خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
٢٦٧
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

.

فيه إحدى عشرة مسألة:

الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ } هذا خطاب لجميع أُمة محمد صلى الله عليه وسلم. واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا؛ فقال عليّ بن أبي طالب وعبيدة السلمانيّ وٱبن سيرين: هي الزكاة المفروضة، نهى الناس عن إنفاق الرّدىء فيها بدل الجيّد. قال ٱبن عطية: والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن وقتادة أن الآية في التطوّع، ندبوا إلى ألاّ يتطوّعوا إلاَّ بمختار جيّد. والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة تعلّق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب، وبأنه نهى عن الردىء وذلك مخصوص بالفرض، وأما التطوّع فكما للمرء أن يتطوّع بالقليل فكذلك له أن يتطوّع بنازل في القدر، ودرهمٌ خير من تمرة. تمسك أصحاب النّدب بأن لفظة افْعَلْ صالح للنّدب صلاحيته للفرض، والرّدىء منهيّ عنه في النفل كما هو منهيّ عنه في الفرض، والله أحق من ٱختير له. "وروى البراء: أن رجلاً علّق قُنْوَ حَشَفٍ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بئسما علّق فنزلت الآية" ، خرّجه الترمذيّ وسيأتى بكماله. والأمر على هذا القول على الندب، ندبوا إلى ألاّ يتطوّعوا إلاَّ بجيّد مختار. وجمهور المتأوّلين قالوا: معنى «مِنْ طَيِّبَاتِ» من جيد ومختار «مَا كَسَبْتُمْ». وقال ابن زيد: من حلال «مَا كَسَبْتُمْ».

الثانية ـ الكسب يكون بتعب بدن وهي الإجارة وسيأتى حكمها، أو مقاولة في تجارة وهو البيع وسيأتى بيانه. والميراث داخل في هذا؛ لأن غير الوارث قد كسبه. قال سهل بن عبد الله: وسئل ابن المبارك عن الرجل يريد أن يكتسب وينوي باكتسابه أن يصل به الرّحم وأن يجاهد ويعمل الخيرات ويدخلَ في آفات الكسب لهذا الشأن. قال: إن كان معه قَوام من العيش بمقدار ما يكفّ نفسه عن الناس فتركُ هذا أفضل؛ لأنه إذا طلب حلالاً وأنفق في حلال سئل عنه وعن كسبه وعن إنفاقه؛ وترك ذلك زهد فإن الزهد في ترك الحلال.

الثالثة ـ قال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد: ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أولادكم من طيّب أكسابكم فكلوا من أموال أولادكم هنيئاً" .

الرابعة ـ قوله تعالىٰ: { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ } يعني النبات والمعادن والرِّكاز، وهذه أبواب ثلاثة تضمّنتها هذه الآية. أما النبات فروى الدَّارَقُطْنِيَّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: جرت السُّنّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس فيما دون خمسة أَوْسُق زكاة». والوَسْق ستون صاعاً، فذلك ثلاثمائة صاع من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة. وقد ٱحتج قوم لأبي حنيفة بقول الله تعالىٰ: { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ } وإن ذلك عمومٌ في قليل ما تُخرجه الأرض وكثيره وفي سائر الأصناف، ورأوا ظاهر الأمر الوجوب. وسيأتي بيان هذا في «الأنعام» مستوفىً. وأما المعدِن فروى الأئمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العجماء جرَحها جُبَار والبئر جُبَار والمعْدِن جُبَار وفي الرّكاز الخمس" . قال علماؤنا: لما قال صلى الله عليه وسلم: "وفي الرّكاز الخُمُس" دلَّ على أن الحكم في المعادن غير الحكم في الركاز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد فصل بين المعادن والرّكاز بالواو الفاصلة، ولو كان الحكم فيهما سواء لقال والمعدن جُبَار وفيه الخمس، فلما قال «وفي الركاز الخمس» عُلم أن حكم الرِّكاز غير حكم المعدن فيما يؤخذ منه، والله أعلم.

والركاز أصله في اللغة ما ٱرتَكز بالأرض من الذهب والفضة والجواهر، وهو عند سائر الفقهاء كذلك؛ لأنهم يقولون في النَّدْرة التي توجد في المعدن مرتكزة بالأرض لا تُنال بعمل ولا بَسْعي ولا نَصب، فيها الخمسُ؛ لأنها رِكاز. وقد رُوي عن مالك أن الندرة في المعدن حكمها حكم ما يُتكلّف فيه العمل مما يُستخرج من المعدن في الرّكاز؛ والأوّل تحصيل مذهبه وعليه فتوى جمهور الفقهاء. وروى عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُرِيّ عن أبيه عن جدّه "عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرّكاز قال: الذهب الذي خلق الله في الأرض يوم خلق السماوات والأرض" . عبد الله بن سعيد هذا متروك الحديث، ذكر ذلك ابن أبي حاتم. وقد رُوي من طريق أُخرى عن أبي هريرة ولا يصح، ذكره الدَّارَقُطْنِيّ. ودَفْنُ الجاهلية لأموالهم عند جماعة العلماء ركاز أيضاً لا يختلفون فيه إذا كان دفنه قبل الإسلام من الأموال العادية، وأما ما كان من ضرب الإسلام فحكمه عندهم حكم اللُّقَطَة.

الخامسة ـ واختلفوا في حكم الركاز إذا وُجد؛ فقال مالك: ما وُجد من دَفْن الجاهليّة في أرض العرب أو في فَيَافِي الأرض التي ملكها المسلمون بغير حرب فهو لواجده وفيه الخمس، وأما ما كان في أرض الإسلام فهو كاللقطة. قال: وما وُجد من ذلك في أرض العَنْوة فهو للجماعة الذين افتتحوها دون واجده، وما وُجد من ذلك في أرض الصُّلْح فإنه لأهل تلك البلاد دون الناس، ولا شيء للواجد فيه إلاَّ أن يكون من أهل الدار فهو له دونهم. وقيل: بل هو لجملة أهل الصلح. قال إسماعيل: وإنما حكم للركاز بحكم الغنيمة لأنه مالُ كافرٍ وجده مسلم فأنزل منزلة من قاتله وأخذ ماله؛ فكان له أربعة أخماسه. وقال ابن القاسم: كان مالك يقول في العُروض والجواهر والحديد والرصاص ونحوه يُوجد ركازاً: إنّ فيه الخمس ثم رجع فقال: لا أرى فيه شيئاً، ثم آخر ما فارقناه أن قال: فيه الخمس. وهو الصحيح لعموم الحديث وعليه جمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة ومحمد في الركاز يوجد في الدار: إنه لصاحب الدار دون الواجد وفيه الخمس. وخالفه أبو يوسف فقال: إنه للواجِد دون صاحب الدار؛ وهو قول الثوريّ. وإن وجد في الفَلاة فهو للواجِد في قولهم جميعاً وفيه الخمس. ولا فرق عندهم بين أرض الصلح وأرض العَنْوة. وسواء عندهم أرض العرب وغيرها. وجائز عندهم لواجده أن يحتبس الخمس لنفسه إذا كان محتاجاً وله أن يعطيه للمساكين. ومِن أهل المدينة وأصحاب مالك من لا يفرّق بين شيء من ذلك وقالوا: سواء وجد الرّكاز في أرض العَنْوة أو في أرض الصلح أو أرض العرب أو أرض الحرب إذا لم يكن مِلْكاً لأحد ولم يَدّعه أحد فهو لواجده وفيه الخُمُس على عموم ظاهر الحديث، وهو قول اللّيث وعبد الله بن نافع والشافعيّ وأكثر أهل العلم.

السَّادسة ـ وأما ما يوجد من المعادن ويخرج منها فاختلف فيه: فقال مالك وأصحابه: لا شيء فيما يخرج من المعادن من ذهب أو فضة حتى يكون عشرين مثقالاً ذهباً أو خمس أواق فضة. فإذا بلغتا هذا المقدار وجبت فيهما الزكاة، وما زاد فبحساب ذلك ما دام في المعدن نَيْلٌ؛ فإن انقطع ثم جاء بعد ذلك نيل آخر فإنه تبتدأ فيه الزكاة مكانه. والرِّكَازُ عندهم بمنزلة الزرع تؤخذ منه الزكاة في حينه ولا يُنْتَظَر به حَوْلاً. قال سُحنون في رجل له معادن: إنه لا يضم ما في واحد منها إلى غيرها ولا يزكي إلاَّ عن مائتي درهم أو عشرين ديناراً في كل واحد. وقال محمد بن مسلمة: يضم بعضها إلى بعض ويزكى الجميع كالزرع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: المعدن كالركاز، فما وجد في المعدن من ذهب أو فضة بعد إخراج الخمس اعتبر كل واحد منهما، فمن حصل بيده ما تجب فيه الزّكاة زكَّاهُ لتمام الحول إن أتى عليه حول وهو نِصاب عنده؛ هذا إذا لم يكن عنده ذهب أو فضة وجبت فيه الزكاة. فإن كان عنده من ذلك ما تجب فيه الزكاة ضمه إلى ذلك وزكّاه. وكذلك عندهم كل فائدة تضم في الحول إلى النصاب من جنسها وتزكَّى لحول الأصل؛ وهو قول الثّوري. وذكر المُزَنِيّ عن الشافعيّ قال: وأما الذي أنا واقف فيه فما يخرج من المعادن. قال المُزَنِيّ: الأَولى به على أصله أن يكون ما يخرج من المعدن فائدة يُزكّى بحوله بعد إخراجه. وقال اللّيث بن سعد: ما يخرج من المعادن من الذهب والفضة فهو بمنزلة الفائدة يستأنف به حولاً؛ وهو قول الشافعيّ فيما حصّله المُزَنِيّ من مذهبه، وقال به داود وأصحابه إذا حال عليها الحول عند مالك صحيح المِلْك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول" أخرجه التّرمذيّ والدَّارَقُطْنِيّ. واحتجوا أيضاً بما رواه عبد الرحمٰن بن أَنْعُم عن أبي سعيد الخدرِي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطىٰ قوماً من المُؤَلَّفة قلوبهم ذُهيبة في تربتها، بعثها عليّ رضي الله عنه من اليَمَن. قال الشافعيّ: والمؤلَّفة قلوبُهم حقّهُم في الزكاة؛ فتبيّن بذلك أن المعادن سُنَّتُها سُنّة الزكاة. وحجة مالك حديثٌ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمٰن أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقطع بلالَ ابنَ الحارث المعادنَ القَبَلِيّة وهي من ناحية الفُرْع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلاَّ الزكاة. وهذا حديث منقطع الإسناد لا يحتج بمثله أهل الحديث، ولكنه عمل يُعمل به عندهم في المدينة. ورواه الدّرَاوَرْدِيّ عن ربيعة عن الحارث بن بلال المُزَنِيّ عن أبيه. ذكره البزّار، ورواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جَدّه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه أقطع بلالَ بنَ الحارث المعادنَ القَبَلِيّة جَلْسِيِّها وغَوْرِيّها، وحيث يصلُح للزرع من قُدْس ولم يُعْطه حقَّ مُسْلم؛ ذكره البزار أيضاً، وكثير مجمعٌ على ضعفه. هذا حكم ما أخرجته الأرض، وسيأتي في سورة «النحل» حكم ما أخرجه البحر إذ هو قَسِيم الأرض. ويأتى في «الأنبياء» معنى قوله عليه السَّلام: "العَجْماء جَرْحها جُبَار" كل في موضعه إن شاء الله تعالىٰ.

السابعة ـ قوله تعالىٰ: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } تيمموا معناه تقصدوا، وستأتي الشواهد من أشعار العرب في أن التيمم القَصْد في «النساء» إن شاء الله تعالىٰ. ودلّت الآية على أن المكاسب فيها طيب وخبيث. وروى النسائي عن أبى أُمامة ابن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله تعالىٰ فيها: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قال: هو الجُعْرُور وَلَوْن حُبَيْق؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذا في الصدقة. وروى الدّارَقُطْنِيّ "عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة فجاء رجل من هذا السُّحَّل بكبائس ـ قال سفيان: يعني الشِّيص ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن جَاء بهذا؟! وكان لا يجىء أحد بشيء إلاَّ نُسب إلى الذي جاء به. فنزلت: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ }. قال: ونَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الجُعْرُور وَلَوْن الحُبَيق أن يؤخذا في الصدقة" ـ قال الزهريّ: لونين من تمر المدينة ـ وأخرجه الترمذيّ من حديث البراء وصححه، وسيأتي. وحكى الطبريّ والنحاس أن في قراءة عبد الله «وَلاَ تَأَمَّمُوا» وهما لغتان. وقرأ مسلم بن جُندب «وَلاَ تُيَمِّمُوا» بضم التاء وكسر الميم. وقرأ ابن كثير «تيمّموا» بتشديد التاء. وفي اللفظة لغات، منها «أَمَمْتُ الشيء» مخففة الميم الأُولىٰ و «أممته» بشدّها، و «يَمْمْتُه وَتَيَمَّمْتُه». وحكى أبو عمرو أن ٱبن مسعود قرأ «وَلاَ تُؤَمِّمُوا» بهمزة بعد التاء المضمومة.

الثامنة ـ قوله تعالىٰ: { مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قال الجُرجانيّ في كتاب «نظم القرآن»: قال فريق من الناس: إن الكلام تمّ في قوله تعالىٰ: «الْخَبِيثَ» ثم ابتدأ خبراً آخر في وصف الخبيث فقال: «مِنْهُ تُنْفِقُونَ» وأنتم لا تأخذونه إلاَّ إذا أغْمضتم أي تساهلتم؛ كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع. والضمير في «منه» عائد على الخبيث وهو الدون والردىء. قال الجرجانيّ: وقال فريق آخر: الكلام متصل إلى قوله «مِنْهُ»؛ فالضمير في «منه» عائد على «مَاكَسَبْتُمْ» ويجىء «تُنْفِقُونَ» كأنه في موضع نصب على الحال؛ وهو كقولك: أنا أخرج أُجاهد في سبيل الله.

التاسعة ـ قوله تعالىٰ: { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } أي لستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم من الناس إلاَّ أن تتساهلوا في ذلك وتتركوا من حقوقكم، وتكرهونه ولا ترضونه. أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم؛ قال معناه البَرَاء بن عازِب وابن عابس والضحّاك. وقال الحسن: معنى الآية: ولستم بآخذيه ولو وجدتموه في السوق يباع إلاَّ أن يهضم لكم من ثمنه. ورُوي نحوه عن عليّ رضي الله عنه. قال ابن عطية: وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة. قال ابن العربيّ: لو كانت في الفرض لما قال: «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ» لأن الردىء والمعِيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه، وإنما يؤخذ مع عدم إغماض في النفل. وقال البراء بن عازب أيضاً معناه: «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ» لو أهدى لكم «إلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ» أي تستحي من المُهدِي فتقبل منه ما لا حاجة لك به ولا قَدْر له في نفسه. قال ابن عطية: وهذا يشبه كون الآية في التطوّع. وقال ابن زيد: ولستم بآخذي الحرام إلاَّ أن تُغمِضوا في مكروهه.

العاشرة ـ قوله تعالىٰ: { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } كذا قراءة الجمهور، من أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورِضي ببعض حقه وتجاوز؛ ومن ذلك قول الطِّرِمّاح:

لم يَفُتْنَا بِالوَتْر قومٌ وللذُّلِّ أُناسٌ يَرضَوْن بالإغْماضِ

وقد يحتمل أن يكون منتزعاً إمّا من تغميض العين؛ لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عينيه ـ قال:

إلى كَمْ وكَمْ أشياءَ مِنك تُرِيبُنِيأُغَمِّضُ عنها لستُ عنها بذي عَمَى

وهذا كالإغضاء عند المكروه. وقد ذكر النقَّاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه مَكِّيّ ـ وإمّا من قول العرب: أغْمض الرجل إذا أتى غامضاً من الأمر؛ كما تقول: أَعْمَن أي أتى عُمَان، وأَعْرَق أي أتى العِراق، وأنجد وأغور أي أتى نجداً والغور الذي هو تهامة، أي فهو يطلب التأويل على أخذه. وقرأ الزُّهْرِيّ بفتح التاء وكسر الميم مخففاً، وعنه أيضاً «تُغَمِّضوا» بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم وشدّها. فالأُولى على معنى تهضموا سومها من البائع منكم فيحطّكم. والثانية، وهي قراءة قتَادة فيما ذكر النحاس، أي تأخذوا بنقصان. وقال أبو عمرو الدّانِيّ: معنى قراءتي الزُّهريّ حتى تأخذوا بنقصان. وحكى مَكِّيّ عن الحسن «إلاَّ أَنْ تُغَمَّضوا» مشدّدة الميم مفتوحة. وقرأ قَتادة أيضاً «تُغْمَضوا» بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففاً. قال أبو عمرو الدَّانِيّ: معناه إلا أن يغمض لكم؛ وحكاه النحاس عن قتادة نفسه. وقال ابن جِنِّي: معناها تُوجَدُوا قد غمضتم في الأمر بتأوّلكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس. وهذا كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محموداً، إلى غير ذلك من الأمثلة. قال ابن عطيّة: وقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى تغميض العين؛ لأن أغمض بمنزلة غمّض. وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضاً من التأويل والنظر في أخذ ذلك؛ إما لكونه حراماً على قول ابن زيد، وإما لكونه مُهْدًى أو مأخوذاً في دَيْن على قول غيره. وقال المَهْدَوِيّ: ومن قرأ «تُغْمِضُوا» فالمعنى تُغْمِضُون أعينَ بصائركم عن أخذه. قال الجوهريّ: وغَمَّضْتُ عن فلان إذا تساهلت عليه في بيع أو شراء وأَغْمَضْت، وقال تعالى: { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ }. يقال: أَغْمِض لي فيما بعتني؛ كأنك تريد الزيادة منه لرداءته والحطَّ من ثمنه. و «أن» في موضع نصب، والتقدير إلا بأن.

الحادية عشرة ـ قوله تعالى: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } نبّه سبحانه وتعالى على صفة الغنى، أي لا حاجة به إلى صدقاتكم؛ فمن تقرّب وطلب مثوبةً فليفعل ذلك بما له قَدْرٌ وبَالٌ، فإنما يقدّم لنفسه. و «حَميدٌ» معناه محمود في كل حال. وقد أتينا على معاني هذين الإسمين في «الكتاب الأسنى» والحمد لله. قال الزجاج في قوله «وٱعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»: أي لم يأمركم أن تَصَدّقوا من عَوَز ولكنه بَلاَ أخبارَكم فهو حميد على ذلك على جميع نِعمه.