خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٨٧
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٨
-الأنبياء

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَذَا ٱلنُّونِ } أي واذكر «ذَا النُّون» وهو لقب ليونس بن متى لابتلاع النون إياه. والنون الحوت. وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبياً مليحاً فقال: دَسّموا نُونَته كي لا تصيبه العين. روى ثعلب عن ابن الأعرابي: النّونة النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسِّموا سوِّدوا. { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير: مغاضباً لربه عز وجل. واختاره الطبري والقتبي واستحسنه المهدوي، وروي عن ابن مسعود. وقال النحاس: وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح. والمعنى: مغاضباً من أجل ربه، كما تقول: غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عُصي. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن "قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: اشترطي لهم الولاء" من هذا. وبالغ القتبي في نصرة هذا القول. وفي الخبر في وصف يونس: إنه كان ضيق الصدر فلما حمل أعباء النبوّة تَفسَّخ تحتها تفسّخ الرُّبَع تحت الحمل الثقيل، فمضى على وجهه مضي الآبق النادّ. وهذه المغاضبة كانت صغيرة. ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع العذاب عنهم. وقال ابن مسعود: أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعود إليهم بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعد قومه نزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من عندهم في ذلك الوقت، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم؛ فلذلك ذهب مغاضباً وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدّد. وقال الحسن: أمره الله تعالى بالمسير إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلاً ليلبسها فلم يُنظر، وقيل له: الأمر أعجل من ذلك ـ وكان في خلقه ضيق ـ فخرج مغاضباً لربه؛ فهذا قول وقول النحاس أحسن ما قيل في تأويله. أي خرج مغاضباً من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه. وقيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارّاً بنفسه، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله. روي معناه عن ابن عباس والضحاك، وأن يونس كان شاباً ولم يحمل أثقال النبوّة؛ ولهذا قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: { { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } [القلم: 48]. وعن الضحاك أيضاً خرج مغاضباً لقومه؛ لأن قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل. وقالت فرقة منهم الأخفش: إنما خرج مغاضباً للملك الذي كان على قومه. قال ابن عباس: أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم، والأمر والسياسة إلى ملك قد اختاروه، فيعمل على وحي ذلك النبي، وكان أوحى الله لشعيا: أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبياً قوياً أميناً من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم. فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فهل سماني لك؟ قال: لا. قال: فهاهنا أنبياء أمناء أقوياء. فألحوا عليه فخرج مغاضباً للنبي والملك وقومه، فأتى بحر الروم وكان من قصته ما كان؛ فابتلي ببطن الحوت لتركه أمر شعيا؛ ولهذا قال الله تعالى: { { فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [الصافات: 142] والمليم من فعل ما يلام عليه. وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الأولى. وقيل: خرج ولم يكن نبياً في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى؛ ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله، فخرج مغاضباً للملك؛ فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به. وقال القشيري: والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه، وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم؛ فإنه كره رفع العذاب عنهم.

قلت: هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في «والصافات» إن شاء الله تعالى. وقيل: إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب، وخرج فارّاً على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها: أفيكم آبق؟ فقال: أنا هو. وكان من قصته ما كان، وابتلي ببطن الحوت تمحيصاً من الصغيرة كما قال في أهل أحدٍ: { { حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ } [آل عمران: 152] إلى قوله: { { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [آل عمران: 141] فمعاصي الأنبياء مغفورة، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك زجراً عن المعاودة. وقول رابع: إنه لم يغاضب ربه، ولا قومه، ولا الملك، وأنه من قولهم غضب إذا أنف. وفَاعَل قد يكون من واحد؛ فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج آبقاً. وينشد هذا البيت:

وأغضب أن تُهجى تميم بدارم

أي آنف. وهذا فيه نظر؛ فإنه يقال لصاحب هذا القول: إن تلك المغاضبة وإن كانت من الأنفة، فالأنفة لا بد أن يخالطها الغضب وذلك الغضب وإن دق على من كان؟! وأنت تقول لم يغضب على ربه ولا على قومه!

قوله تعالى: { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ } قيل: معناه استزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه؛ لأنه كفر. روي عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي، والثعلبي عن الحسن. وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه: فظن أن لن نضيق عليه. قال الحسن: هو من قوله تعالى: { { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [الرعد: 26] أي يضيّق. وقوله: { { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [الطلاق: 7].

قلت: وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن. وقَدَر وقُدِرَ وقَتَر وقُتِر بمعنى، أي ضُيّق وهو قول ابن عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي. وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء والحكم؛ أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة؛ قاله قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة. وروى عن أبي العباس أحمد بن يحيـى ثعلب، أنه قال في قول الله عز وجل: { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } هو من التقدير ليس من القدرة، يقال منه: قدرَ الله لك الخير يقدره قدراً، بمعنى قدّر الله لك الخير. وأنشد ثعلب:

فليست عشيّات اللِّوَى برواجعلنا أبداً ما أورق السَّلَم النضْرُ
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضىتباركت ما تقدِر يقعْ ولك الشكرُ

يعني ما تقدّره وتقضي به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرأ عمر بن عبد العزيز والزهري: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُقَدِّرَ عَلَيْهِ» بضم النون وتشديد الدال من التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرأ عبيد بن عمير وقتادة والأعرج: «أَنْ لَنْ يُقَدَّرَ عَلَيْهِ» بضم الياء مشدداً على الفعل المجهول. وقرأ يعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضاً «يُقْدَرَ عَلَيْهِ» بياء مضمومة وفتح الدال مخفّفاً على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضاً «فَظَنَّ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ». الباقون «نَقْدِر» بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير.

قلت: وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيراً قط لأهله إذا مات فحرقوه: «فوالله لئن قدر الله علي» الحديث فعلى التأويل الأوّل يكون تقديره: والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزاني على ذنوبي ليكونن ذلك، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني: أي لئن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين غيري. وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا موحداً. وقد جاء في بعض طرقه «لم يعمل خيراً إلا التوحيد» وقد قال حين قال الله تعالى: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق؛ قال الله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }. وقد قيل: إن معنى { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } الاستفهام وتقديره: أفظن؛ فحذف ألف الاستفهام إيجازاً؛ وهو قول سليمان (أبو) المعتمر. وحكى القاضى منذر بن سعيد: أن بعضهم قرأ «أفظن» بالألف.

قوله تعالى: { فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: { فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ } اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت. وذكر ابن أبي الدنيا حدّثنا يوسف بن موسى حدّثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: حدّثنا عبد الله بن مسعود في بيت المال قال: لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر { أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } { فَنَبَذْنَاهُ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ } كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد: ظلمة البحر، وظلمة حوت التقم الحوت الأوّل. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأوّل فقط؛ كما قال: «فِي غَيَابَات الْجُبِّ» وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي: أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدّة، وظلمة الوحدة. وروي: أن الله تعالى أوحى إلى الحوت: «لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك» وروي: أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبدي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال: لما التقم الحوت يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي فقال في دعائه: «واتخذت لك مسجداً حيث لم يتخذه أحد». وقال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضّلوني على يونس بن متى" المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة. وقد تقدّم هذا المعنى في «البقرة» و«الأعراف». { أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم. وقيل: في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصاً. وقد يؤدّب من لا يستحق العقاب كالصبيان؛ ذكره الماوردي. وقيل: من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ. وقال الواسطي في معناه: نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافاً واستحقاقاً. ومثل هذا قول آدم وحواء: { { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [الأعراف: 23] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه.

الثانية: روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعاء ذي النون في بطن الحوت { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له" وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم. ورواه سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر: في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: { وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ } وليس هاهنا صريح دعاء وإنما هو مضمون قوله: { إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } فاعترف بالظلم فكان تلويحاً.

قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله: { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة. وقال الأستاذ أبو إسحاق: صحب ذو النون الحوت أياماً قلائل فإلى يوم القيامة يقال له ذو النون، فما ظنك بعبد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. { مِنَ ٱلْغَمِّ } أي من بطن الحوت.

قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ } قراءة العامة بنونين من أنجى ينجي. وقرأ ابن عامر «نُجِّي» بنون واحدة وجيم مشدّدة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نُجّي النجاءُ المؤمنين؛ كما تقول: ضُرِب زيداً بمعنى ضُرِب الضربُ زيداً وأنشد:

ولو وَلَدتْ قُفَيْرةُ جرو كَلْبٍلَسُبَّ بذلك الجروِ الكلابَا

أراد لَسُبّ السبُّ بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بَقِي ورَضِي فلا يحرك الياء. وقرأ الحسن { { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا } [البقرة: 278] استثقالاً لتحريك ياء قبلها كسرة. وأنشد:

خَمَّر الشّيبُ لِمَّتِي تَخْمِيرَاوَحَدَا بي إلى القُبور البعِيرَا
ليتَ شِعْري إذا القيامةُ قامتْودُعِي بالحسابِ أين المصيرَا

سكن الياء في دعي استثقالاً لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب؛ أي وحدا المشيبُ البعير؛ ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا: هو لحن؛ لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله؛ وإنما يقال: نُجِّي المؤمنون. كما يقال: كُرِّم الصالحون. ولا يجوز ضُرِب زيداً بمعنى ضُرِب الضَّربُ زيداً؛ لأنه لا فائدة (فيه) إذ كان ضُرِب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولأبي عبيد قول آخر ـ وقاله القتبي ـ وهو أنه أدغم النون في الجيم. النحاس: وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين؛ لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ» «مَجَّاءَ بِالْحَسَنَةِ» قال النحاس: ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من عليّ بن سليمان. قال: الأصل ننجي فحذف إحدى النونين؛ لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين؛ لاجتماعهما نحو قوله عز وجل: «وَلاَ تَفَرَّقُوا» والأصل تتفرقوا. وقرأ محمد بن السَّمَيقع وأبو العالية «وَكَذَلِكَ نَجَّى الْمُوْمِنِينَ» أي نجى الله المؤمنين؛ وهي حسنة.