خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٢١
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } فيه سبع مسائل:

الأُولى ـ قوله تعالى: { وَلاَ تَنْكِحُواْ } قراءة الجمهور بفتح التاء. وقُرئت في الشاذ بالضم؛ كأنّ المعنى أن المتزوّج لها أنكحها من نفسه. ونكح أصله الجماع، ويستعمل في التزوّج تجوّزا وٱتّساعاً، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

الثانية ـ لما أذِن الله سبحانه وتعالى في مخالطة الأيتام، وفي مخالطة النكاح بيّن أن مناكحة المشركين لا تصح. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي مِرْثَدٍ الغَنَوِيّ، وقيل: في مرثد بن أبي مرثد، وٱسمه كنّاز بن حُصين الغنوِيّ. بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكةَ سِرّاً ليُخرج رجلاً من أصحابه؛ وكانت له بمكة ٱمرأةٌ يحبها في الجاهلية يقال لها «عَنَاق» فجاءته؛ فقال لها: إن الإسلام حرّم ما كان في الجاهلية؛ قالت: فتزوّجني؛ قال: حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فٱستأذنه فنهاه عن التزوّج بها؛ لأنه كان مسلماً وهي مشركة. وسيأتي في «النور» بيانه إن شاء الله تعالى.

الثالثة ـ وٱختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقالت طائفة: حرّم الله نكاح المشركات في سورة «البقرة» ثم نسخ من هذه الجملة نساءَ أهل الكتاب؛ فأحلهنّ في سورة «المائدة». ورُوى هذا القول عن ٱبن عباس، وبه قال مالك بنُ أنس وسفيانُ بن سعيد الثوريّ، وعبدُ الرحمن بنُ عمروٍ الأُوزاعيّ. وقال قتَادة وسعيد بنُ جُبير: لفظ الآية العمومُ في كل كافرة، والمراد بها الخصوص في الكتابيات؛ وبيّنت الخصوص آيةُ «المائدة» ولم يتناول العمومُ قطُّ الكتابياتِ. وهذا أحد قولي الشافعيّ، وعلى القول الأوّل يتناولهنّ العمومُ، ثم نَسخت آية «المائدة» بعضَ العموم. وهذا مذهب مالكٍرحمه الله ، ذكره ٱبن حبيب؛ وقال: ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستثقَل مذموم. وقال إسحاق بنُ إبراهيم الحربيّ: ذهب قوم فجعلوا الآية التي في «البقرة» هي الناسخة، والتي في «المائدة» هي المنسوخة؛ فحرّموا نكاح كلِّ مشركة كتابية أو غير كتابية. قال النحاس: ومن الحجة لقائلِ هذا مما صح سنده ما حدّثنَاه محمد بنُ رَيّان، قال: حدّثنا محمد بنُ رُمح، قال: حدّثنا اللّيث عن نافع أن عبد الله بنَ عمر كان إذا سُئل عن نكاح الرجل النصرانيةَ أو اليهوديةَ قال: حرّم الله المشركاتِ على المؤمنين، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظمَ من أن تقول المرأةُ ربُّها عيسى، أو عبدٌ من عباد الله! قال النحاس: وهذا قولٌ خارجٌ عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة؛ لأنه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعةٌ؛ منهم عثمانُ وطلحةُ وٱبنُ عباسٍ وجابرٌ وحذيفةُ. ومن التابعين سعيدُ بنُ المسيّب وسعيدُ بنُ جُبيرٍ والحسنُ ومجاهدٌ وطاوس وعكرمةُ والشَّعبيّ والضحاكُ؛ وفقهاءُ الأمصار عليه. وأيضاً فيمتنع أن تكون هذه الآيةُ من سورة «البقرة» ناسخةً للآية التي في سورة «المائدة» لأن «البقرة» من أوّل ما نزل بالمدينة، و «المائدةَ» من آخر ما نزل. وإنما الآخر يَنْسَخ الأوّلَ، وأما حديث ٱبن عمرَ فلا حجة فيه؛ لأن ٱبنَ عمرَرحمه الله كان رجلاً متوقِّفاً، فلما سمع الآيتين، في واحدةٍ التحليلُ، وفي أُخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقّف؛ ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تُؤوّل عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل. وذكر ٱبن عطية: وقال ٱبن عباس في بعض ما رُوي عنه: إن الآيةَ عامةٌ في الوثنّيات والمجوسيّات والكتابيات، وكلّ مَنْ على غير الإسلام حرام؛ فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في «المائدة» وينظر إلى هذا قول ٱبن عمرَ في الموطّأ: ولا أعلم إشراكاً أعظمَ من أن تقول المرأة ربّها عيسى. ورُوي عن عمر أنه فرّق بين طلحة بنِ عبيد الله وحُذيفة بن اليَمَان وبين كتابيتين وقالا: نُطَلِّقُ يا أمير المؤمنين ولا تغضَب؛ فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أُفَرِّقُ بينكما صَغْرةً قَمْأة. قال ٱبن عطية: وهذا لا يستند جيداً، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حُذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهنّ. ورُوي عن ٱبن عباس نحوُ هذا. وذكر ٱبن المنذر جوازَ نكاحِ الكتابيات عن عمر بن الخطاب، ومَن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس. وقال في آخر كلامه: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرّم ذلك. وقال بعض العلماء: وأما الآيتان فلا تعارض بينهما؛ فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب؛ لقوله تعالى: { { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } } [البقرة: 105]، وقال: { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ } [البينة: 1] ففرّق بينهم في اللفظ؛ وظاهرُ العطف يقتضي مغايرةً بين المعطوف والمعطوف عليه، وأيضاً فاسم الشرك عمومٌ وليس بنصّ، وقوله تعالى: { { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [المائدة: 5] بعد قوله: { { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } [المائدة: 5] نصُّ؛ فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل. فإن قيل: أراد بقوله: { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } أي أُوتوا الكتاب من قبلكم وأسلموا؛ كقوله: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } [آل عمران: 199] الآية. وقوله: { { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } [آل عمران: 113] الآية. قيل له: هذا خلاف نصّ الآية في قوله: { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } وخلافُ ما قاله الجمهور؛ فإنه لا يُشكِل على أحدٍ جوازُ التزويج ممن أسلم وصار من أعيان المسلمين. فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ } فجعل العلّة في تحريم نكاحهنّ الدعاء إلى النار. والجواب أن ذلك علة لقوله تعالى: { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ } لأن المشرك يدعو إلى النار؛ وهذه العلة مطّردة في جميع الكفار؛ فالمسلمُ خيرٌ من الكافر مطلقاً؛ وهذا بيّن.

الرابعة ـ وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حَرْباً فلا يحِلّ؛ وسئل ٱبن عباس عن ذلك فقال: لا يَحلّ، وتَلاَ قولَ الله تعالى: { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } } [التوبة: 29] إلى قوله: «صَاغِرُونَ». قال المحدّث: حدّثت بذلك إبراهيم النّخعيّ فأعجبه. وكَرِه مالكٌ تزوّجَ الحربيّات، لعلة تركِ الولدِ في دار الحرب، ولتصرّفها في الخمر والخنزير.

الخامسة ـ قوله تعالى: { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ } إخبارٌ بأن المؤمنةَ المملوكةَ خَيْرٌ من المشركة، وإن كانت ذاتَ الحسب والمال. { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } في الحسن وغير ذلك؛ هذا قول الطبريّ وغيره. ونزلت في خَنساءَ وليدةٍ سوداءَ كانت لحذيفةَ بنِ اليمان؛ فقال لها حذيفة: يا خنساءُ، قد ذُكرت في الملأ الأعلى مع سوادِك ودمامَتِك، وأنزل الله تعالى ذكرك في كتابه، فأعتقها حُذيفةُ وتزوّجها. وقال السُّدّيّ: "نزلت في عبد الله بن رَواحةَ، كانت له أُمَةٌ سوداءُ فلطمها في غضب ثم نَدِم، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فقال: ما هي يا عبدَ الله قال: تصوم وتُصلِّي وتُحسِن الوضوءَ وتَشهد الشهادتين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه مؤمنة" . فقال ٱبن رواحة: لأَعتِقنّها ولأَتزوّجنّها؛ ففعل؛ فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أَمَةً؛ وكانوا يرون أن ينكحوا إلى المشركين، وكانوا ينكحونهم رغبة في أحسابهم، فنزلت هذه الآية. والله أعلم.

السادسة ـ وٱختلف العلماء في نكاح إماءِ أهلِ الكتاب؛ فقال مالكٌ: لا يجوز نكاحُ الأَمَة الكتابيّة. وقال أشهبُ في كتاب محمد، فيمن أسلم وتحته أَمَةٌ كتابية: إنه لا يُفرَّق بينهما. وقال أبو حنيفة وأصحابُه، يجوز نكاحُ إماءِ أهلِ الكتاب. قال ٱبن العربيّ: دَرَسنا الشيخُ أبو بكر الشاشيّ بمدينة السلام قال: ٱحتج أصحاب أبي حنيفة على جواز نكاح الأَمَة (الكتابية) بقوله تعالى: { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ }. ووجه الدليل من الآية أن الله سبحانه خاير بين نكاحِ الأَمَةِ المؤمنةِ والمشركةِ؛ فلولا أن نكاحَ الأَمة المشركة جائزٌ لما خاير الله تعالى بينهما؛ لأن المخايرة إنما هي بين الجائزين لا بين جائز وممتنع، ولا بين متضادّين. والجواب أن المخايرة بين الضدّين تجوز لغة وقرآناً: لأن الله سبحانه قال: { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [الفرقان: 24]. وقال عمر في رسالته لأبي موسى: «الرّجوعُ إلى الحقّ خيرٌ من التّمادي في الباطل». جواب آخر: قوله تعالى: { وَلأَمَةٌ } لم يُرِد به الرّقّ المملوكَ وإنما أراد به الآدمية؛ والآدميات والآدميون بأجمعهم عَبيدُ الله وإماؤه؛ قاله القاضي بالبصرة أبو العباس الجُرْجانيّ.

السابعة ـ وٱختلفوا في نكاح نساءِ المجوس؛ فمنع مالكٌ والشافعيّ وأبو حنيفة والأُوزاعيُّ وإسحاقُ من ذلك. وقال ٱبن حَنْبل: لا يعجبني. ورُوي أن حُذَيفة بن اليمان تزوّج مجوسية، وأن عُمَر قال له: طلِّقها. وقال ٱبنُ القَصّار: قال بعض أصحابنا: يجب على أحد القولين أنّ لهم كتاباً أن تجوز مناكحتهم. وروى ٱبن وهبٍ عن مالكٍ أن الأَمَةَ المجوسيّة لا يجوز أن تُوطأ بِملْك اليمين، وكذلك الوثنياتُ وغيرُهن من الكافرات؛ وعلى هذا جماعة العلماء، إلا ما رواه يحيى بنُ أيوبَ عن ٱبنِ جُريج عن عطاءٍ وعمرو بنِ دينارٍ أنهما سئلا عن نكاح الإماءِ المجوسيات؛ فقالا: لا بأس بذلك. وتأوّلا قول الله عز وجل: { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ }. فهذا عندهما على عقد النكاح لا على الأَمَة المشتراة؛ واحتجّا بسَبْي أَوْطاس؛ وأن الصحابة نكحوا الإماءَ منهنّ بِملْك اليمين. قال النحاس: وهذا قول شاذّ؛ أماسَبْيُ أَوْطاس فقد يجوز أن يكون الإماءُ أسلمن فجاز نكاحهنّ، وأما الاحتجاج بقوله تعالى: { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } فغلط؛ لأنهم حملوا النكاح على العَقْد؛ والنكاح في اللغة يقع على العَقْد وعلى الوطء؛ فلما قال: { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ } حَرّم كلَّ نكاح يقع على المشركات من نكاح ووطء. وقال أبو عمر بن عبد البر: وقال الأُوزاعيّ: سألت الزُّهريّ عن الرجل يشتري المجوسيَّة أيطؤها؟ فقال: إذا شهدت أن لا إلۤه إلا الله وَطِئها. وعن يونس عن ٱبن شهاب قال: لا يحلّ له أن يطأها حتى تُسلِم. قال أبو عمر: قول ٱبن شهاب لا يحل له أن يطأها حتى تُسلِم هذا ـ وهو أعلم الناس بالمغازي والسِّيَرِ ـ دليلٌ على فساد قولِ مَن زعم أن سَبْيَ أوْطاس وُطِئن ولم يُسلِمْنَ. رُوي ذلك عن طائفة منهم عطاءٌ وعمرُو بن دينارٍ قالا: لا بأس بوطء المجوسية؛ وهذا لم يلتفت إليه أحدٌ من الفقهاء بالأمصار. وقد جاء عن الحسن البصريّ ـ وهو ممن لم يكن غَزْوُه ولا غَزْوُ (أهل) ناحيتِه إلا الفُرس وما وراءهم من خُرَاسان، وليس منهم أحدٌ أهلَ كتاب ـ ما يُبيِّن لك كيف كانت السّيرة في نسائهم إذا سُيبن، قال: أخبرنا عبد الله ابنُ محمد بن أسد، قال: حدّثنا إبراهيمُ بنُ أحمد بن فراس، قال: حدّثنا عليّ بن عبد العزيز، قال: حدّثنا أبو عبيد، قال: حدّثنا هشام عن يونس عن الحسن، قال: قال رجل له: يا أبا سعيد كيف كنتم تصنعون إذا سبيتموهنّ؟ قال: كنا نوجهها إلى القبلة ونأمرها أن تُسلِم وتَشهد أن لا إلۤه إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ ثم نأمرها أن تغتسل، وإذا أراد صاحبُها أن يصيبَها لم يُصبها حتى يستبرئَها. وعلى هذا تأويلُ جماعةِ العلماء في قول الله تعالى: { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } أنهنّ الوثنيّاتُ والمجوسيّاتُ؛ لأن الله تعالى قد أحلّ الكتابيات بقوله: { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } } [المائدة: 5] يعني العفائفَ، لا من شُهر زناها من المسلمات. ومنهم من كَرِه نكاحَها ووطأَها بِملْك اليمين ما لم يكن منهنّ توبة؛ لما في ذلك من إفساد النَّسَب.

قوله تعالىٰ: { وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } فيه إحدى عشرة مسألة:

الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَلاَ تُنْكِحُواْ } أي لا تزوّجوا المسلمةَ من المشرك. وأجمعت الأُمّة على أن المشرك لا يطأ المؤمنةَ بوجهٍ؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام. والقُرّاء على ضم التاء من «تنكِحوا».

الثانية ـ في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلاَّ بوَلِيّ. قال محمد بنُ عليّ بن الحسين: النكاح بوليّ في كتاب الله؛ ثم قرأ { وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ }. قال ٱبن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاحَ إلاَّ بوَليّ" وقد ٱختلف أهل العلم في النكاح بغير وَلِيٍّ، فقال كثير من أهل العلم: لا نكاح إلاَّ بوليٍّ؛ رُوي هذا الحديث عن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه وعليّ بنِ أبي طالب وٱبنِ مسعود وٱبن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، وبه قال سعيدُ بنُ المسيّب والحسنُ البصري وعمرُ بن عبد العزيز وجابرُ ابن زيد وسفيان الثوريُّ وٱبنُ أبي ليلى وٱبن شُبْرُمَة وٱبنُ المبارك والشافعيّ وعبيدُ الله بنُ الحسن وأحمدُ وإسحاقُ وأبو عبيد.

قلت: وهو قول مالكٍ رضي الله عنهم أجمعين وأبي ثور والطبريّ. قال أبو عمر: حُجَّةُ من قال: «ولا نكاح إلاَّ بوليّ» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه قال: "لا نِكاح إلاَّ بوَليّ" . روى هذا الحديثَ شعبةُ والثوريُّ عن أبي إسحاقَ عن أبي بُرْدةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرسَلاً؛ فمن يقبل المراسيل يلزمه قَبولُه، وأما من لا يقبل المراسيل فيلزمه أيضاً؛ لأن الذين وصلوه من أهل الحفظ والثّقة. وممن وصله إسرائيلُ وأبو عَوَانة كلاهما عن أبي إسحاق عن أبي بُرْدة عن أبي موسىٰ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وإسرائيلُ ومَن تابعه حُفّاظ، والحافظُ تُقبل زيادته، وهذه الزيادة يعضُدها أُصول؛ قال الله عزّ وجلّ: { { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } } [البقرة: 232]. وهذه الآية نزلت في مَعْقِل بنِ يَسار إذ عَضَل أختَه عن مراجعة زوجها؛ قاله البخاريّ. ولولا أن له حقّاً في الإنكاح ما نُهِيَ عن العَضْل.

قلت: ومما يدل على هذا أيضاً من الكتاب قوله: { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } [النساء: 25] وقوله: { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } } [النور: 32] فلم يخاطب تعالىٰ بالنكاح غيرَ الرجال؛ ولو كان إلى النساء لذكرهنّ. وسيأتي بيان هذا في «النور» وقال تعالىٰ حكاية عن شعيب في قصة موسى عليهما السَّلام: «إنِّي أُرِيدُ أنْ أَنْكِحَكَ» على ما يأتي بيانه في سورة «القصص». وقال تعالىٰ: { { ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ } } [النساء: 34]؛ فقد تعاضد الكتاب والسُّنّةُ على أن لا نكاح إلاَّ بوليّ. قال الطبريّ: في حديث حفصة حين تأيَّمت وعقد عمرُ عليها النكاحَ ولم تَعقِده هي إبطالُ قولِ من قال: إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسِها وعقدَ النكاح دون وَلِيِّها؛ ولو كان ذلك لها لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيَدَعَ خِطبة حفصة لنفسها إذا كانت أولى بنفسها من أبيها، وخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقدَ عليها؛ وفيه بيان قولِه عليه السَّلام: "الأَيِّمُ أحقُّ بنفسها من وَلِيِّهَا" أن معنى ذلك أنها أحقّ بنفسها في أنه لا يعَقِد عليها إلاَّ برضاها، لا أنها أحقّ بنفسها في أن تَعقِد عقد النكاح على نفسها دون وَلِيِّهَا. وروى الدَّارَقُطْنِيُّ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُزَوِّج المرأةُ المرأةَ ولا تُزوِّجُ المرأةُ نفسَها فإن الزانية هي التي تزوّج نفسها" . قال: حديث صحيح. وروى أبو داود من حديث سفيان عن الزُّهريّ عن عُروةَ عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّما ٱمرأةٍ نُكحت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل ـ ثلاث مرّات ـ فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولِيُّ من لا ولِيَّ له" . وهذا الحديث صحيح. ولا ٱعتبار بقول ٱبن عُلَيّةَ عن ٱبن جريج أنه قال: سألت عنه الزهريّ فلم يعرفه، ولم يقل هذا أحد عن ٱبن جريج غير ٱبن عُلَيْةَ؛ وقد رواه جماعة عن الزُّهريّ لم يذكروا ذلك، ولو ثبت هذا عن الزهريّ لم يكن في ذلك حجةٌ؛ لأنه قد نقله عنه ثقات؛ منهم سليمان بن موسى وهو ثقةٌ إمامٌ وجعفرُ بنُ ربيعة؛ فلو نسيه الزّهريّ لم يضرّه ذلك؛ لأن النسيان لا يُعصم منه ٱبن آدم؛ قال صلى الله عليه وسلم: "نَسِيَ آدمُ فنسيت ذرّيتُه" . وكان صلى الله عليه وسلم يَنْسَى؛ فَمن سواه أَحْرَى أن يَنْسَى، ومن حفِظ فهو حجة على من نَسِيَ؛ فإذا رَوى الخَبَر ثقةٌ فلا يضرّه نسيانُ من نَسِيَه؛ هذا لو صح ما حكى ٱبن عُلَيّة عن ٱبن جُريج، فكيف وقد أنكر أهل العلم ذلك من حكايته ولم يعرّجوا عليها.

قلت: وقد أخرج هذا الحديثَ أبو حاتم محمدُ بن حِبّان التميميّ البُسْتِيّ في المسند الصحيح له ـ على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها، ولا ثبوتِ جِرْح في ناقلها ـ عن حفص بن غِيَاث عن ٱبن جُريج عن سليمان بن موسى عن الزّهريّ عن عُروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاحَ إلاَّ بوليّ وشاهِدَي عَدْل وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل فإن تشاجروا فالسلطان وَلِيُّ من لا وَلِيَّ له" . قال أبو حاتم: لم يقل أحد في خبر ٱبن جُريج عن سليمان بن موسى عن الزُّهريّ هذا: «وشاهِدَيْ عَدْل» إلاَّ ثلاثةُ أنْفُسٍ: سُويدُ بن يحيى الأمِويّ عن حفص بن غياث وعبدُ الله بن عبد الوهاب الجمحِيّ عن خالد بن الحارث وعبدُ الرحمن بن يونس الرّقّي عن عيسى بن يونس؛ ولا يصح في الشاهدين غيرُ هذا الخبر، وإذا ثبت هذا الخبر فقد صرّح الكتابُ والسنةُ بأن لا نكاح إلاَّ بوَلِيّ؛ فلا معنى لما خالفهما. وقد كان الزُّهريّ والشَّعبيّ يقولان: إذا زوّجت المرأةُ نفسَها كفؤا بشاهدين فذلك نكاحٌ جائز. وكذلك كان أبو حنيفة يقول: إذا زوّجت المرأةُ نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاحٌ جائزٌ؛ وهو قول زُفَرَ. وإن زوّجت نفسَها غير كُفْءٍ فالنكاحُ جائزٌ، وللأولياء أن يفرّقوا بينهما. قال ٱبن المنذر: وأما ما قاله النعمان فمخالف للسُّنة، خارجٌ عن قول أكثرِ أهل العلم. وبالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول. وقال أبو يوسف: لا يجوز النكاح إلاَّ بوَلِيٍّ؛ فإن سَلّم الوَلِيُّ جاز، وإن أبَىٰ أن يُسلِّم والزوج كُفْءٌ أجازه القاضي. وإنما يتمّ النكاحُ في قوله حين يجيزه القاضي؛ وهو قولُ محمدِ بن الحسن؛ وقد كان محمدُ بنُ الحسن يقول: يأمر القاضي الولِيَّ بإجازته؛ فإن لم يفعل ٱستأنف عَقْداً. ولا خلافَ بين أبي حنيفة وأصحابه أنه إذا أذن لها وليُّها فعقدت النكاحَ بنفسِها جاز. وقال الأوزاعيّ: إذا وَلَّت أمرها رجلاً فزوّجها كفؤا فالنكاح جائز، وليس للوَلِيِّ أن يفرّق بينهما؛ إلاَّ أن تكون عربية تزوّجت مَوْلًى؛ وهذا نحو مذهبِ مالك على ما يأتي. وحمل القائلون بمذهب الزُّهْريّ وأبي حنيفة والشَّعبيّ قولَه عليه السَّلام: "لا نكاح إلاَّ بوَلِيٍّ" على الكمال لا على الوجوب؛ كما قال عليه السَّلام: "لا صلاةَ لجار المسجد إلاَّ في المسجد" : و "لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصَّلاة" . وٱستدلوا على هذا بقوله تعالىٰ: { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } [البقرة: 232]، وقوله تعالىٰ: { { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [البقرة: 234]، وبما روى الدَّارَقُطْنِي عن سِماكِ بنِ حربٍ قال: جاء رجل إلى عليّ رضي الله عنه فقال: ٱمرأةٌ أنا وَلِيُّها تزوّجت بغير إذني؟ فقال عليّ: يُنظر فيما صنعت، فإن كانت تزوّجت كفؤا أَجَزْنا ذلك لها، وإن كانت تزوجت من ليس لها بكفء جعلنا ذلك إليك. وفي الموطّأ أن عائشة رضي الله عنها زوّجت بنت أخيها عبد الرّحمٰن وهو غائب، الحديث. وقد رواه ٱبن جُريج عن عبد الرحمٰن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكحت رجلاً هو المُنِذر بن الزُّبير ٱمرأةً من بني أخيها فضربت بينهم بِسترٍ، ثم تكلّمت حتى إذا لم يبق إلاَّ العقدُ أمرت رجلاً فأنكح؛ ثم قالت: ليس على النساء إنكاح. فالوجه في حديث مالكٍ أن عائشة قرّرت المهرَ وأحوالَ النكاح، وتولّى العقدَ أحدُ عَصَبَتها، ونُسِب العقد إلى عائشة لمّا كان تقريرهُ إليها.

الثالثة ـ ذكر آبن خُوَيْزِ مَنْدَاد: وٱختلفت الرواية عن مالك في الأولياء، من هم؟ فقال مرّة: كل من وضع المرأة في مَنْصِب حَسَن فهو وَلِيُّها، سواءٌ كان من العَصَبة أو من ذوِي الأرحام أو الأجانبِ أو الإمامِ أو الوصِيّ. وقال مرّة: الأولياء من العَصَبة، فمن وضعها منهم في منصِب حَسَن فهو وَلِيٌّ. وقال أبو عمر: قال مالك فيما ذَكر ٱبنُ القاسم عنه: إن المرأة إذا زوّجها غيرُ وَليِّها بإذنها فإن كانت شريفةً لها في الناس حالٌ كان وليُّها بالخيار في فسخ النكاح وإقراره، وإن كانت دنِيئة كالمعتَقَةِ والسَّوْداء والسّعاية والمسلمانية، ومن لا حال لها جاز نكاحُها؛ ولا خيارَ لولِيِّها لأن كل واحدٍ كُفْءٌ لها؛ وقد رُوي عن مالك أن الشريفة والدّنيئة لا يزوّجها إلاَّ وليُّها أو السلطانُ؛ وهذا القول ٱختاره ٱبن المنذر، قال: وأما تفريق مالكٍ بين المسكينة والتي لها قَدْرٌ فغيرُ جائزِ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد سوَّى بين أحكامهم في الدَّماء فقال: "المسلمون تتكافؤ دماؤهم" . وإذا كانوا في الدّماء سواءً فهم في غير ذلك شيء واحدٌ. وقال إسماعيل بنُ إسـحاق: لما أمر الله سبحانه بالنكاح جعلَ المؤمنين بعضَهُم أولياءَ بعضٍ فقال تعالىٰ: { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } } [التوبة: 71] والمؤمنون في الجملة هكذا يرث بعضهم بعضاً؛ فلو أن رجلاً مات ولا وارثَ له لكان ميراثُه لجماعةِ المسلمين؛ ولو جَنَى جنايةً لعَقَل عنه المسلمون، ثم تكون ولايةٌ أقربُ مِن ولايةٍ، وقرابةٌ أقربُ من قرابة. وإذا كانت المرأة بموضع لا سلطانَ فيه ولا وَلِيّ لها فإنها تصيِّر أمرَها إلى مَن يوثَق به من جيرانها؛ فيزوّجُها ويكون هو وليَّها في هذه الحال؛ لأن الناس لا بُدَّ لهم من التزوّيج، وإنما يعملون فيه بأحسنِ ما يمكن؛ وعلى هذا قال مالكٌ في المرأة الضعيفة الحال: إنه يزوّجها من تُسنِد أمَرها إليه، لأنها ممن تضعف عن السلطان فأشبهت من لا سلطانَ بحضرتها؛ فرجعت في الجملة إلى أن المسلمين أولياؤها؛ فأمّا إذا صيّرت أمرَها إلى رجل وتركت أولياءها فإنها أخذت الأمرَ من غير وجهه، وفعلتْ ما ينكره الحاكمُ عليها والمسلمون؛ فيفسخ ذلك النكاح من غير أن يُعلم أن حقيقته حرام؛ لما وصفنا من أن المؤمنين بعضُهم أولياءُ بعض، ولما في ذلك من الاختلاف؛ ولكن يُفسخ لتناول الأمر من غير وجهه، ولأنه أحْوطُ للفروج ولتحصينها؛ فإذا وقع الدخول وتطاول الأمر وولَدَت الأولادَ وكان صواباً لم يجز الفسخ؛ لأن الأُمور إذا تفاوتت لم يُرد منها إلاَّ الحرامُ الذي لا يُشكّ فيه، ويُشبه ما فات من ذلك بحكم الحاكم إذا حكم بحكم لم يُفسخ إلاَّ أن يكون خطأ لا شكّ فيه. وأما الشافعيّ وأصحابُه فالنكاح عندهم بغير وَلِيٍّ مفسوخٌ أبداً قبل الدخول وبعده، ولا يتوارثان إن مات أحدهما. والولِيُّ عندهم من فرائض النكاح؛ لقيام الدليل عندهم من الكتاب والسنة: قال الله تعالىٰ: { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } } [النور: 32] كما قال: { { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } [النساء: 25]، وقال مخاطباً للأولياء: «فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ». وقال عليه السَّلام: "لاَ نكاح إلاَّ بولِيٍّ" . ولم يفرّقوا بين دَنِيّة الحال وبين الشريفة، لإجماع العلماء على أن لا فرق بينهما في الدِّماء؛ لقوله عليه السَّلام: "المسلمون تتكافؤ دماؤهم" . وسائر الأحكام كذلك. وليس في شيء من ذلك فرق بين الرفيع والوضيع في كتاب ولا سنة.

الرابعة ـ وٱختلفوا في النكاح يقع على غير وَليّ ثم يُجيزه الوليُّ قبل الدخول؛ فقال مالك وأصحابُه إلاَّ عبد الملك: ذلك جائز، إذا كانت إجازته لذلك بالقرب؛ وسواء دخل أو لم يدخل. هذا إذا عقد النكاح غيرُ وليّ ولم تَعِقده المرأةُ بنفسها؛ فإن زوّجت المرأةُ نفسَها وعقدت عُقدة النكاح من غير وليّ قريب ولا بعيد من المسلمين فإن هذا النكاح لا يُقَرّ أبداً على حال وإن تطاول وولَدَت الأولاد؛ ولكنه يُلْحق الولد إن دخل، ويسقط الحدّ؛ ولا بدّ من فسخ ذلك النكاح على كلّ حال. وقال ٱبن نافع عن مالكٍ: الفسخ فيه بغير طلاق.

الخامسة ـ وٱختلف العلماء في منازل الأولياء وترتيبِهم؛ فكان مالكٌ يقول: أوّلهم البنون وإن سَفَلوا، ثم الآباء، ثم الإخوة للأب والأُم، ثم للأب، ثم بنو الإخوة للأب والأُمّ، ثم بنو الإخوة للأب، ثم الأجداد للأب وإن عَلَوْا، ثم العُمومة على ترتيب الإخوة، ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة وإن سَفلوا، ثم المولى ثم السلطان أو قاضيه. والوصيُّ مقدّم في إنكاح الأيتام على الأولياء، وهو خليفة الأب ووكيلهُ؛ فأشبه حاله لو كان الأب حيّاً. وقال الشافعي: لا ولايةَ لأحد مع الأب، فإن مات فالجد، ثم أبُ أبِ الجَدِّ؛ لأنهم كلهم آباء. والولاية بعد الجد للإخوة، ثم الأقرب. وقال المُزِنيُّ: قال في الجديد: من ٱنفرد بأُمٍّ كان أوْلَى بالنكاح؛ كالميراث. وقال في القديم: هما سواء.

قلت: وروى المدنيّون عن مالكٍ مثلَ قولِ الشافعيّ، وأنّ الأبَ أوْلى من الابن؛ وهو أحد قولي أبي حنيفة؛ حكاه الباجيّ. ورُوي عن المغيرة أنه قال: الجَدُّ أوْلَى من الإخوة؛ والمشهور من المذهب ما قدّمناه. وقال أحمد: أحقّهم بالمرأة أن يزوّجَها أبوها؛ ثم الابن، ثم الأخ، ثم ٱبنُه، ثم العَمّ. وقال إسحاق الابن أوْلىٰ من الأب؛ كما قاله مالكٌ، وٱختاره ابنُ المنذر؛ لأن عمرَ بنَ أُمّ سلمة زوّجها بإذنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: أخرجه النَّسائيّ عن أُمّ سلمة وترجم له (إنكاح الابن أمَّه).

قلت: وكثيراً ما يستدل بهذا علماؤنا وليس بشيء؛ والدليل على ذلك ما ثبت في الصّحاح أن عمرَ ابنَ أبي سلمة قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة؛ فقال: "يا غلامُ سَمِّ الله وكُلْ بيمينك وكُلْ مما يليك" . وقال أبو عمر في كتاب الاستيعاب: عمر بن أبي سلمة يُكنَى أبا حفص، وُلد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة. وقيل: إنه كان يومَ قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ٱبنَ تسع سنين.

قلت: ومن كان سِنُّه هذا لا يصلح أن يكون ولِيّاً، ولكن ذكر أبو عمر أن لأبي سلمة من أُمّ سلمة ٱبنا آخرَ ٱسمه سلمة، وهو الذي عقَد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أُمّه أُمِّ سلمة، وكان سلمةُ أسنَّ من أخيه عمر بن أبي سلمة، ولا أحفظ له روايةً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد روى عنه عمرُ أخوه.

السادسة ـ وٱختلفوا في الرجل يزوّج المرأةَ الأَبْعَدُ مِن الأولياء ـ كذا وقع، والأقربُ عبارةً أن يُقال: ٱختُلف في المرأة يزوّجها من أوليائها الأبعدُ والأقعد حاضر؛ فقال الشافعيّ: النكاح باطل. وقال مالكٌ: النكاح جائز. قال ٱبن عبد البر: إن لم ينكر الأقعدُ شيئاً من ذلك ولا رَدّه نَفَذَ، وإن أنكره وهي ثيّب أو بِكْرٌ بالغٌ يتيمةٌ ولا وصيّ لها فقد ٱخْتَلف قول مالكٍ وأصحابِه وجماعةٍ من أهل المدينة في ذلك؛ فقال منهم قائلون: لا يُردّ ذلك وَيَنفُذ؛ لأنه نكاح ٱنعقد بإذن ولِيٍّ من الفخِذ والعَشِيرة. ومن قال هذا منهم لا يَنْفُذُ قال: إنما جاءت الرُّتبة في الأولياء على الأفضل والأوْلىٰ، وذلك مستحب وليس بواجب. وهذا تحصيل مذهب مالكٍ عند أكثر أصحابه، وإياه ٱختار إسماعيل بن إسحاق وأتباعُه. وقيل: ينظر السلطانُ في ذلك ويسأل الوليَّ الأقرب على ما ينكره، ثم إن رأى إمضاءه أمضاه، وإن رأى أن يردّه ردّه. وقيل: بل للأقعد ردّه على كل حال، لأنه حقٌّ له. وقيل: له ردّه وإجازته ما لم يطل مكثها وتلِد الأولاد؛ وهذه كلها أقاويل أهل المدينة.

السابعة ـ فلو كان الوليّ الأقرب محبوساً أو سفيهاً زوّجها من يليه من أوليائها، وعُدّ كالميت منهم؛ وكذلك إذا غاب الأقرب من أوليائها غيبة بعيدة أو غيبة لا يُرجىٰ لها أوْبَةٌ سريعةٌ زوّجها من يليه من الأولياء. وقد قيل: إذا غاب أقرب أوليائها لم يكن للذي يليه تزويجها، ويزوّجها الحاكم، والأوّل قول مالك.

الثامنة ـ وإذا كان الولِيّان قد ٱستويا في القُعْدد وغاب أحدهما وفوّضت المرأة عقد نكاحها إلى الحاضر لم يكن للغائب إن قدِم نُكْرتُه. وإن كانا حاضرَيْن ففوّضت أمرها إلى أحدِهما لم يزوّجها إلاَّ بإذن صاحبه؛ فإن ٱختلفا نطر الحاكم في ذلك، وأجاز عليها رأى أحسنهما نظرا لها؛ رواه ٱبن وهب عن مالك.

التاسعة ـ وأما الشهادة على النكاح فليست بركن عند مالكٍ وأصحابه؛ ويكفي من ذلك شهرتُه والإعلانُ به، وخرج عن أن يكون نكاح سِرٍّ. قال ٱبن القاسم عن مالك: لو زوّج ببيّنة، وأمرهم أن يكتموا ذلك لم يجز النكاح؛ لأنه نكاحُ سِرّ. وإن تزوّج بغير بيّنة على غير ٱستِسرار جاز، وأشهدا فيما يستقبلان. وروى ٱبن وهب عن مالك في الرجل يتزوّج المرأة بشهادة رجلين ويستكتمهما قال: يُفَرَّق بينهما بتطليقة ولا يجوز النكاح، ولها صداقها إن كان أصابها، ولا يُعاقب الشاهدان. وقال أبو حنيفة والشافعيُّ وأصحابُهما: إذا تزوّجها بشاهدين وقال لهما: ٱكتما جاز النكاح. قال أبو عمر: وهذا قول يحيى بن يحيى الليثيّ الأندلسيّ صاحبنا، قال: كل نكاح شَهِد عليه رجلان فقد خرج من حدّ السرّ؛ وأظنه حكاه عن اللَّيث بن سعد. والسِّرُّ عند الشافعيّ والكوفيين ومن تابعهم: كلّ نكاح لم يَشهد عليه رجلان فصاعداً، ويفسخ على كل حال.

قلت: قولَ الشافعي أصحُّ للحديث الذي ذكرناه. وروي عن ابن عباس أنه قال: لا نكاح إلاَّ بشاهِدَيْ عَدْلٍ ووَلِيٍّ مُرِشد؛ ولا مخالف له من الصحابة فيما علمتُه. وٱحتج مالكٌ لمذهبه أن البيوع التي ذكرها الله تعالىٰ فيها الإشهادُ عند العقد؛ وقد قامت الدلالة بأن ذلك ليس من فرائض البيوع. والنكاح الذي لم يَذكر الله تعالىٰ فيه الأشهادَ أَحْرَىٰ بألاّ يكون الإشهاد فيه من شروطه وفرائضه، وإنما الغرض الإعلانُ والظهورُ لحفظ الأنساب. والإشهاد يصلح بعد العقد للتداعي والاختلافِ فيما ينعقد بين المتناكحين؛ وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعلنوا النكاح" . وقول مالك هذا قولُ ٱبنِ شهاب وأكثرِ أهل المدينة.

العاشرة ـ قوله تعالىٰ: { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ } أي مملوك { خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ } أي حَسيِب. { وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } أي حَسَبه وماله؛ حسب ما تقدّم. وقيل المعنى: ولرجل مؤمن، وكذا ولأَمَة مؤمنة، أي ولا ٱمرأة مؤمنة، كما بيّناه. قال صلى الله عليه وسلم: "كلُّ رجالِكم عَبيد الله وكلُّ نسائِكم إماء الله" وقال: "لا تمنعوا إماء الله مساجدَ الله" وقال تعالىٰ: { { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 30، 44]. وهذا أحسن ما حمل عليه القول في هذه الآية، وبه يرتفع النزاع ويزول الخلاف؛ والله الموفق.

الحادية عشرة ـ قوله تعالىٰ: { أُوْلَـٰئِكَ } إشارة للمشركين والمشركات. { يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ } أي إلى الأعمال الموجبة للنار؛ فإن صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النَّسَل. { وَٱللَّهُ يَدْعُوۤ إِلَى ٱلْجَنَّةِ } أي إلى عمل أهل الجنة. { بِإِذْنِهِ } أي بأمره؛ قاله الزّجاج.