يوم بدر) يا رسول الله؟ قال: أمَا إنه قد رأى جبريل يَزَع الملائكة" . قال أبو عمر: روى هذا الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز عن أبيه، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره وليس بشيء، والصواب ما في الموطأ. وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: حدّثنا حاتم بن نعيم التميمي أبو روح قال حدّثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي قال حدّثنا عبد القاهر بن السري السّلمي قال حدّثني ٱبنٌ لكنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه عن جدّه عباس بن مرداس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشيّةَ عرفة بالمغفرة والرحمة، وأكثر الدعاء فأجابه: إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضاً فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها. قال: يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيراً من مظلمته وتغفر لهذا الظالم فلم يجبه تلك العشِيّة؛ فلما كان الغداة غداة المزدلفة ٱجتهد في الدعاء فأجابه: إني قد غفرت لهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقيل له: تبسمْتَ يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها؟ فقال: تبسمت من عدوّ الله إبليس إنه لما علم أن الله قد ٱستجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثُّبور وَيحْثي التراب على رأسه وَيفِرّ" . وذكر أبو عبد الغني الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدّثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منىً غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسُّؤّال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إلٰه إلا الله إلا غفر له" . قال أبو عمر: هذا حديث غريب من حديث مالك، وليس محفوظاً عنه إلا من هذا الوجه؛ وأبو عبد الغني لا أعرفه، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد، وإنما كانوا يتشدّدون في أحاديث الأحكام.

العاشرة: ٱستحب أهل العلم صوم يوم عرفة إلا بعرفة. روى الأئمة واللفظ للترمذي عن ٱبن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة، وأرسلت إليه أمّ الفضل بلبن فشرب. قال: حديث حسن صحيح. وقد روى عن ٱبن عمر قال: «حججت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يصمه ـ يعني يوم عرفة ـ ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه؛ والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، يستحبون الإفطار بعرفة ليتقوّى به الرجل على الدعاء، وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة». وأسند عن ٱبن عمر مثل الحديث الأوّل، وزاد في آخره: ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه؛ حديث حسن. وذكره ابن المنذر. وقال عطاء في صوم يوم عرفة: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف. وقال يحيى الأنصاري: يجب الفطر يوم عرفة. وكان عثمان بن أبي العاصي وابن الزبير وعائشة يصومون يوم عرفة. قال ابن المنذر: الفطر يوم عرفة بعرفات أحب إليّ، ٱتباعَاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصوم بغير عرفة أحبّ إليّ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد "سئل عن صوم يوم عرفة فقال: يكفر السنة الماضية والباقية" . وقد روينا عن عطاء أنه قال: من أفطر يوم عرفة ليتقوّى على الدعاء فإن له مثل أجر الصائم.

الحادية عشرة: في قوله تعالى: { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ } أي ٱذكروه بالدعاء والتّلبية عند المشعر الحرام. ويسمَّى جَمْعاً لأنه يجمع ثَمّ المغرب والعشاء؛ قاله قتادة. وقيل: لاجتماع آدم فيه مع حوّاء، وٱزدلف إليها، أي دنا منها، وبه سُمّيت المزدلفة. ويجوز أن يقال: سُمّيت بفعل أهلها؛ لأنهم يزدلفون إلى الله، أي يتقرّبون بالوقوف فيها. وسُميَ مَشْعَراً من الشّعار وهو العلامة؛ لأنه معلم للحج والصلاة والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحج. ووصف بالحرام لحُرْمته.

الثانية عشرة: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعاً. وأجمع أهل العلم ـ لا ٱختلاف بينهم ـ أن السُّنة أن يَجْمع الحاج بجَمْع بين المغرب والعشاء. وٱختلفوا فيمن صلاّها قبل أن يأتي جَمْعاً؛ فقال مالك: مَن وقف مع الإمام ودَفع بدفعه فلا يصلّي حتى يأتي المزدلفة فيجمع بينها؛ وٱستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد: "الصلاة أمامك" . قال ٱبن حبيب: من صلّى قبل أن يأتي المزدلفة دون عذر يعيد متى ما عَلم، بمنزلة من قد صلى قبل الزوال؛ لقوله عليه السلام: "الصلاة أمامك" وبه قال أبو حنيفة. وقال أشهب: لا إعادة عليه، إلا أن يصلّيهما قبل مغيب الشَّفَق فيعيد العشاء وحدها؛ وبه قال الشافعي، وهو الذي نصره القاضي أبو الحسن، وٱحتج له بأن هاتين صلاتان سُنّ الجمع بينهما، فلم يكن ذلك شرطاً في صحتهما، وإنما كان على معنى الاستحباب؛ كالجمع بين الظهر والعصر بعرفة. وٱختار ابن المنذر هذا القول، وحكاه عن عطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير وأحمد وإسحٰق وأبي ثور ويعقوب. وحكي عن الشافعي أنه قال: لا يصلّي حتى يأتي المزدلفة، فإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما.

الثالثة عشرة: ومن أسرع فأتى المزدلفة قبل مغيب الشفق فقد قال ٱبن حبيب: لا صلاة لمن عجل إلى المزدلفة قبل مغيب الشفق، (لا لإمام ولا غيره حتى يغيب الشفق)؛ لقوله عليه السلام: "الصلاة أمامك" ثم صلاّها بالمزدلفة بعد مغيب الشفق. (ومن جهة المعنى أن وقت هذه الصلاة بعد مغيب الشفق)؛ فلا يجوز أن يؤتى بها قبله، ولو كان لها وقت قبل مغيب الشفق لما أُخّرت عنه.

الرابعة عشرة: وأما من أتى عرفة بعد دفع الإمام، أو كان له عذر ممن وقف مع الإمام فقد قال ٱبن الموّاز: من وقف بعد الإمام فليصل كل صلاة لوقتها. وقال مالك فيمن كان له عذر يمنعه أن يكون مع الإمام: إنه يصلي إذا غاب الشفق الصلاتين يجمع بينهما. وقال ابن القاسم فيمن وقف بعد الإمام: إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل فليؤخّر الصلاة حتى يأتي المزدلفة، وإلا صلّى كل صلاة لوقتها. فجعل ٱبنُ الموّاز تأخير الصلاة إلى المزدلفة لمن وقف مع الإمام دون غيره، وراعى مالك الوقت دون المكان، وٱعتبر ٱبن القاسم الوقت المختار للصلاة والمكان، فإذا خاف فوات الوقت المختار بطل ٱعتبار المكان، وكان مراعاة وقتها المختار أوْلى.

الخامسة عشرة: ٱختلف العلماء في هيئة الصلاة بالمزدلفة على وجهين: أحدهما: الأذان والإقامة. والآخر: هل يكون جمعهما متصلاً لا يفصل بينهما بعمل، أو يجوز العمل بينهما وحطّ الرّحال ونحو ذلك؛ فأما الأذان والإقامة فثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين. أخرجه الصحيح من حديث جابرالطويل، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وٱبن المنذر. وقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين، وكذلك الظهر والعصر بعرفة؛ إلا أن ذلك في أوّل وقت الظهر بإجماع. قال أبو عمر: لا أعلم فيما قاله مالك حديثاً مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه، ولكنه روي عن عمر بن الخطاب، وزاد ٱبنُ المنذر ٱبنَ مسعود. ومن الحجة لمالك في هذا الباب من جهة النظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنّ في الصلاتين بمزدلفة وعرفة أن الوقت لهما جميعاً وقت واحد، وإذا كان وقتهما واحداً وكانت كل صلاة تصلّى في وقتها لم تكن واحدة منهما أوْلى بالأذان والإقامة من الأخرى؛ لأن ليس واحدة منهما تقضي، وإنما هي صلاة تصلّى في وقتها، وكلّ صلاة صُلّيت في وقتها سُنّتها أن يؤذّن لها وتقام في الجماعة، وهذا بيّن؛ والله أعلم. وقال آخرون: أما الأولى منهما فتُصلَّى بأذان وإقامة، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة. قالوا: وإنما أمر عمر بالتأذين الثاني لأن الناس قد تفرّقوا لعشائهم فأذّن ليجمعهم. قالوا: وكذلك نقول إذا تفرّق الناس عن الإمام لعشاء أو غيره، أمر المؤذّنين فأذّنوا ليجمعهم، وإذا أذّن أقام. قالوا: فهذا معنى ما روي عن عمر، وذكروا حديث عبد الرحمن بن يزيد قال: كان ٱبن مسعود يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين، وفي طريق أخرى وصلّى كل صلاة بأذان وإقامة؛ ذكره عبد الرزاق. وقال آخرون: تُصلَّى الصلاتان جميعاً بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في شيء منهما؛ روي عن ٱبن عمر وبه قال الثوري. وذكر عبد الرزاق وعبد الملك بن الصباح عن الثوريّ عن سلمة بن كُهَيل عن سعيد بن جبير عن ٱبن عمر قال: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجَمْع، صلى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة واحدة" وقال آخرون: تُصلّى الصلاتان جميعاً بين المغرب والعشاء بجَمْع بأذان واحد وإقامة واحدة. وذهبوا في ذلك إلى ما رواه هُشيم عن يونس بن عبيد عن سعيد بن جبير عن ٱبن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجَمْع بأذان واحد وإقامة واحدة؛ لم يجعل بينهما شيئاً. وروي مثل هذا مرفوعاً من حديث خزيمة بن ثابت، وليس بالقويّ. وحكى الجُوزْجاني عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنهما تُصلّيان بأذان واحد وإقامتين، يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط. وإلى هذا ذهب الطحاوي لحديث جابر، وهو القول الأوّل وعليه المعوّل. وقال آخرون: تصلّى بإقامتين دون أذان لواحدة منهما. وممن قال ذلك الشافعيّ وأصحابه وإسحٰق وأحمد ابن حنبل في أحد قوليه، وهو قول سالم بن عبد اللَّه والقاسم بن محمد؛ وٱحتجوا بما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن ٱبن شهاب عن سالم عن ٱبن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء، صلّى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ولم يصل بينهما شيئاً. قال أبو عمر: والآثار عن ٱبن عمر في هذا القول مِن أثبت ما روي عنه في هذا الباب، ولكنها محتملة للتأويل، وحديث جابر لم يُختلف فيه، فهو أولى؛ ولا مدخل في هذه المسألة للنظر، وإنما فيها الاتباع.

السادسة عشرة: وأما الفصل بين الصلاتين بعمل غير الصلاة فثبت عن أسامة بن زيد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء؛ ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلاها، ولم يصل بينهما شيئاً. في رواية: ولم يَحُلُّوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حَلّوا. وقد ذكرنا آنفاً عن ٱبن مسعود أنه كان يجعل العشاء بين الصلاتين؛ ففي هذا جواز الفصل بين الصلاتين بجَمْع. وقد سئل مالك فيمن أتى المزدلفة: أيبدأ بالصلاة أو يؤخر حتى يحطّ عن راحلته؟ فقال: أما الرّحل الخفيف فلا بأس أن يبدأ به قبل الصلاة، وأما المحامل والزوامل فلا أرى ذلك، وليبدأ بالصلاتين ثم يحطّ عن راحلته. وقال أشهب في كتبه: له حطّ رَحْله قبل الصلاة؛ وحطّه له بعد أن يصلي المغرب أحبّ إليّ ما لم يضطر إلى ذلك؛ لمَا بدابّته من الثّقل، أو لغير ذلك من العذر. وأما التنفل بين الصلاتين فقال ٱبن المنذر: ولا أعلمهم يختلفون أن من السُّنة ألا يتطوّع بينهما الجامع بين الصلاتين، وفي حديث أسامة: ولم يُصَلّ بينهما شيئاً.

السابعة عشرة: وأما المبيت بالمزدلفة فليس رُكْناً في الحج عند الجمهور. وٱختلفوا فيما يجب على من لم يبِتْ بالمزدلفة ليلة النحر ولم يقف بجَمْع؛ فقال مالك: مَن لم يبت بها فعليه دم، ومن قام بها أكثر ليله فلا شيء عليه؛ لأن المبيت بها ليلة النحر سُنّة مؤكّدة عند مالك وأصحابه، لا فرض؛ ونحوه قول عطاء والزهريّ وقتادة وسفيان الثوري وأحمد وإسحٰق وأبي ثور وأصحاب الرأي فيمن لم يبِت. وقال الشافعيّ: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة ٱفتدى، والفِذية شاة. وقال عكرمة والشعبيّ والنخعيّ والحسن البصري: الوقوف بالمزدلفة فرض، ومن فاته جَمْع ولم يقف فقد فاته الحجّ، ويجعل إحرامه عُمرة. وروي ذلك عن ٱبنُ الزبير وهو قول الأوزاعيّ. وروي عن الثوري مثل ذلك، والأصح عنه أن الوقوف بها سُنة مؤكدة. وقال حماد ٱبن أبي سليمان: من فاتته الإفاضة من جَمْع فقد فاته الحج؛ وليتحلّل بعمرة ثم ليحج قابلاً. وٱحتجوا بظاهر الكتاب والسُّنة؛ فأما الكتاب فقول الله تعالى: { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ }، وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أدرك جَمْعاً فوقف مع الناس حتى يُفيض فقد أدرك ومَن لم يُدرك ذلك فلا حجّ له" . ذكره ٱبن المنذر. وروى الدّارَقُطْنِي "عن عُرْوة بن مُضَرِّس: قال أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بجَمْع فقلت له: يا رسول الله، هل لي من حجّ؟ فقال: مَن صلّى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا حتى نُفيض وقد أفاض قبل ذلك (من عرفات) ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجه وقضى تَفَثَه" . قال الشعبي: من لم يقف بجَمْع جعلها عُمرة. وأجاب مَن ٱحتج للجمهور بأن قال: أما الآية فلا حُجة فيها على الوجوب في الوقوف ولا المبيت، إذ ليس ذلك مذكوراً فيها، وإنما فيها مجرد الذكر. وكلٌّ قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله أن حَجّه تام، فإذا لم يكن الذكر المأمور به من صُلب الحج فشهود الموطن أوْلى بألا يكون كذلك. قال أبو عمر: وكذلك أجمعوا أن الشمس إذا طلعت يوم النحر فقد فات وقت الوقوف بجَمْع، وأن من أدرك الوقوف بها قبل طلوع الشمس فقد أدرك، ممن يقول إن ذلك فرض، ومن يقول إن ذلك سُنّة. وأما حديث عروة بن مُضَرِّس فقد جاء في بعض طرقه بيان الوقوف بعرفة دون المبيت بالمزدلفة، ومثله حديث عبد الرحمن بن يَعْمَر الدِّيلي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، وأتاه ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تمّ حجه" . رواه النسائي قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان - يعني الثوري - عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال شهدت...؛ فذكره. ورواه ابن عُيينة عن بكير عن عبد الرحمن بن يعمر الدِّيلي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك وأيامُ مِنىً ثلاثة فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه" . وقوله في حديث عروة: "مَن صلّى صلاتنا هذه" . فذكر الصلاة بالمزدلفة؛ فقد أجمع العلماء أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصل مع الإمام حتى فاتته أن حجّه تام. فلما كان حضور الصلاة مع الإمام ليس من صلب الحج كان الوقوف بالموطن الذي تكون فيه الصلاة أحرى أن يكون كذلك. قالوا: فلم يتحقق بهذا الحديث ذلك الفرض إلا بعرفة خاصة.

الثامنة عشرة: قوله تعالى: { وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } كرر الأمر تأكيداً؛ كما تقول: ٱرْمِ ٱرْمِ. وقيل: الأوّل أمْرٌ بالذكر عند المَشْعَر الحرام. والثاني أمرٌ بالذكر على حكم الإخلاص. وقيل: المراد بالثاني تعديد النعمة وأمرٌ بشكرها؛ ثم ذكّرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام فقال: { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ }. والكاف في «كما» نعتٌ لمصدر محذوف، و «ما» مصدريّة أو كافة. والمعنى: ٱذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هدايةً حسنة، وٱذكروه كما علّمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه. و «إنْ» مخففة من الثقيلة، يدلّ على ذلك دخول اللام في الخبر؛ قال سيبويه. الفراء: نافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلا؛ كما قال:

ثكلتك أمُّك إنْ قَتلتَ لمسلماًحلّت عليك عقوبة الرحمن

أو بمعنى قد؛ أي قد كنتم؛ ثلاثة أقوال. والضمير في «قبله» عائد إلى الهدى. وقيل إلى القرآن؛ أي ما كنتم من قبل إنزاله إلا ضالين. وإن شئت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، كناية عن غير مذكور؛ والأوّل أظهر والله أعلم.