قوله تعالى: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أي قل لهم يا محمد سيروا في الأرض { فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ } على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف أهلكهم؛ لتعلموا بذلك كمال قدرة الله. { ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } وقرأ أبو عمرو وابن كثير: { النَّشَاءَةَ } بفتح الشين وهما لغتان مثل الرأفةِ والرآفةِ وشبهه. الجوهري: أنشأه الله خلقه، والاسم النشأة والنشاءة بالمدّ عن أبي عمرو بن العلاء. { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } أي بعدله. { وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } أي بفضله. { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } ترجعون وتردون. { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } قال الفرّاء: معناه ولا من في السماء بمعجزين الله وهو غامض في العربية؛ للضمير الذي لم يظهر في الثاني. وهو كقول حسان:
فمن يَهْجو رسول اللَّهِ منكمويمَدحُهُ ويَنصرُه سَواءُ
أراد ومَن يمدحه وينصره سواء؛ فأضمر مَن؛ وقاله عبد الرحمن بن زيد. ونظيره قوله سبحانه: { { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164] أي مَن له. والمعنى إن الله لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء إن عصوه. وقال قُطْرُب: ولا في السماء لو كنتم فيها، كما تقول: لا يفوتني فلان بالبصرة ولا هاهنا، بمعنى لا يفوتني بالبصرة لو صار أليها. وقيل: لا يستطيعون هرباً في الأرض ولا في السماء. وقال المبرّد: والمعنى ولا مَن في السماء على مَن ليست موصولة ولكن تكون نكرة و{ فِي السَّمَاءِ } صفة لها، فأقيمت الصفة مقام الموصوف. وردّ ذلك عليّ بن سليمان. وقال: لا يجوز. وقال: إن مَن إذا كانت نكرة فلا بد من وصفها فصفتها كالصلة، ولا يجوز حذف الموصول وترك الصلة؛ قال: والمعنى إن الناس خوطبوا بما يعقلون؛ والمعنى لو كنتم في السماء ما أعجزتم الله؛ كما قال: { { وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء: 78]. { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } ويجوز { نَصِيرٌ } بالرفع على الموضع، وتكون { مِن } زائدة. { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ } أي بالقرآن أو بما نصب من الأدلة والأعلام. { أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } أي من الجنة ونسب اليأس إليهم والمعنى أويسوا. وهذه الآيات اعتراض من الله تعالى تذكيراً وتحذيراً لأهل مكة. ثم عاد الخطاب إلى قصة إبراهيم. فقال: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } حين دعاهم إلى الله تعالى { إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } ثم اتفقوا على تحريقه { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ } أي من إذايتها { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } أي في إنجائه من النار العظيمة حتى لم تحرقه بعد ما ألقي فيها { لآيَاتٍ }. وقراءة العامة { جَوَابَ } بنصب الباء على أنه خبر كان و{ أَنْ قَالُوا } في محل الرفع اسم كان. وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار: { جَوَابُ } بالرفع على أنه اسم { كان } و{ أَنْ } في موضع الخبر نصباً. { وَقَالَ } إبراهيم { إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } وقرأ حفص وحمزة: { مَوَدَّة بَيْنِكُمْ }. وابن كثير وأبو عمرو والكسائي: { مَوَدَّةٌ بَيْنِكُمْ }. والأعشى عن أبي بكر عن عاصم وابن وثاب والأعمش: { مَوَدَّةٌ بَيْنَكُمْ }. الباقون. { مَوَدَّةُ بَيْنَكُمْ }. فأما قراءة ابن كثير ففيها ثلاثة أوجه؛ ذكر الزجاج منها وجهين: أحدهما: أن المودة ارتفعت على خبر إنّ وتكون { ما } بمعنى الذي. والتقدير إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثاناً مودّةُ بينِكم. والوجه الآخر: أن يكون على إضمار مبتدأ أي هي مودّةُ أو تلك مودّةُ بينِكم. والمعنى آلهتكم أو جماعتكم مودّةُ بينِكم. قال ابن الأنباري: { أَوْثَاناً } وقف حسن لمن رفع المودّة بإضمار ذلك مودّة بينكم، ومن رفع المودّة على أنها خبر إنّ لم يقف. والوجه الثالث الذي لم يذكره أن يكون { مَوَدَّةُ } رفعاً بالابتداء و{ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا } خبره؛ فأما إضافة { مَوَدَّةُ } إلى { بَيْنِكُمْ } فإنه جعل { بَيْنِكُمْ } اسماً غير ظرف، والنحويون يقولون جعله مفعولاً على السعة. وحكى سيبويه: يا سارق الليلة أهل الدار. ولا يجوز أن يضاف إليه وهو ظرف؛ لعلةٍ ليس هذا موضع ذكرها. ومن رفع { مَوَدَّةٌ } ونوّنها فعلى معنى ما ذكر، و{ بَيْنَكُمْ } بالنصب ظرفاً. ومن نصب { مَوَدَّةَ } ولم ينوّنها جعلها مفعولة بوقوع الاتخاذ عليها وجعل { إنما } حرفاً واحداً ولم يجعلها بمعنى الذي. ويجوز نصب المودّة على أنه مفعول من أجله كما تقول: جئتك ابتغاء الخير، وقصدت فلاناً مودّة له { بينِكم } بالخفض. ومن نوّن { مَوَدَّةً } ونصبها فعلى ما ذكر { بَيْنَكُمْ } بالنصب من غير إضافة، قال ابن الأنباري: ومن قرأ: { مَوَدَّةً بَيْنَكُمْ } و{ مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ } لم يقف على الأوثان، ووقف على الحياة الدنيا. ومعنى الآية جعلتم الأوثان تتحابون عليها وعلى عبادتها في الحياة الدنيا { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } تتبرأ الأوثان من عبّادها والرؤساء من السفلة كما قال الله عز وجل: { { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67]. { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } هو خطاب لعبدة الأوثان الرؤساء منهم والأتباع. وقيل: تدخل فيه الأوثان كقوله تعالى: { { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 98].