خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٢٩
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فيه سبع مسائل:

الأُولى: قوله تعالى: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكانت عندهم العِدّةُ معلومةً مقدّرةً؛ وكان هذا في أوّل الإسلام برهة، يطلِّق الرجل ٱمرأته ما شاء من الطلاق؛ فإذا كادت تحل من طلاقه راجعها ما شاء؛ فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا آوِيك ولا أدَعُك تحِلِّين؛ قالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضيّ عدّتِكِ راجعتك. فشكت المرأة ذلك إلى عائشة؛ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية بياناً لعدد الطَّلاق الذي للمرء فيه أن يرْتَجع دون تجديد مهر ووَليّ، ونسخ ما كانوا عليه. قال معناه عروة بن الزبير وقتادة وٱبن زيد وغيرهم. وقال ابن مسعود وٱبن عباس ومجاهد وغيرهم: المراد بالآية التعريف بسنّة الطلاق؛ أي من طلق ٱثنتين فليتق الله في الثالثة، فإما تَرَكها غير مظلومة شيئاً من حقّها، وإما أمْسَكها محسناً عشرتها؛ والآية تتضمن هذين المعنيين.

الثانية: الطلاق هو حَلّ العِصمة المنعقدةِ بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها، وبقوله عليه السلام في حديث ٱبن عمر: "فإن شاء أمسك وإن شاء طلق" وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها؛ خرّجه ٱبن ماجه. وأجمع العلماء على أن من طلق ٱمرأته طاهراً في طهر لم يمسها فيه أنه مطلِّق للسنّة، وللعدّة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرّجعة إذا كانت مدخولاً بها قبل أن تنقضي عدّتها؛ فإذا ٱنقضت فهو خاطب من الخُطّاب. فدل الكتاب والسنة وإجماع الأمّة على أن الطلاق مباح غير محظور. قال ٱبن المنذر: وليس في المنع منه خبر يثبت.

الثالثة ـ روى الدارقطنِيّ «حدّثني أبو العباس محمد بن موسى بن عليّ الدُّولابِيّ ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدّثنا الحسن بن عرفة حدّثنا إسماعيل بن عياش بن حميد بن مالك اللخميّ عن مكحول عن معاذ بن جبل قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ ما خلق الله شيئاً على وجه الأرض أحب إليه من العِتاق ولا خلق الله تعالى شيئاً على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا ٱستثناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنتِ طالق إن شاء الله فله ٱستثناؤه ولا طلاق عليه" . حدّثنا محمد بن موسى بن عليّ حدّثنا حميد بن الربيع حدّثنا يزيد بن هارون أنبأنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد قال لي يزيد بن هارون: وأيّ حديث لو كان حميد بن مالك اللخميّ معروفا! قلت: هو جدِّي! قال يزيد: سررتني، ٱلآن صار حديثاً»!. قال ٱبن المنذر: وممن رأى الاستثناء في الطلاق طاوس وحماد والشافعيّ وأبو ثور وأصحاب الرأي. ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعيّ؛ وهو قول الحسن وقتادة في الطلاق خاصة. قال: وبالقول الأوّل أقول.

الرابعة: قوله تعالى: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } ٱبتداء، والخبر أمثل أو أحسن؛ ويصح أن يرتفع على خبر ٱبتداء محذوف؛ أي فعليكم إمساكٌ بمعروف، أو فالواجب عليكم إمساك بما يعرف أنه الحق. ويجوز في غير القرآن «فإمساكا» على المصدر. ومعنى «بِإحْسَانٍ» أي لا يظلمها شيئاً من حقها، ولا يتعدّى في قول. والإمساك: خلاف الإطلاق. والتّسْريحُ: إرسال الشيء؛ ومنه تسريح الشعر؛ ليخلص البعض من البعض. وسَرّح الماشية: أرسلها. والتسريح يحتمل لفظه معنيين: أحدهما ـ تركها حتى تتمّ العدّة من الطلقة الثانية؛ وتكون أملك لنفسها؛ وهذا قول السدّيّ والضحاك. والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها؛ هذا قول مجاهد وعطاء وغيرِهما؛ وهو أصح لوجوه ثلاثة:

أحدها: ما رواه الدارقطني "عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله، قال الله تعالى: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } فلِم صار ثلاثاً؟ قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ـ في رواية ـ هي الثالثة" . ذكره ٱبن المنذر.

الثاني ـ أن التسريح من ألفاظ الطلاق؛ ألا ترى أنه قرىء «إن عزموا السّراح».

الثالثة: أنّ فَعّل تَفْعِيلا يعطي أنه أحدث فعلاً مكرّراً على الطلقة الثانية؛ وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل؛ قال أبو عمر: وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ } هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين؛ وإياها عنى بقوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [البقرة: 230]. وأجمعوا على أن من طلق ٱمرأته طلقة أو طلقتين فله مراجعتها؛ فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره؛ وكان هذا من محكم القرآن الذي لم يختلف في تأويله. وقد روي من أخبار العدول مثل ذلك أيضاً: حدّثنا سعيد بن نصر قال حدّثنا قاسم بن أصبغ قال حدّثنا محمد بن وَضَّاح قال حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدّثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن سُمَيْع عن أبي رُزَيْن قال: "جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى: الطَّلاقُ مَرّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحسان فأين الثالثة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" . ورواه الثوريّ وغيره عن إسماعيل بن سُمَيع عن أبي رُزَيْن مثله.

قلت: وذكر الكِيا الطبريّ هذا الخبر وقال: إنه غير ثابت من جهة النقل؛ ورجّح قول الضحاك والسدّيّ، وأن الطلقة الثالثة إنما هي مذكورة في مساق الخطاب في قوله تعالى: { { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } } [البقرة: 230]. فالثالثة مذكورة في صلب هذا الخطاب، مفيدة للبَيْنُونة الموجِبَة للتحريم إلا بعد زوج؛ فوجب حمل قوله: «أو تسريح بإحسان» على فائدة مجدّدة، وهو وقوع البينونة بالثنتين عند ٱنقضاء العدّة، وعلى أن المقصود من الآية بيان عدد الطلاق الموجِب للتحريم، ونسخ ما كان جائزاً من إيقاع الطلاق بلا عدد محصور؛ فلو كان قوله: «أو تسريح بإحسان» هو الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث؛ إذ لو ٱقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرّمة لها إلا بعد زوج؛ وإنما علم التحريم بقوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ }. فوجب ألا يكون معنى قوله: «أو تسريح بإسحان» الثالثة، ولو كان قوله: «أو تسريح بإحسان» الثالثة، كان قوله عقيب ذلك: «فإن طلقها» الرابعة؛ لأن الفاء للتعقيب، وقد ٱقتضى طلاقاً مستقبلاً بعد ما تقدّم ذكره؛ فثبت بذلك أن قوله تعالى: «أو تسريح بإحسان» هو تركها حتى تنقضي عدّتها.

الخامسة ـ ترجم البخاريّ على هذه الآية «باب من أجاز الطلاق الثلاث بقوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فُسْحَة لهم؛ فمن ضيّق على نفسه لزمه. قال علماؤنا: وٱتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة؛ وهو قول جمهور السلف، وشذّ طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة؛ ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطاة. وقيل عنهما: لا يلزم منه شيء؛ وهو قول مقاتل. ويحكى عن داود أنه قال لا يقع. والمشهور عن الحجاج بن أرطاة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثاً. ولا فرق بين أن يوقع ثلاثاً مجتمعة في كلمة أو متفرّقة في كلمات؛ فأما من ذهب إلى أنه لا يلزم منه شيء فٱحتج بدليل قوله تعالى: { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } } [البقرة: 228]. وهذا يعُمُّ كل مطلقة إلا ما خص منه؛ وقد تقدّم. وقال: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } والثالثة { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }. ومن طلق ثلاثاً في كلمة فلا يلزم؛ إذ هو غير مذكور في القرآن. وأما من ذهب إلى أنه واقع واحدةً فٱستدل بأحاديث ثلاثةٍ: أحدها ـ حديث ٱبن عباس من رواية طاوس وأبي الصَّهْباء وعكرمة. وثانيها ـ حديث ٱبن عمر على رواية من روى أنه طلق ٱمرأته ثلاثاً، وأنه عليه السلام أمره برجعتها وٱحتسبت له واحدة. وثالثها ـ أن رُكَانَة طلق ٱمرأته ثلاثاً فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها؛ والرجعة تقتضي وقوع واحدة. والجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاويّ أن سعيد بن جبير ومجاهداً وعطاء وعمرو بن دينار ومالك بن الحويرث ومحمد بن إياس بن البُكَيْر والنعمان بن أبي عياش رووا عن ٱبن عباس فيمن طلق ٱمرأته ثلاثاً أنه قد عصى ربه وبانت منه ٱمرأته، ولا ينكحها إلا بعد زوج؛ وفيما رواه هؤلاء الأئمة عن ٱبن عباس مما يوافق الجماعة ما يدل على وهن رواية طاوس وغيره؛ وما كان ٱبن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه. قال ٱبن عبد البر: ورواية طاوس وَهْمٌ وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق والمشرق والمغرب؛ وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ٱبن عباس. قال القاضي أبو الوليد الباجي: «وعندي أن الرواية عن ٱبن طاوس بذلك صحيحة، فقد روى عنه الأئمة: مَعْمَر وٱبن جريج وغيرهما؛ وٱبن طاوس إمام. والحديث الذي يشيرون إليه هو ما رواه ٱبن طاوس عن أبيه عن ٱبن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة؛ فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد ٱستعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة؛ فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم. ومعنى الحديث أنهم كانوا يوقِعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس الآن ثلاث تطليقات؛ ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر قال: إن الناس قد ٱستعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة؛ فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق ٱستعجال أمر كانت لهم فيه أناة؛ فلو كان حالهم ذلك في أوّل الإسلام في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما قاله، ولا عاب عليهم أنهم ٱستعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ٱبن عباس من غير طريقٍ أنه أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة؛ فإن كان هذا معنى حديث ٱبن طاوس فهو الذي قلناه، وإن حمل حديث ٱبن عباس على ما يتأوّل فيه من لا يُعْبأ بقوله فقد رجع ٱبن عباس إلى قول الجماعة وٱنعقد به الإجماع؛ ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يُلزَمه، أصل ذلك إذا أوقعه مفرداً».

قلت: ما تأوّله الباجيّ هو الذي ذكر معناه الكيا الطبريّ عن علماء الحديث؛ أي إنهم كانوا يطلّقون طلقة واحدة هذا الذي يطلّقون ثلاثاً، أي ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة؛ وإنما كانوا يطلقون في جميع العدّة واحدة إلى أن تَبِين وتنقضي العدّة. وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: معناه أن الناس كانوا يقتصرون على طلقة واحدة، ثم أكثروا أيام عمر من إيقاع الثلاث. قال القاضي: وهذا هو الأشبه بقول الراوي: إن الناس في أيام عمر ٱستعجلوا الثلاث فعَجّل عليهم؛ معناه ألزمهم حكمها. وأما حديث ٱبنِ عمر فإن الدارقطنِيّ روى عن أحمد بن صبيح عن طريف بن ناصح عن معاوية بن عمار الدهنيّ عن أبي الزبير قال: سألت ٱبن عمر عن رجل طلق ٱمرأته ثلاثاً وهي حائض؛ فقال لي: أتعرف ٱبن عمر؟ قلت: نعم؛ قال: طلقت ٱمرأتي ثلاثاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهي حائض) فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السُّنّة. فقال الدارقطنيّ: كلهم من الشيعة؛ والمحفوظ أن ٱبن عمر طلق ٱمرأته واحدة في الحيض. قال عبيد الله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة. وكذلك قال صالح بن كيسان وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أُمية وليث بن سعد وٱبن أبي ذئب وٱبن جريج وجابر وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن نافع: أن ٱبن عمر طلق تطليقة واحدة. وكذا قال الزهريّ عن سالم عن أبيه ويونس بن جبير والشعبيّ والحسن. وأما حديث رُكَانَة فقيل: إنه حديث مضطرب منقطع، لا يستند من وجه يحتج به؛ رواه أبو داود من حديث ٱبن جريج عن بعض بني أبي رافع، وليس فيهم من يحتج به، عن عكرمة " عن ٱبن عباس. وقال فيه: إن رُكانة بن عبد يزيد طلق ٱمرأته ثلاثاً؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرجعها" . وقد رواه أيضاً من طرق عن نافع بن عجير أن ركانة بن عبد يزيد طلق ٱمرأته البتة فٱستحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد بها؟ فحلف ما أراد إلا واحدة؛ فردّها إليه. فهذا ٱضطراب في الاسم والفعل؛ ولا يحتج بشيء من مثل هذا.

قلت: قد أخرج هذا الحديث من طرقٍ الدّارقطنيّ في سننه؛ قال في بعضها: «حدّثنا محمد بن يحيى بن مِرداس حدّثنا أبو داود السجستانيّ حدّثنا أحمد ابن عمرو بن السرح وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبيّ وآخرون قالوا: حدّثنا محمد بن إدريس الشافعي حدّثني عمى محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن عليّ بن السائب "عن نافع بن عجير ابن عبد يزيد: أن ركانة ابن عبد يزيد طلق ٱمرأته سُهَيْمة المزنية البَتّة؛ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فقال: والله ما أردت إلا واحدة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال رُكانة: والله ما أردت بها إلا واحدة؛ فردّها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" ؛ فطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب، والثالثة في زمان عثمان. قال أبو داود: هذا حديث صحيح». فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق ٱمرأته البتة لا ثلاثاً؛ وطلاق البتّةِ قد ٱختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج والحمد لله، والله أعلم. وقال أبو عمر: رواية الشافعيّ لحديث ركانة عن عمه أتمّ، وقد زاد زيادة لا تردّها الأُصول؛ فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعيّ وعمه وجدّه أهل بيت ركانة، كلهم من بني عبد المطلب بن عبد مناف وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم.

فصل ـ ذكر أحمد بن محمد بن مغيث الطليطليّ هذه المسألة في وثائقه فقال: الطلاق ينقسم على ضربين: طلاقِ سنةٍ، وطلاقِ بِدعةٍ. فطلاق السنة هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه. وطلاق البدعة نقيضه، وهو أن يطلقها في حيض أو نفاس أو ثلاثاً في كلمة واحدة؛ فإن فعل لزمه الطلاق. ثم ٱختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلِّق، كم يلزمه من الطلاق؛ فقال عليّ بن أبي طالب وٱبن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ٱبن عباس، وقال: قوله ثلاثاً لا معنى له لأنه لم يطلق ثلاث مرات وإنما يجوز قوله في ثلاث إذا كان مخبراً عما مضى فيقول: طلقت ثلاثاً فيكون مخبراً عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات فذلك يصح، ولو قرأها مرة واحدة فقال: قرأتها ثلاث مرات كان كاذباً. وكذلك لو حلف بالله ثلاثاً يردّد الحِلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف فقال: أحلف بالله ثلاثاً لم يكن حلف إلا يميناً واحدة والطلاق مثله. وقاله الزبير بن العوّام وعبد الرحمن بن عوف. وروينا ذلك كله عن ٱبن وضاح؛ وبه قال من شيوخ قرطبة ٱبن زِنباع شيخ هدى ومحمد بن تقيّ بن مخلد ومحمد بن عبد السلام الحسنيّ فريد وقته وفقيه عصره وأصبغ بن الحباب وجماعة سواهم. وكان من حجة ٱبن عباس أن الله تعالى فرّق في كتابه لفظ الطلاق فقال عز ٱسمه: «الطَّلاَقُ مَرّتانِ» يريد أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة في العدّة. ومعنى قوله: «أو تسريح بإحسانٍ» يريد تركها بلا ٱرتجاع حتى تنقضي عدّتها؛ وفي ذلك إحسان إليها إن وقع ندم بينهما؛ قال الله تعالى: { { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } } [الطلاق: 1]. يريد الندم على الفرقة والرغبة في الرجعة؛ وموقع الثلاث غير حسن؛ لأن فيه ترك المندوحة التي وسع الله بها ونبه عليها؛ فذكر اللَّهِ سبحانه الطلاق مفرّقاً يدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد، وقد يخرّج بقياس من غير ما مسألة من المدوّنة ما يدل على ذلك؛ من ذلك قول الإنسان: مالي صدقة في المساكين أن الثلث يجزيه من ذلك. وفي الإشراف لابن المنذر: وكان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثاً فهي واحدة.

قلت: وربماٱعتلوا فقالوا: غير المدخول بها لا عدّة عليها؛ فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً فقد بانت بنفس فراغه من قوله: أنت طالق؛ فيرِد «ثلاثاً» عليها وهي بائن فلا يؤثر شيئاً؛ ولأن قوله: أنت طالق مستقل بنفسه؛ فوجب ألا تقف البينونة في غير المدخول بها على ما يرد بعده؛ أصله إذا قال: أنت طالق.

السَّادسة ـ ٱستدل الشافعيّ بقوله تعالىٰ: { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وقوله: { { وَسَرِّحُوهُنَّ } [الأحزاب: 49] على أن هذا اللفظ من صريح الطلاق. وقد ٱختلف العلماء في هذا المعنى؛ فذهب القاضي أبو محمد إلى أن الصريح ما تضمن لفظ الطلاق على أيّ وجه؛ مثل أن يقول: أنت طالق، أو أنت مطلقة، أو قد طلقتك، أو الطلاق له لازم، وما عدا ذلك من ألفاظ الطلاق ممايستعمل فيه فهو كناية؛ وبهذا قال أبو حنيفة. وقال القاضي أبو الحسن: صريح ألفاظِ الطلاق كثيرة، وبعضها أبْيَن من بعضٍ: الطلاق والسراح والفراق والحرام والخلِية والبرية. وقال الشافعيّ: الصريح ثلاثة ألفاظ؛ وهو ما ورد به القرآن من لفظ الطلاق والسراح والفراق؛ قال الله تعالىٰ: { { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [الطلاق: 2] وقال: { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وقال: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } [الطلاق: 1].

قلت: وإذا تقرَّرَ هذا فالطلاق على ضربين: صريح وكناية؛ فالصريح ما ذكرنا، والكناية ما عداه، والفرق بينهما أن الصريح لا يفتقر إلى نية؛ بل بمجرّد اللفظ يقع الطلاق، والكناية تفتقر إلى نية، والحجة لمن قال: إن الحرام والخلِية والبرِية من صريح الطلاق كثرة ٱستعمالها في الطلاق حتى عرفت به؛ فصارت بَيِّنة واضحة في إيقاع الطلاق؛ كالغائط الذي وضع للمطمئن من الأرض، ثم ٱستعمل على وجه المجاز في إتيان قضاء الحاجة، فكان فيه أبْيَن وأظهر وأشهر منه فيما وضع له، وكذلك في مسألتنا مثله. ثم إن عمر بن عبد العزيز قد قال: «لو كان الطلاق ألفاً ما أبقت ٱلبتة منه شيئاً؛ فمن قال: البتة، فقد رمى الغاية القصوىٰ » أخرجه مالك. وقد روى الدارقطنيّ عن عليّ قال: الخلِية والبرية والبتّة والبائن والحرام ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ٱلبتّة ثلاث، من طريق فيه لِين؛ خرّجه الدّارقطنيّ. وسيأتي عند قوله تعالىٰ: { { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً } [البقرة: 231] إن شاء الله تعالىٰ.

السابعة ـ لم يختلف العلماء فيمن قال لامرأته؛ قد طلقتك، أنه من صريح الطلاق في المدخول بها وغير المدخول بها؛ فمن قال لامرأته: أنت طالق فهي واحدة إلاَّ أن ينوي أكثر من ذلك. فإن نوى ٱثنتين أو ثلاثاً لزمه ما نواه، فإن لم ينو شيئاً فهي واحدة تملك الرجعة. ولو قال: أنت طالق، وقال: أردت من وَثَاق لم يقبل قوله ولزمه، إلاَّ أن يكون هناك ما يدل على صدقه. ومن قال: أنت طالق واحدة، لا رجعة لي عليك فقوله: «لا رجعة لي عليك» باطل، وله الرجعة لقوله واحدة؛ لأن الواحدة لا تكون ثلاثاً؛ فإن نوى بقوله: «لا رجعة لي عليك» ثلاثاً فهي ثلاث عند مالك.

وٱختلفوا فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أو أنت خلية، أو برية، أو بائن، أو حبلك على غاربك، أو أنت عليّ حرام، أو ٱلحقِي بأهلِكِ، أو قد وهبتك لأهلك، أو قد خليت سبيلك، أولا سبيل لي عليك؛ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: هو طلاق بائن، وروي عن ٱبن مسعود وقال: إذا قال الرجل لامرأته ٱستقلي بأمرِك، أو أمرِك لكِ، أو ٱلحقِي بأهلك فقبِلوها فواحدة بائنة. وروي عن مالكٍ فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أنه من صريح الطلاق؛ كقوله: أنت طالق. وروي عنه أنه كناية يرجع فيها إلى نية قائِلها، ويسأل ما أراد من العدد، مدخولاً بها كانت أو غير مدخول بها. قال ٱبن الموّاز: وأصح قوليه في التي لم يدخل بها أنها واحدة، إلاَّ أن ينوي أكثر؛ وقاله ٱبن القاسم وٱبن عبد الحكم. وقال أبو يوسف: هي ثلاث؛ ومثله خلعتك، أو لا مِلك لي عليك. وأمّا سائر الكنايات فهي ثلاث عند مالك في كل من دخل بها لا ينوَّى فيها قائلها، وينوّى في غير المدخول بها. فإن حلف وقال أردت واحدة كان خاطباً من الخطاب، لأنه لا يخلى المرأة التي قد دخل بها زوجها ولا يُبينها ولا يبريها إلاَّ ثلاث تطليقات. والتي لم يدخل بها يُخليها ويُبريها ويُبينها الواحدة. وقد روي عن مالك وطائفة من أصحابه، وهو قول جماعة من أهل المدينة، أنه ينوى في هذه الألفاظ كلها ويلزمه من الطلاق ما نوى. وقد روي عنه في ٱلبتة خاصة من بين سائر الكنايات أنه لا ينوي فيها لا في المدخول بها ولا في غير المدخول بها. وقال الثوريّ وأبو حنيفة وأصحابه: له نيته في ذلك كله، فإن نوى ثلاثاً فهي ثلاث، وإن نوى واحدة فهي واحدة بائنة وهي أحق بنفسها. وإن نوى ٱثنتين فهي واحدة. وقال زفر: إن نوى ٱثنتين فهي ٱثنتان. وقال الشافعيّ: هو في ذلك كله غير مطلق حتى يقول: أردت بمخرج الكلام مني طلاقاً فيكون ما نوى. فإن نوى دون الثلاث كان رجعياً، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية. وقال إسحاق: كل كلام يشبِه الطلاق فهو ما نوى من الطلاق. وقال أبو ثور: هي تطليقة رجعية ولا يسأل عن نيته. وروي عن ٱبن مسعود أنه كان لا يرى طلاقاً بائناً إلاَّ في خلع أو إيلاء وهو المحفوظ عنه؛ قاله أبو عبيد. وقد ترجم البخاريّ «باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو البرية أو الخلية أو ما عني به الطلاق فهو على نيته». وهذا منه إشارة إلى قول الكوفيين والشافعيّ وإسحاق في قوله: «أو ما عنى به من الطلاق» والحجة في ذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقاً أو غير طلاق فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق إلاَّ أن يقول المتكلم: إنه أراد بها الطلاق فيلزمه بإقراره، ولا يجوز إبطال النكاح لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين. قال أبو عمر: وٱختلف قول مالك في معنى قول الرجل لامرأته: ٱعتدى، أو قد خليتك، أو حبلك على غارِبك؛ فقال مرة: لا ينوى فيها وهي ثلاث. وقال مرّة: ينوى فيها كلها، في المدخول بها وغير المدخول بها؛ وبه أقول.

قلت: ما ذهب إليه الجمهور، وما روي عن مالك أنه ينوي في هذه الألفاظ ويحكم عليه بذلك هو الصحيح؛ لما ذكرناه من الدليل، وللحديث الصحيح الذي خرّجه أبو داود وٱبن ماجه والدارقطنيّ وغيرهم عن يزيد بن ركانة: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة ٱلبتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فقال: «آلله ما أردت إلاَّ واحدة»؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلاَّ واحدة؛ فرّدها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال ٱبن ماجه: سمعت أبا الحسن الطنافِسيّ يقول: ما أشرف هذا الحديث! وقال مالك في الرجل يقول لامرأته: أنت عليّ كالميتة والدّم ولحم الخنزير: أراها البتّة وإن لم تكن له نية، فلا تحِلّ إلاَّ بعد زوج. وفي قول الشافعيّ: إن أراد طلاقاً فهو طلاق، وما أراد من عدد الطلاق؛ وإن لم يُرد طلاقاً فليس بشيء بعد أن يحلف. وقال أبو عمر: أصل هذا الباب في كل كناية عن الطلاق، ما روي "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ للتي تزوّجها حين قالت: أعوذ بالله منك ـ: قد عذتِ بمعاذٍ ٱلحقِي بأهلك" . فكان ذلك طلاقاً. وقال كعب بن مالك لامرأته حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بٱعتزالها: ٱلحقي بأهلك فلم يكن ذلك طلاقاً؛ فدل على أن هذه اللفظة مفتقرة إلى النية، وأنها لا يُقضَىٰ فيها إلاَّ بما ينوِي اللاّفِظ بها، وكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره. والله أعلم. وأما الألفاظ التي ليست من ألفاظ الطلاق ولا يكنّى بها عن الفراق، فأكثر العلماء لا يُوقعون بشيء منها طلاقاً وإن قصده القائل. وقال مالك: كل من أراد الطلاق بأيّ لفظ كان لزمه الطلاقُ، حتى بقوله: كلي وٱشربِي وقومي وٱقعدي؛ ولم يتابع مالكاً على ذلك إلاَّ أصحابه.

قوله تعالىٰ: { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }.

فيه خمس عشرة مسألة:

الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } «أنْ» في موضع رفع بـ «ـيحل». والآية خطاب للأزواج، نهوا أن يأخذوا من أزواجهم شيئاً على وجه المضارّة؛ وهذا هو الخُلع الذي لا يصحّ إلاَّ بألا ينفرد الرجل بالضرر؛ وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم؛ لأن العرف بين الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج من يده لها صداقاً وجهازاً؛ فلذلك خص بالذّكر. وقد قيل: إن قوله: { وَلاَ يَحِلُّ } فصل معترض بين قوله تعالى { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } وبين قوله: { { فَإِنْ طَلَّقَهَا } } [البقرة: 230].

الثانية ـ والجمهور على أن أخذ الفِدية على الطلاق جائز. وأجمعوا على تحظير أخذ ما لها إلاَّ أن يكون النّشُوزُ وفساد العشرة من قِبلِها. وحكي ٱبن المنذر عن النعمان أنه قال: إذا جاء الظلم والنشوز من قِبلِه وخالعته فهو جائز ماض وهو آثم، لا يحل له ما صنع، ولا يجبر على ردّ ما أخذه. قال ٱبن المنذر: وهذا من قوله خلافُ ظاهِر كتاب الله، وخلاف الخبر الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخلافُ ما أجمع عليه عامّة أهل العلم من ذلك، ولا أحسب أن لو قيل لأحد: ٱجهد نفسك في طلب الخطإ ما وجد أمراً أعظم من أن ينطق الكتاب بتحريم شيء ثم يقابله مقابل بالخلاف نصاً؛ فيقول: بل يجوز ذلك: ولا يجبر على ردّ ما أخذ. قال أبو الحسن بن بَطّال: وروى ٱبن القاسم عن مالك مثله. وهذا القول خلاف ظاهِر كتاب الله تعالىٰ، وخلاف حديثِ ٱمرأة ثابت؛ وسيأتي.

الثالثة ـ قوله تعالىٰ: { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } حرم الله تعالىٰ في هذه الآية ألاّ يأخذ إلاَّ بعد الخوف ألاَّ يقيما حدود الله، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدّى الحدّ. والمعنى أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألاَّ يقيم حق النكاح لصاحبه حسب ما يجب عليه فيه لكراهة يعتقدها؛ فلا حرج على المرأة أن تفتدِي، ولا حرج على الزوج أن يأخذ. والخطاب للزوجين. والضمير في «أن يخافا» لهما، و «ألاَّ يقيما» مفعول به. و «خفت» يتعدّى إلى مفعول واحد. ثم قيل: هذا الخوف هو بمعنى العلم، أي أن يعلما ألاَّ يقيما حدود الله، وهو من الخوف الحقيقيّ، وهو الإشفاق من وقوع المكروه، وهو قريب من معنى الظّنّ. ثم قيل: «إلاَّ أن يخافا» ٱستثناء منقطع، أي لكن إن كان منهن نشوز فلا جناح عليكم في أخذ الفِدية. وقرأ حمزة «إلاَّ أن يخافا» بضم الياء على ما لم يسم فاعله، والفاعل محذوف وهو الولاة والحكام؛ وٱختاره أبو عبيد. قال: لقوله عزّ وجلّ: { فَإِنْ خِفْتُمْ } قال: فجعل الخوف لغير الزوجين، ولو أراد الزوجين لقال: فإن خافا؛ وفي هذا حجة لمن جعل الخلع إلى السلطان.

قلت: وهو قول سعيد بن جبير والحسن وٱبن سِيريِن. وقال شعبة: قلت لقتادة: عمن أخذ الحسنُ الخلع إلى السلطان؟ قال: عن زياد، وكان والياً لعمر وعليّ. قال النحاس: وهذا معروف عن زياد، ولا معنى لهذا القول لأن الرجل إذا خالع ٱمرأته فإنما هو على ما يتراضيان به، ولا يجبره السلطان على ذلك؛ ولا معنى لقول من قال: هذا إلى السلطان. وقد أنكر ٱختيار أبي عبيد وردّ، وما علمت في ٱختياره شيئاً أبعد من هذا الحرف، لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى. أما الإعراب فإن عبد الله بن مسعود قرأ «إلاَّ أن يخافا» تخافوا؛ فهذا في العربية إذا ردّ إلى ما لم يسم فاعله قيل: إلاَّ أن يخاف. وأما اللفظ فإن كان على لفظ «يخافا» وجب أن يُقال: فإن خيف. وإن كان على لفظ «فإن خفتم» وجب أن يُقال: إلا أن تخافوا. وأما المعنى فإنه يبعد أن يُقال: لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً؛ إلا أن يخاف غيركم ولم يقل جلّ وعزّ: فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية؛ فيكون الخلع إلى السلطان. قال الطحاويّ: وقد صحّ عن عمر وعثمان وٱبن عمر جوازه دون السلطان؛ وكما جاز الطلاق والنكاح دون السلطان فكذلك الخلع؛ وهو قول الجمهور من العلماء.

الرابعة ـ قوله تعالىٰ: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا } أي على أن لا يقيما. { حُدُودَ ٱللَّهِ } أي فيما يجب عليهما من حسن الصحبة وجميل العشرة. والمخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكماً. وترك إقامة حدود الله هو ٱستخفاف المرأة بحق زوجها، وسوء طاعتها إياه؛ قاله ٱبن عباس ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء. وقال الحسن بن أبي الحسن وقوم معه: إذا قالت المرأة لا أطيع لك أمراً، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أبرّ لك قسماً، حل الخلع. وقال الشعبيّ: «ألاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ» ألاَّ يطيعا الله؛ وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة. وقال عطاء بن أبي رباح: يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها: إني أكرهك ولا أحبك، ونحو هذا { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ }. روى البخاريّ من حديث أيوب عن عكرمة "عن ٱبن عباس أن ٱمرأة ثابت بن قيس أتتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خُلُق ولا دِين ولكن لا أطيقه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردّين عليه حديقته؟ قالت: نعم" . وأخرجه ٱبن ماجه عن قتادة عن عكرمة عن ٱبن عباس " أن جميلة بنت سَلُول أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دِين ولا خُلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا! فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: أتردّين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد" . فيقال: إنها كانت تبغضه أشدّ البغض، وكان يحبها أشدّ الحبّ؛ ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بطريق الخُلع؛ فكان أوّل خُلع في الإسلام. روى عكرمة "عن ٱبن عباس قال: أوّل من خالع في الإسلام أُخت عبد الله بن أبيّ، أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا يجتمع رأسي ورأسه أبداً، إني رفعت جانب الخِبَاء فرأيته أقبل في عدّة إذ هو أشدّهم سواداً وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها! فقال: أتردّين عليه حديقته؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته؛ ففرّق بينهما" . وهذا الحديث أصل في الخلع، وعليه جمهور الفقهاء. قال مالك: لم أزل أسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا، وهوأن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسىء إليها، ولم تؤت من قِبلِه، وأحبت فراقه فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما ٱفتدت به؛ كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم في ٱمرأة ثابت بن قيس وإن كان النشوز من قِبلِه بأن يضيق عليها ويضرها ردّ عليها ما أخذ منها. وقال عقبة بن أبي الصهباء: سألت بكر بن عبد الله المزنيّ عن الرجل تريد ٱمرأته أن تخالعه فقال؛ لا يحل له أن يأخذ منها شيئاً. قلت: فأين قول اللَّهِ عزّ وجلّ في كتابه: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } ؟قال: نسخت. قلت: فأين جعلت؟ قال: في سورة «النساء»: { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } } [النساء: 20]. قال النحاس؛ هذا قول شاذ، خارج عن الإجماع لشذوذه؛ وليست إحدى الآيتين دافعة للأُخرى فيقع النسخ؛ لأن قوله { فَإِنْ خِفْتُمْ } الآية؛ ليست بمزالة بتلك الآية؛ لأنهما إذا خافا هذا لم يدخل الزوج في «وإن أردتم ٱستبدال زوج مكان زوج» لأن هذا للرجال هخاصة. وقال الطبريّ: الآية محكمة، ولا معنى لقول بكر: إن أرادت هي العطاء فقد جوّز النبيّ صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها كما تقدم.

الخامسة ـ تمسك بهذه الآية من رأى ٱختصاص الخلع بحالة الشقاق والضرر، وأنه شرط في الخلع، وعضد هذا بما رواه أبو دواد "عن عائشة: أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شَمّاس فضربها فكسر نُغْضَها؛ فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فٱشتكت إليه؛ فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم ثابتاً فقال: خذ بعض مالها وفارقها. قال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: خذهما وفارقها فأخذهما وفارقها" . والذي عليه الجمهور من الفقهاء أنه يجوز الخلع من غير ٱشتكاءِ ضررٍ؛ كما دل عليه حديث البخاريّ وغيره. وأما الآية فلا حجة فيها؛ لأن الله عزّ وجلّ لم يذكرها على جهة الشرط، وإنما ذكرها لأنه الغالب من أحوال الخلع؛ فخرّج القول على الغالب؛ والذي يقطع العذر ويوجب العلم قوله تعالىٰ: { { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } } [النساء: 4].

السادسة ـ لما قال الله تعالىٰ: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } دل على جواز الخلع بأكثر مما أعطاها. وقد ٱختلف العلماء في هذا؛ فقال مالك والشافعيّ وأبو حنيفة وأصحابهم وأبو ثور: يجوز أن تفتدي منه بما تراضيا عليه، كان أقل مما أعطاها أو أكثر منه. وروي هذا عن عثمان بنِ عفان وٱبنِ عمر وقبيصة والنخعي. وٱحتج قبيصة بقوله: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ }. وقال مالك: ليس من مكارم الأخلاق، ولم أر أحداً من أهل العلم يكره ذلك. وروى الدراقطنيّ "عن أبي سعيد الخدريّ أنه قال: كانت أُختي تحت رجل من الأنصار تزوّجها على حديقة، فكان بينهما كلام، فٱرتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تردّين عليه حديقته ويطلقك؟ قالت: نعم، وأزيده. قال: رُدِّي عليه حديقته وزيديه. وفي حديث ٱبن عباسٍ: وإن شاء زدتُه ولم ينكر" . وقالت طائفة: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها؛ كذلك قال طاوس وعطاء والأوزاعيّ؛ قال الأوزاعيّ: كان القضاة لا يُجيزون أن يأخذ إلاَّ ما ساق إليها؛ وبه قال أحمد وإسحاق. وٱحتجوا بما رواه ٱبن جريج: أخبرني أبو الزبير "أن ثابت بن قيس ابن شَمّاس كانت عنده زينب بنت عبد الله بن أُبيّ بن سَلُول، وكان أصدقها حديقة فكرهته؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا ولكن حديقته، فقالت: نعم. فأخذها له وخلّى سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلت قضاء رسولِ الله صلى الله عليه وسلم" ؛ سمعه أبو الزبير من غير واحد؛ أخرجه الدارقطنيّ. "وروي عن عطاء مرسلاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها" .

السابعة ـ الخُلع عند مالكٍ رضي الله عنه على ثمرة لم يَبْدُ صلاحُها وعلى جملٍ شارِد أو عبد آبق أو جنين في بطن أُمّه أو نحو ذلك من وجوه الغرر جائز؛ بخلاف البيوع والنكاح. وله المطالبة بذلك كله؛ فإن سلم كان له، وإن لم يسلم فلا شيء له، والطلاق نافذ على حكمه. وقال الشافعيّ: الخلع جائز وله مهر مثلها؛ وحكاه ٱبن خُوَيْزمَنْدَاد عن مالك قال: لأن عقود المعاوَضات إذا تضمّنت بدلاً فاسداً وفاتت رُجع فيها إلى الواجب في أمثالها من البدل. وقال أبو ثور: الخُلْع باطل. وقال أصحاب الرأي: الخلع جائز؛ وله ما في بطن الأَمَة، وإن لم يكن فيه ولدٌ فلا شيء له. وقال في «المبسوط» عن ٱبن القاسم: يجوز بما يُثْمره نخلُه العامَ، وما تلد غنمه العامَ خلافاً لأبي حنيفة والشافعيّ؛ والحجة لما ذهب إليه مالك وٱبن القاسم عموم قوله تعالىٰ: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ }. ومن جهة القياس أنه مما يملك بالهبة والوصية؛ فجاز أن يكون عِوضاً في الخلع كالمعلوم؛ وأيضاً فإن الخلع طلاقٌ، والطلاق يصح بغير عِوض أصلاً؛ فإذا صحّ على غير شيء فَلأن يصح بفاسد العِوض أولى؛ لأنّ أسوأ حالِ المبذول أن يكون كالمسكوت عنه. ولمّا كان النكاح الذي هو عقد تحليلٍ لا يفسده فاسد العوض فَلأن لا يفسد الطلاق الذي هو إتلاف وحلّ عقدٍ أولى.

الثامنة ـ ولو ٱختلعت منه برضاع ٱبنها منه حولين جاز. وفي الخلع بنفقتها على الابن بعد الحولين مدّة معلومة قولان: أحدهما ـ يجوز؛ وهو قول المخزوميّ، وٱختاره سحنون. والثاني ـ لا يجوز؛ رواه ٱبن القاسم عن مالك، وإن شرطه الزوج فهو باطل موضوع عن الزوجة. قال أبو عمر: من أجاز الخلع على الجمل الشارد والعبدِ الآبق ونحو ذلك من الغرر لزمه أن يجوّز هذا. وقال غيره من القروِيين: لم يمنع مالك الخلع بنفقةِ ما زاد على الحولين لأجل الغرر، وإنما منعه لأنه حق يختص بالأب على كل حال فليس له أن ينقله إلى غيره؛ والفرق بين هذا وبين نفقة الحولين أن تلك النفقة وهي الرضاع قد تجب على الأُمّ حال الزوجية وبعد الطلاق إذا أعسر الأب؛ فجاز أن تنقل هذه النفقة إلى الأُمّ؛ لأنها محل لها. وقد ٱحتج مالك في «المبسوط» على هذا بقوله تعالىٰ: { { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } [البقرة: 233].

التاسعة ـ فإن وقع الخلع على الوجه المباح بنفقة الابن فمات الصبيّ قبل ٱنقضاء المدّة فهل للزوج الرجوع عليها ببقية النفقة؛ فروى ٱبن الموّاز عن مالك: لا يتبعها بشيء، وروى عنه أبو الفرج: يتبعها؛ لأنه حق ثبت له في ذمّة الزوجة بالخلع فلا يسقط بموت الصبيّ؛ كما لو خالعها بمال متعلق بذمتها، ووجه الأوّل أنه لم يشترط لنفسه مالاً يتموّله، وإنما ٱشترط كفاية مؤنِة ولده؛ فإذا مات الولد لم يكن له الرجوع عليها بشيء؛ كما لو تطوّع رجل بالإنفاق على صبيّ سنة فمات الصبيّ لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه إنما قصد بتطوّعه تحمل مؤنته، والله أعلم، قال مالك: لم أر أحداً يَتّبع بمثل هذا؛ ولو ٱتبعه لكان له في ذلك قول. وٱتفقوا على أنها إن ماتت فنفقة الولد في مالها؛ لأنه حق ثبت فيه قبل موتها فلا يسقط بموتها.

العاشرة ـ ومن اشترط على ٱمرأته في الخلع نفقةَ حملها وهي لا شيء لها فعليه النفقة إذا لم يكن لها مال تنفق منه؛ وإن أيسرت بعد ذلك ٱتبعها بما أنفق وأخذه منها. قال مالك: ومن الحق أن يكلَّف الرجل نفقة ولده وإن ٱشترط على أُمّه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه.

الحادية عشرة ـ وٱختلف العلماء في الخلع هل هو طلاق أو فسخ؛ فروي عن عثمان وعليّ وٱبن مسعود وجماعةٍ من التابعين: هو طلاق؛ وبه قال مالك والثوريّ والأُوزاعيّ وأبو حنيفة وأصحابه والشافعيّ في أحد قوليه. فمن نوى بالخلع تطليقتين أو ثلاثاً لزمه ذلك عند مالك. وقال أصحاب الرأي: إن نوى الزوج ثلاثاً كان ثلاثاً، وإن نوى ثنتين فهو واحدة بائنة (لأنها كلمة واحدة). وقال الشافعيّ في أحد قوليه: إن نوى بالخلع طلاقاً وسماه فهو طلاق، وإن لم ينو طلاقاً ولا سمى لم تقع فرقة؛ قاله في القديم. وقوله الأوّل أحب إليّ. المزنى: وهو الأصح عندهم. وقال أبو ثور: إذا لم يسم الطلاق فالخلع فرقة وليس بطلاق، وإن سمى تطليقة فهي تطليقة؛ والزوج أملك برجعتها ما دامت في العِدّة. وممن قال: إن الخلع فسخ وليس بطلاق إلا أن ينويه ٱبنُ عباس وطاوس وعكرمة وإسحاق وأحمد. وٱحتجوا بالحديث عن ٱبن عيينة عن عمرو عن طاوس عن ٱبن عباس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله: رجل طلق ٱمرأته تطليقتين ثم ٱختلعت منه أيتزوّجها؟ قال: نعم لينكحها، ليس الخلع بطلاق؛ ذكر الله عز وجل الطلاق في أوّل الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك؛ فليس الخلع بشيء. ثم قال: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }. ثم قرأ { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } . قالوا: ولأنه لو كان طلاقاً لكان بعد ذكر الطلقتين ثالثاً، وكان قوله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } بعد ذلك دالاّ على الطلاق الرابع؛ فكان يكون التحريم متعلقاً بأربع تطليقات. وٱحتجوا أيضاً بما رواه الترمذيّ وأبو داود والدارقطنيّ عن ٱبن عباس: أن ٱمرأة ثابت بن قيس ٱختلعت من زوجها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتدّ بحيضة. قال الترمذيّ: حديث حسن غريب. وعن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عَفْراء أنها ٱختلعت على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم أو أُمِرت أن تعتدّ بحيضة. قال الترمذيّ: حديث الربِّيعِ الصحيح أنها أُمِرت أن تعتدّ بحيضة. قالوا: فهذا يدل على أن الخلع فسخ لا طلاق؛ وذلك أن الله تعالى قال: { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } ولو كانت هذه مطلقة لم يقتصر بها على قُرْءٍ واحد.

قلت: فمن طلق ٱمرأته تطليقتين ثم خالعها ثم أراد أن يتزوّجها فله ذلك ـ كما قال ٱبن عباس ـ وإن لم تنكح زوجاً غيره؛ لأنه ليس له غير تطليقتين والخلع لغوٌ. ومن جعل الخلع طلاقاً قال: لم يجز أن يرتجعها حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأنه بالخلع كملت الثلاثُ؛ وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. قال القاضي إسماعيل ابن إسحاق: كيف يجوز القول في رجل قالت له ٱمرأته: طلقني على مالٍ فطلقها إنه لا يكون طلاقاً، وهو لو جعل أمرها بيدها من غير شيء فطلقت نفسها كان طلاقاً!. (قال) وأما قوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } فهو معطوف على قوله تعالى: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ }؛ لأن قوله: { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } إنما يعني به أو تطليق. فلو كان الخلع معطوفاً على التطليقتين لكان لا يجوز الخلع أصلاً إلا بعد تطليقتين وهذا لا يقوله أحد. وقال غيره: ما تأوّلوه في الآية غلطٌ فإن قوله: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } أفاد حكم الاثنتين إذا أوقعهما على غير وجه الخلع، وأثبت معهما الرجعة بقوله: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } ثم ذكر حكمهما إذا كان على وجه الخلع فعاد الخلع إلى الثنتين المتقدّم ذكرهما؛ إذ المراد بذلك بيان الطلاق المطلق والطلاقِ بعوض، والطلاق الثالث بِعوَض كان أو بغير عوض فإنه يقطع الحل إلا بعد زوج.

قلت: هذا الجواب عن الآية، وأما الحديث فقال أبو داود ـ لما ذكر حديث ٱبن عباس في الحيضة ـ: هذا الحديث رواه عبد الرزاق عن مَعْمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وحدّثنا القَعْنَبيّ عن مالكٍ عن نافع عن ٱبن عمر قال: عدّة المختلعةِ عدّة المطلّقة. قال أبو داود: والعمل عندنا على هذا.

قلت: وهو مذهب مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق والثوريّ وأهل الكوفة. قال الترمذيّ: وأكثرِ أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم.

قلت: وحديث ٱبن عباس في الحيضة مع غرابته كما ذكر الترمذيّ، وإرسالِه كما ذكر أبو داود فقد قيل فيه: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل عدّتها حيضة ونصفاً؛ أخرجه الدارقطنيّ من حديث معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ٱبن عباس: أن ٱمرأة ثابت ابن قيس ٱختلعت من زوجها فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم عدّتها حيضة ونصفاً. والراوي عن معمر هنا في الحيضة والنصف هو الراوي عنه في الحيضة الواحدة، وهو هشام بن يوسف أبو عبد الرحمن الصنعاني اليماني: خرّج له البخاري وحده. فالحديث مضطرب من جهة الإسناد والمتن، فسقط الاحتجاج به في أن الخلع فسخ، وفي أن عدّة المطلقة حيضة؛ وبقي قوله تعالى: { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } نصاً في كل مطلَّقة مدخولٍ بها إلا ما خُص منها كما تقدّم. قال الترمذيّ: «وقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: عدّة المختلعة حيضة، قال إسحاق: وإن ذهب ذاهب إلى هذا فهو مذهب قويّ». قال ٱبن المنذر: قال عثمان بن عفان وٱبن عمر: عدّتها حيضة؛ وبه قال أبان بن عثمان وإسحاق. وقال عليّ بن أبي طالب: عدّتها عدّة المطلَّقة، وبقول عثمان وٱبن عمر أقول، ولا يثبت حديث عليّ.

قلت: قد ذكرنا عن ٱبن عمر أنه قال: عدّة المختلِعَة عدّة المطلَّقة، وهو صحيح.

الثانية عشرة: وٱختلف قول مالك فيمن قصد إيقاع الخلعُ على غير عِوض؛ فقال عبد الوهاب: هو خلع عند مالك، وكان الطلاق بائناً. وقيل عنه: لا يكون بائنا إلا بوجود العِوض؛ قاله أشهب والشافعيّ؛ لأنه طلاق عُرِي عن عوضٍ وٱستيفاءِ عدد فكان رجعياً كما لو كان بلفظ الطلاق. قال ٱبن عبد البر: وهذا أصح قوليْه عندي وعند أهل العلم في النظر. ووجه الأوّل أن عدم حصول العوض في الخلع لا يُخْرجه عن مقتضاه؛ أصلُ ذلك إذا خالع بخمر أو خنزير.

الثالثة عشرة ـ المختلِعة هي التي تختلع من كل الذي لها. والمفتدية أن تفتدي ببعضه وتأخذ بعضه. والمبارِئة هي التي بارأت زوجها من قبل أن يدخل بها فتقول: قد أبرأتك فبارِئني؛ هذا هو قول مالك. وروى عيسى بن دينار عن مالكٍ: المبارِئة هي التي لا تأخذ شيئاً ولا تعطي، والمختلعة هي التي تعطي ما أعطاها وتزيد من مالها، والمفتدية هي التي تفتدي ببعض ما أعطاها وتمسك بعضه؛ وهذا كله يكون قبل الدخول وبعده؛ فما كان قبل الدخول فلا عِدّة فيه، والمصالِحة مثل المبارِئة. قال القاضي أبو محمد وغيره: هذه الألفاظ الأربعة تعود إلى معنى واحد وإن ٱختلفت صفاتها من جهة الإيقاع، وهي طلقة بائنة سماها أو لم يسمّها؛ لا رجعة له في العدّة، وله نكاحها في العدّة وبعدها برضاها بوليّ وصداق وقبل زوج وبعده؛ خلافاً لأبي ثور؛ لأنها إنما أعطته العِوض لتملك نفسها، ولو كان طلاق الخُلع رجعياً لم تملك نفسها؛ فكان يجتمع للزوج العِوض والمعوّض عنه.

الرابعة عشرة ـ وهذا مع إطلاق العقد نافذ، فلو بذلت له العوض وشرط الرّجعة؛ ففيها روايتان رواهما ٱبن وهب عن مالك: إحداهما ثبوتها؛ وبها قال سحنون. والأُخرى نفيها. قال سحنون: وجه الرواية الأُولى أنهما قد ٱتفقا على أن يكون العِوض في مقابلة ما يسقط من عدد الطلاق، وهذا جائز. ووجه الرواية الثانية أنه شرط في العقد ما يمنع المقصود منه فلم يثبت ذلك؛ كما لو شرط في عقد النكاح: أنى لا أطأها.

الخامسة عشرة ـ قوله تعالى: { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } لما بيّن تعالى أحكام النكاح والفراق قال: { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } التي أمرت بٱمتثالها؛ كما بيّن تحريمات الصوم في آية أُخرى فقال: { { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } } [البقرة: 187] فقسم الحدود قسمين؛ منها حدود الأمر بالامتثال، وحدود النهي بالاجتناب؛ ثم أخبر تعالى فقال: { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }.