خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ
٣٠
حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
٣١
-الحج

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثماني مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { ذٰلِكَ } يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير: فرضُكم ذلك، أو الواجب ذلك. ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير: امتثلوا ذلك؛ ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير:

هذا وليس كمن يَعْيَا بخُطّتهوسْطَ النَّدِيّ إذا ما قائل نطقا

والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله: { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ }، ويدخل في ذلك تعظيم المواضع؛ قاله ابن زيد وغيره. ويجمع ذلك أن تقول: الحرمات امتثال الأمر في فرائضه وسننه. وقوله: { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } أي التعظيم خير له عند ربه من التهاون بشيء منها. وقيل: ذلك التعظيم خير من خيراته يُنتفع به، وليست للتفضيل وإنما هي عِدَة بخير.

الثانية: قوله تعالى: { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ } أن تأكلوها؛ وهي الإبل والبقر والغنم. { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } أي في الكتاب من المحرمات؛ وهي المَيْتة والمَوْقُوذة وأخواتها. ولهذا اتصال بأمر الحج؛ فإن في الحج الذبح، فبيّن ما يحلّ ذبحه وأكل لحمه. وقيل: { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } غيرَ مُحِلِّي الصيد وأنتم حرم.

الثالثة: قوله تعالى: { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } الرجس: الشيء القذِر. والوَثَن: التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصِبها وتعبدها. والنصارى تنصِب الصليب وتعبده وتعظمه فهو كالتمثال أيضاً. وقال عَدِيّ بن حاتم: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: "ألْقِ هذا الوثن عنك" أي الصليب؛ وأصله من وَثَن الشيء أي أقام في مقامه. وسمي الصنم وَثَناً لأنه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه. يريد اجتنبوا عبادة الأوثان؛ روي عن ابن عباس وابن جُريج. وسماها رجساً لأنها سبب الرجز وهو العذاب. وقيل: وصفها بالرجس، والرجس النجس فهي نجسة حكماً. وليست النجاسة وصفاً ذاتياً للأعيان وإنما هي وصف شرعيّ من أحكام الإيمان، فلا تُزال إلا بالإيمان كما لا تجوز الطهارة إلا بالماء.

الرابعة: { مِن } في قوله: { مِنَ ٱلأَوْثَانِ } قيل: إنها لبيان الجنس، فيقع نهيه عن رجس الأوثان فقط، ويبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية؛ فكأنهم نهاهم عن الرجس عاماً ثم عيّن لهم مبدأه الذي منه يلحقهم؛ إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس. ومن قال إن «مِن» للتبعيض، قلب معنى الآية وأفسده.

الخامسة: قوله تعالى: { وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } والزور: الباطل والكذب. وسمي زوراً لأنه أميل عن الحق؛ ومنه { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ }، ومدينةٌ زوراء؛ أي مائلة. وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزُور. وفي الخبر أنه عليه السلام قام خطيباً فقال: "عَدَلت شهادةُ الزور الشّركَ بالله" قالها مرتين أو ثلاثاً. يعني أنها قد جُمعت مع عبادة الوثن في النهي عنها.

السادسة: هذه الآية تضمّنت الوعيد على الشهادة بالزور، وينبغي للحاكم إذا عَثَر على الشاهد بالزور أن يعزّره وينادي عليه ليُعرف لئلا يغتَرّ بشهادته أحد. ويختلف الحكم في شهادته إذا تاب؛ فإن كان من أهل العدالة المشهور بها المبرّز فيها لم تقبل؛ لأنه لا سبيل إلى علم حاله في التوبة؛ إذ لا يستطيع أن يفعل من القربات أكثر مما هو عليه. وإن كان دون ذلك فشمّر في العبادة وزادت حاله في التُّقَى قبلت شهادته. وفي الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أكبر الكبائر الإشراكَ بالله وعقوقَ الوالدين وشهادةَ الزور وقول الزور" . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس فما زال يكررها حتى قلنا لَيْتَه سكت.

السابعة: { حُنَفَآءَ للَّهِ } معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق. ولفظة «حنفاء» من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل. و«حنفاء» نصب على الحال. وقيل: «حنفاء» حجاجاً؛ وهذا تخصيص لا حجة معه.

الثامنة: قوله تعالى: { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي هو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عن نفسه ضراً ولا عذاباً؛ فهو بمنزلة من خَرّ من السماء، فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه. ومعنى { فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ } أي تقطعه بمخالبها. وقيل: هذا عند خروج روحه وصعود الملائكة بها إلى سماء الدنيا، فلا يُفتح لها فيرمى بها إلى الأرض؛ كما في حديث البَرَاء، وقد ذكرناه في التذكرة. والسحيق: البعيد؛ ومنه قوله تعالى: { { فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [الملك: 11]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "فسُحْقاً فسحقاً"