خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيۤ إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ
٥٢
فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ
٥٣
إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ
٥٤
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ
٥٥
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ
٥٦
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
٥٧
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
٥٨
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
٥٩
فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ
٦٠
فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
٦١
قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
٦٢
فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ
٦٣
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ
٦٤
وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ
٦٥
ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ
٦٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
٦٧
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
٦٨
-الشعراء

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيۤ إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ } لما كان من سنته تعالى في عباده إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً وسماهم عباده؛ لأنهم آمنوا بموسى. ومعنى: { إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } أي يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم. وفي ضمن هذا الكلام تعريفهم أن الله ينجيهم منهم؛ فخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سَحَراً، فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول: هكذا أمرت. فلما أصبح فرعون وعلم بسُرَى موسى ببني إسرائيل، خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر، فروي أنه لحقه ومعه مائة ألف أدهم من الخيل سوى سائر الألوان. وروي أن بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً. والله أعلم بصحته. وإنما اللازم من الآية الذي يُقطع به أن موسى عليه السلام خرج بجمع عظيم من بني إسرائيل وأن فرعون تبعه بأضعاف ذلك. قال ابن عباس: كان مع فرعون ألف جبار كلهم عليه تاج وكلهم أمير خيل. والشِّرذمة الجمع القليل المحتقر والجمع الشَّراذم. قال الجوهري: الشِّرذمة الطائفة من الناس والقطعة من الشيء. وثوب شراذم أي قطع. وأنشد الثعلبي قول الراجز:

جاء الشتاءُ وثِيَابي أَخْلاقْشَراذِمٌ يَضحكُ منها النَّوَّاقْ

النَّوَّاقْ من الرجال الذي يروض الأمور ويصلحها؛ قاله في الصحاح. واللام في قوله: { لَشِرْذِمَةٌ } لام توكيد وكثيراً ما تدخل في خبر إن، إلا أن الكوفيين لا يجيزون إن زيداً لسوف يقوم. والدليل على أنه جائز قوله تعالى: { { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الشعراء: 49] وهذه لام التوكيد بعينها وقد دخلت على سوف؛ قاله النحاس. { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ } أي أعداء لنا لمخالفتهم ديننا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها على ما تقدم. وماتت أبكارهم تلك الليلة. وقد مضى هذا في «الأعراف» و«طه» مستوفى. يقال: غاظني كذا وأغاظني. والغيظ الغضب ومنه التغيظ والاغتياظ. أي غاظونا بخروجهم من غير إذن. { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ } أي مجتمع أخذنا حِذرنا وأسلحتنا. وقرىء { حَاذِرُونَ } ومعناه معنى { حَذِرُونَ } أي فرقون خائفون. قال الجوهري: وقرىء { وَإِنَّا لجمِيعٌ حَاذِرُون } و{ حَذِرُونَ } و{ حَذُرونَ } بضم الذال حكاه الأخفش؛ ومعنى { حَاذِرُونَ } متأهبون، ومعنى: { حَذِرُونَ } خائفون. قال النحاس: { حَذِرُونَ } قراءة المدنيين وأبي عمرو، وقراءة أهل الكوفة { حَاذِرُونَ } وهي معروفة عن عبد الله بن مسعود وابن عباس؛ و{ حَادِرُونَ } بالدال غير المعجمة قراءة أبي عبّاد وحكاها المهدوي عن ابن أبي عمار، والماوردي والثعلبي عن سُمَيْط بن عجلان. قال النحاس: أبو عبيدة يذهب إلى أن معنى { حَذِرُونَ } { وحَاذِرُونَ } واحد. وهو قول سيبويه وأجاز: هو حذِرٌ زيدا؛ كما يقال: حاذر زيدا، وأنشد:

حَذِرٌ أُموراً لا تَضِيرُ وآمِنٌما ليس مُنْجِيَهُ من الأقدارِ

وزعم أبو عمر الجَرْميّ أنه يجوز هو حذرٌ زيداً على حذف مِن. فأما أكثر النحويين فيفرقون بين حذِر وحاذر؛ منهم الكسائي والفراء ومحمد بن يزيد؛ فيذهبون إلى أن معنى حذر في خلقته الحذر، أي متيقظ متنبه، فإذا كان هكذا لم يتعدّ، ومعنى حاذر مستعدّ وبهذا جاء التفسير عن المتقدّمين. قال عبد الله بن مسعود في قول الله عز وجل: { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } قال: مؤدون في السلاح والكُراع مُقْوون، فهذا ذاك بعينه. وقوله: مؤدون معهم أداة. وقد قيل: إن المعنى: معنا سلاح وليس معهم سلاح يحرضهم على القتال؛ فأما { حادِرون } بالدال المهملة فمشتق من قولهم عين حَدْرة أي ممتلئة؛ أي نحن ممتلئون غيظاً عليهم؛ ومنه قول الشاعر:

وعينٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌشُقَّتْ مآقيهمَا مِنْ أُخَرْ

وحكى أهل اللغة أنه يقال: رجل حادِرٌ إذا كان ممتلىء اللحم؛ فيجوز أن يكون المعنى الامتلاء من السلاح. المهدوي: الحادر القويّ الشديد.

قوله تعالى: { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } يعني من أرض مصر. وعن عبد الله بن عمرو قال: كانت الجنات بحافتي النيل في الشّقتين جميعاً من أسوان إلى رشيد، وبين الجنات زروع. والنيل سبعة خلجان: خليج الإسكندرية، وخليج سَخا، وخليج دمياط، وخليج سَرْدُوس، وخليج مَنْف، وخليج الفيوم، وخليج المَنْهَى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، والزروع ما بين الخلجان كلها. وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعاً بما دبّروا وقدّروا من قناطرها وجسورها وخلجانها؛ ولذلك سمي النيل إذا غلق ستة عشر ذراعاً نيل السلطان، ويُخَلع على ابن أبي الردّاد؛ وهذه الحال مستمرّة إلى الآن. وإنما قيل نيل السلطان لأنه حينئذٍ يجب الخراج على الناس. وكانت أرض مصر جميعها تروى من إصبع واحدة من سبعة عشر ذراعاً، وكانت إذا غلق النيل سبعة عشر ذراعاً ونودي عليه إصبع واحد من ثمانية عشر ذراعاً، ازداد في خراجها ألف ألف دينار. فإذا خرج عن ذلك ونودي عليه إصبعاً واحداً من تسعة عشر ذراعاً نقص خراجها ألف ألف دينار. وسبب هذا ما كان ينصرف في المصالح والخلجان والجسور والاهتمام بعمارتها. فأما الآن فإن أكثرها لا يروى حتى ينادى إصبع من تسعة عشر ذراعاً بمقياس مصر. وأما أعمال الصعيد الأعلى، فإن بها ما لا يتكامل ريّه إلا بعد دخول الماء في الذراع الثاني والعشرين بالصعيد الأعلى.

قلت: أما أرض مصر فلا تروى جميعها الآن إلا من عشرين ذراعاً وأصابع؛ لعلو الأرض وعدم الاهتمام بعمارة جسورها، وهو من عجائب الدنيا؛ وذلك أنه يزيد إذا انصبت المياه في جميع الأرض حتى يسيح على جميع أرض مصر، وتبقى البلاد كالأعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب والقياسات. وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: نيل مصر سيد الأنهار، سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، وذلل الله له الأنهار؛ فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الأنهار بمائها، وفجّر الله له عيوناً، فإذا انتهى إلى ما أراد الله عز وجل، أوحى الله تبارك وتعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. وقال قيس بن الحجاج: لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بئونة من أشهر القبط فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ فقالوا: إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بِكر بين أبويها؛ أرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل؛ فقال لهم عمرو: هذا لا يكون في الإسلام؛ وإن الإسلام ليهدم ما قبله. فأقاموا أبيب ومسرى لا يجري قليل ولا كثير، وهموا بالجلاء. فلما أرى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فأعلمه بالقصة، فكتب إليه عمر بن الخطاب: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإن الإسلام يهدم ما قبله ولا يكون هذا. وبعث إليه ببطاقة في داخل كتابه. وكتب إلى عمرو: إني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل إذا أتاك كتابي. فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى نيل مصر ـ أما بعد ـ فإن كنت إنما تجري من قِبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يُجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. قال: فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل. فلما ألقى البطاقة في النيل. أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله في ليلة واحدة ستة عشر ذراعاً، وقطع الله تلك السيرة عن أهل مصر من تلك السنة. قال كعب الأحبار: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا سَيْحان وجَيْحان والنيل والفرات. فسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة، والنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة. وقال ابن لَهيعَة: الدجلة نهر اللبن في الجنة.

قلت: الذي في «الصحيح» من هذا حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيْحانُ وَجَيْحَانُ وَالنِّيلُ وَالْفُراتُ كُلٌّ من أنهار الجنة" لفظ مسلم. وفي حديث الإسراء من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صَعْصَعة رجل من قومه قال: "وحدّث نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت يا جبريل ما هذه الأنهار قال أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات" لفظ مسلم. وقال البخاريّ من طريق شَريك عن أنس "فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يَطَّرِدان فقال ما هذان النهران يا جبريل قال هذا النيل والفرات عنصرهما ثم مضى في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من اللؤلؤ والزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا هو الكوثر الذي خبأ لك ربُّك" . وذكر الحديث. والجمهور على أن المراد بالعيون عيون الماء. وقال سعيد بن جبير: المراد عيون الذهب. وفي الدخان { { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ } [الدخان: 25 ـ 26]. قيل: إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أوّل مصر إلى آخرها. وليس في الدخان { وكنوز }. { وكنوز } جمع كنز؛ وقد مضى هذا في سورة «براءة». والمراد بها هاهنا الخزائن. وقيل: الدفائن. وقال الضحاك: الأنهار؛ وفيه نظر؛ لأن العيون تشملها. { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } قال ابن عمر وابن عباس ومجاهد: المقام الكريم المنابر؛ وكانت ألف مِنبر لألف جبّار يُعظّمون عليها فرعون ومُلكه. وقيل: مجالس الرؤساء والأمراء؛ حكاه ابن عيسى وهو قريب من الأول. وقال سعيد بن جبير: المساكن الحسان. وقال ابن لهيعة: سمعت أن المقام الكريم الفيوم. وقيل: كان يوسف عليه السلام قد كتب على مجلس من مجالسه (لا إلٰه إلا الله إبراهيم خليل الله) فسماها الله كريمة بهذا. وقيل: مرابط الخيل لتفرد الزعماء بارتباطها عُدّة وزينة فصار مقامها أكرم منزل بهذا؛ ذكره الماوردي. والأظهر أنها المساكن الحسان كانت تكرم عليها. والمقام في اللغة يكون الموضع ويكون مصدراً. قال النحاس: المقام في اللغة الموضع؛ من قولك قام يقوم، وكذا المقامات واحدها مقامة؛ كما قال:

وفيهم مَقَاماتٌ حِسانٌ وجوهُهموأنديةٌ ينتابُها القولُ والفعلُ

والمقام أيضاً المصدر من قام يقوم. والمقام (بالضم) الموضع من أقام. والمصدر أيضاً من أقام يقيم.

قوله تعالى: { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } يريد أن جميع ما ذكره الله تعالى من الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم أورثه الله بني إسرائيل. قال الحسن وغيره: رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه. وقيل: أراد بالوراثة هنا ما استعاروه من حليّ آل فرعون بأمر الله تعالى.

قلت: وكلا الأمرين حصل لهم. والحمد لله. { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } أي فتبع فرعون وقومه بني إسرائيل. قال السدي: حين أشرقت الشمس بالشعاع. وقال قتادة: حين أشرقت الأرض بالضياء. قال الزجاج: يقال شَرَقت الشمسُ إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت. واختلف في تأخر فرعون وقومه عن موسى وبني إسرائيل على قولين: أحدهما: لاشتغالهم بدفن أبكارهم في تلك الليلة؛ لأن الوباء في تلك الليلة وقع فيهم؛ فقوله: { مُشْرِقِينَ } حال لقوم فرعون. الثاني: إن سحابة أظلتهم وظُلْمة فقالوا: نحن بعد في الليل فما تقشعت عنهم حتى أصبحوا. وقال أبو عبيدة: معنى { فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ } ناحية المشرق. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون: { فَاتَّبَعُوهُمْ مُشَرّقِينَ } بالتشديد وألف الوصل؛ أي نحو المشرق؛ مأخوذ من قولهم: شرّق وغرّب إذا سار نحو المشرق والمغرب. ومعنى الكلام قدرنا أن يرثها بنو إسرائيل فاتبع قوم فرعون بني إسرائيل مشرّقين فهلكوا، وورث بنو إسرائيل بلادهم.

قوله تعالى: { فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ } أي تقابلا الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه، وهو تفاعل من الرؤية. { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } أي قرب منا العدوّ ولا طاقة لنا به. وقراءة الجماعة { لَمُدْرَكُونَ } بالتخفيف من أدرك. ومنه { { حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ } [يونس: 90]. وقرأ عبيد بن عمير والأعرج والزهري { لَمُدَّرِكُونَ } بتشديد الدال من ادّرك. قال الفراء: حفر واحتفر بمعنى واحد، وكذلك { لَمُدْرَكُونَ } و{ لَمُدَّرَكُونَ } بمعنى واحد. النحاس: وليس كذلك يقول النحويون الحذّاق؛ إنما يقولون: مُدْرَكون ملحقون، ومدّركون مجتهد في لحاقهم، كما يقال: كسبت بمعنى أصبت وظفرت، واكتسبت بمعنى اجتهدت وطلبت وهذا معنى قول سيبويه.

قوله تعالى: { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } لما لحق فرعون بجمعه جمعَ موسى وقرب منهم، ورأت بنو إسرائيل العدوّ القويّ والبحر أمامهم ساءت ظنونهم، وقالوا لموسى على جهة التوبيخ والجفاء: { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } فردّ عليهم قولهم وزَجَرهم وذكَّرهم وعد الله سبحانه له بالهداية والظفر { كَلاَّ } أي لم يدركوكم { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي } أي بالنصر على العدوّ. { سَيَهْدِينِ } أي سيدلّني على طريق النجاة؛ فلما عظم البلاء على بني إسرائيل، ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه؛ وذلك أنه عز وجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل يفعله؛ وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر، ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى واختراعه. وقد مضى في «البقرة» قصة هذا البحر. ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقاً على عدد أسباط بني إسرائيل، ووقف الماء بينها كالطود العظيم، أي الجبل العظيم. والطود الجبل؛ ومنه قول امرىء القيس:

فبينا المرءُ في الأحياءِ طَوْدٌرَماهُ الناسُ عن كَثَبٍ فَمَالاَ

وقال الأسود بن يَعْفُر:

حَلُّوا بأنْقرةٍ يَسيلُ عليهمُماءُ الفُراتِ يجيءُ من أَطْوَادِ

جمع طود أي جبل. فصار لموسى وأصحابه طريقاً في البحر يَبَساً؛ فلما خرج أصحاب موسى وتكامل آخر أصحاب فرعون على ما تقدّم في «يونس» انصب عليهم وغرق فرعونُ؛ فقال بعض أصحاب موسى: ما غرق فرعونُ؛ فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه. وروى ابن القاسم عن مالك قال: خرج مع موسى عليه السلام رجلان من التجار إلى البحر فلما أتوا إليه قالا له بم أمرك الله؟ قال: أمرت أن أضرب البحر بعصاي هذه فينفلق؛ فقالا له:افعل ما أمرك الله فلن يخلفك؛ ثم ألقيا أنفسهما في البحر تصديقاً له؛ فما زال كذلك البحر حتى دخل فرعون ومن معه، ثم ارتد كما كان. وقد مضى هذا المعنى في سورة «البقرة».

قوله تعالى: { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ } أي قربناهم إلى البحر؛ يعني فرعون وقومه. قاله ابن عباس وغيره؛ قال الشاعر:

وكلُّ يوم مَضَى أو ليلةٍ سلَفَتْفيها النفوسُ إلى الآجال تَزْدَلِفُ

أبو عبيدة: { أَزْلَفْنَا } جمعنا ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جَمْع. وقرأ أبو عبد الله بن الحارث وأبيّ بن كعب وابن عباس: { وَأَزْلَقَنَا } بالقاف على معنى أهلكناهم؛ من قوله: أزلقت الناقةُ وأزلقت الفرسُ فهي مُزْلِق إذا أزلقت ولدها. { وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ } يعني فرعون وقومه. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي علامة على قدرة الله تعالى { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } لأنه لن يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وابنته آسية امرأة فرعون، ومريم بنت ذا موسى العجوز التي دلّت على قبر يوسف الصديق عليه السلام. وذلك أن موسى عليه السلام لما خرج ببني إسرائيل من مصر أظلم عليهم القمر فقال لقومه: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا. قال موسى: فأيكم يدري قبره؟ قال: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل؛ فأرسل إليها؛ فقال: دلّيني على قبر يوسف، قالت: لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة؛ فثقل عليه، فقيل له: أعطها حكمها؛ فدلّتهم عليه، فاحتفروه واستخرجوا عظامه، فلما أقلوها، فإذا الطريق مثل ضوء النهار في رواية: فأوحى الله إليه أن أعطها ففعل، فأتت بهم إلى بحيرة، فقالت لهم: أنضبوا هذا الماء فأنضبوه واستخرجوا عظام يوسف عليه السلام؛ فتبينت لهم الطريق مثل ضوء النهار. وقد مضى في «يوسف». وروى أبو بردة عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حاجتك» قال: ناقة أرحلها وأعنزا أحلبها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلم عجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل» فقال أصحابه: وما عجوز بني إسرائيل؟ فذكر لهم حال هذه العجوز التي احتكمت على موسى أن تكون معه في الجنة.