خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ ٱلأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ
٨٢
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ
٨٣
حَتَّىٰ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٨٤
وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ
٨٥
أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٨٦
-النمل

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ ٱلأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ } اختلف في معنى وقع القول وفي الدابة؛ فقيل: معنى { وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ } وجب الغضب عليهِم؛ قاله قتادة. وقال مجاهد: أي حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون. وقال ابن عمر وأبو سعيد الخدريّ رضي الله عنهما: إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم. وقال عبد الله بن مسعود: وقع القول يكون بموت العلماء، وذهاب العلم، ورفع القرآن. قال عبد الله: أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قالوا هذه المصاحف تُرفَع فكيف بما في صدور الرجال؟ قال: يُسرَى عليه ليلاً فيصبحون منه قَفْراً، وينسون لا إلٰه إلا الله، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم؛ وذلك حين يقع القول عليهم.

قلت: أسنده أبو بكر البزار قال حدّثنا عبد الله بن يوسف الثَّقَفي قال حدّثنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ابن لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن أبيه أنه قال: أكثروا من زيارة هذا البيت من قبل أن يُرفَع وينسى الناس مكانه؛ وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يُرفَع؛ قالوا: يا أبا عبد الرحمن هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال؟ قال؛ فيصبحون فيقولون كنا نتكلم بكلام ونقول قولاً فيرجعون إلى شعر الجاهلية وأحاديث الجاهلية، وذلك حين يقع القول عليهم. وقيل: القول هو قوله تعالى: { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } [السجدة: 13] فوقوع القول وجوب العقاب على هؤلاء فإذا صاروا إلى حد لا تقبل توبتهم ولا يولد لهم ولد مؤمن فحينئذٍ تقوم القيامة؛ ذكره القشيري. وقول سادس: قالت حفصة بنت سيرين سألت أبا العالية عن قول الله تعالى: { وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ ٱلأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ } فقال: أوحى الله إلى نوح: { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [هود: 36] وكأنما كان على وجهي غطاء فكشف. قال النحاس: وهذا من حسن الجواب؛ لأن الناس ممتحَنون ومؤخَّرون لأن فيهم مؤمنين وصالحين، ومن قد علم الله عز وجل أنه سيؤمن ويتوب؛ فلهذا أمهلوا وأمرنا بأخذ الجزية، فإذا زال هذا وجب القول عليهم، فصاروا كقوم نوح حِين قال الله تعالى: { { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [هود: 36].

قلت: وجميع الأقوال عند التأمل ترجع إلى معنى واحد. والدليل عليه آخر الآية { إِنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } وقرىء: { أَنّ } بفتح الهمزة وسيأتي. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانُها (لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابّةُ الأرض" وقد مضى. واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافاً كثيراً؛ قد ذكرناه في كتاب «التذكرة» ونذكره هنا إن شاء الله تعالى مستوفى. فأوّل الأقوال أنه فصِيل ناقة صالح وهو أصحها ـ والله أعلم ـ لما ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال: "لها ثلاث خرجات من الدهر فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية ـ يعني مكة ـ ثم تكمن زماناً طويلاً ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية" يعني مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فارفضّ الناس منها شتًى ومعاً وتثبت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله فبدأت بهم فجلّت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدريّ وولّت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليتعوّذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلّي فتقبل عليه فتسمه في وجهه ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ويصطلحون في الأمصار يُعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن يقول يا كافر اقض حقي" «وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل قوله: «وهي ترغو» والرغاء إنما هو للإبل، وذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه ثم انطبق عليه، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عز وجل. وروي أنها دابة مزغبة شعراء، ذات قوائم طولها ستون ذراعاً، ويقال إنها الجساسة؛ وهو قول عبد الله بن عمر. وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين؛ وهي في السحاب وقوائمها في الأرض. وروي أنها جمعت من خلق كل حيوان. وذكر الماوردي والثعلبي: رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرّ، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعاً ـ الزمخشري: بذراع آدم عليه السلام ـ ويخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان، فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتة بيضاء فيبيض وجهه، وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان عليه السلام فيسود وجهه؛ قاله ابن الزبير رضي الله عنهما. وفي كتاب النقاش عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الدابة الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العُقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة. وحكى الماورديّ عن محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن الدابة فقال: أما والله ما لها ذنب وإن لها للحية. قال الماوردي: وفي هذا القول منه إشارة إلى أنها من الإنس وإن لم يصرح به.

قلت: ولهذا ـ والله أعلم ـ قال بعض المتأخرين من المفسرين: إن الأقرب أن تكون هذه الدابة إنساناً متكلماً يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا، فيهلك من هلك عن بينة: ويحيا من حيّ عن بينة. قال شيخنا الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في كتاب المفهم له: وإنما كان عند هذا القائل الأقرب لقوله تعالى: { تُكَلِّمُهُمْ } وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آية خاصة خارقة للعادة، ولا تكون من جملة العشر الآيات المذكورة في الحديث؛ لأن وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير، فلا آية خاصة بها فلا ينبغي أن تذكر مع العشر، وترتفع خصوصية وجودها إذا وقع القول، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الأرض أن يسمّوه باسم الإنسان أو بالعالم أو بالإمام إلى أن يسمّى بدابة؛ وهذا خروج عن عادة الفصحاء، وعن تعظيم العلماء، وليس ذلك دأب العقلاء؛ فالأولى ما قاله أهل التفسير، والله أعلم بحقائق الأمور.

قلت: قد رفع الإشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة فليعتمد عليه. واختلف من أي موضع تخرج، فقال عبد الله بن عمر: تخرج من جبل الصفا بمكة؛ يتصدع فتخرج منه. قال عبد الله بن عمرو نحوه وقال: لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت. وروي في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض تنشق عن الدابة وعيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى وأنها تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سِمةً كأنها كوكب دُرّي وتسم بين عيني الكافر نكتة سوداء كافر" وذكر في الخبر أنها ذات وبر وريش؛ ذكره المهدوي. وعن ابن عباس أنها تخرج من شعْب فتمَسّ رأسها السحاب ورجلاها في الأرض لم تخرجا، وتخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام. وعن حذيفة: تخرج ثلاث خرجات؛ خرجة في بعض البوادي ثم تَكمُن، وخرجة في القرى يتقاتل فيها الأمراء حتى تكثر الدماء، وخرجة من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها وأفضلها. الزمخشري: تخرج من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد؛ فقوم يهربون، وقوم يقفون نظّارة. وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة. وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنّور نوح عليه السلام. وقيل: من أرض الطائف؛ قال أبو قبيل: ضرب عبد الله بن عمرو أرض الطائف برجله وقال: من هنا تخرج الدابة التي تكلِّم الناس. وقيل: من بعض أودية تهامة؛ قاله ابن عباس. وقيل: من صخرة من شِعْب أجياد؛ قاله عبد الله بن عمرو. وقيل: من بحر سَدُوم؛ قاله وهب بن منبّه. ذكر هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة الماوردي في كتابه. وذكر البغويّ أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا عليّ بن الجعد عن فُضيل بن مرزوق الرقاشي الأغر ـ وسئل عن يحيـى بن مَعين فقال ثقة ـ عن عطية العوفي عن ابن عمر قال تخرج الدابة من صدع في الكعبة كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج ثلثها.

قلت: فهذه أقوال الصحابة والتابعين في خروج الدابة وصفتها، وهي ترد قول من قال من المفسرين: إن الدابة إنما هي إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر. وقد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم" ذكره الماورديّ. { تُكَلِّمُهُمْ } بضم التاء وشدّ اللام المكسورة ـ من الكلام ـ قراءة العامة؛ يدلّ عليه قراءة أبيّ { تُنَبِّئُهُمْ }. وقال السديّ: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام. وقيل: تكلمهم بما يسوءهم. وقيل: تكلمهم بلسان ذلق فتقول بصوت يسمعه من قَرُب وبعد { إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتنَا لاَ يُوقِنُونَ } أي بخروجي؛ لأن خروجها من الآيات. وتقول: ألا لعنة الله على الظالمين. وقرأ أبو زُرْعة وابن عباس والحسن وأبو رجاء: { تَكْلِمُهُمْ } بفتح التاء من الكلم وهو الجرح؛ قال عكرمة: أي تَسِمُهم. وقال أبو الجوزاء: سألت ابن عباس عن هذه الآية { تُكَلِّمُهُمْ } أو { تَكْلِمُهُمْ }؟ فقال: هي والله تُكَلِّمُهُمْ وتَكْلِمُهُم؛ تُكلِّم المؤمن وتَكْلِم الكافر والفاجر أي تجرحه. وقال أبو حاتم: { تُكَلِّمُهُمْ } كما تقول تُجَرِّحهم؛ يذهب إلى أنه تكثير من { تَكْلمُهُمْ }. { أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق ويحيـى: { أن } بالفتح. وقرأ أهل الحرمين وأهل الشام وأهل البصرة: { إن } بكسر الهمزة. قال النحاس: في المفتوحة قولان وكذا المكسورة؛ قال الأخفش: المعنى بأنّ وكذا قرأ ابن مسعود { بأَنَّ } وقال أبو عبيدة: موضعها نصب بوقوع الفعل عليها؛ أي تخبرهم أن الناس. وقرأ الكسائي والفراء: { إنَّ النَّاسَ } بالكسر على الاستئناف. وقال الأخفش: هي بمعنى تقول إن الناس؛ يعني الكفار. { بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } يعني بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك حين لا يقبل الله من كافر إيماناً ولا يبق إلا مؤمنون وكافرون في علم الله قبل خروجها؛ والله أعلم.

قوله تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً } أي زمرة وجماعة. { مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا } يعني بالقرآن وبأعلامنا الدالة على الحق. { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي يُدفَعون ويساقون إلى موضع الحساب. قال الشماخ:

وكَم وَزَعْنَا من خَميسٍ جَحْفلِوكَم حَبَوْنَا من رئيسٍ مِسْحَلِ

وقال قتادة: { يُوزَعُونَ } أي يُردّ أولهم على آخرهم. { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوا قَالَ } أي قال الله: { أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي } التي أنزلتها على رسلي، وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي. { وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً } أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها، بل كذبتم جاهلين غير مستدلّين. { أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } تقريع وتوبيخ أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها. { وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ } أي وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم. { فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ } أي ليس لهم عذر ولا حجة. وقيل: يختم على أفواههم فلا ينطقون؛ قاله أكثر المفسرين.

قوله تعالى: { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ } أي يستقرون فينامون. { وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } أي يبصر فيه لسعي الرزق. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بالله. ذكر الدلالة على إلهيته وقدرته أي ألم يعلموا كمال قدرتنا فيؤمنوا.