خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ
١٤
وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٥
-لقمان

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثماني مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ } هاتان الآيتان اعتراض بين أثناء وصيّة لقمان. وقيل: إن هذا مما أوصى به لقمان ابنَه؛ أخبر الله به عنه؛ أي قال لقمان لابنه: لا تشرك بالله ولا تطع في الشرك والديك، فإن الله وصّى بهما في طاعتهما مما لا يكون شركاً ومعصية لله تعالى. وقيل: أي وإذ قال لقمان لابنه؛ فقلنا للقمان فيما آتيناه من الحكمة ووصينا الإنسان بوالديه؛ أي قلنا له اشكر لله، وقلنا له ووصينا الإنسان. وقيل: وإذ قال لقمان لابنه لا تشرك، ونحن وصينا الإنسان بوالديه حسناً، وأمرنا الناس بهذا، وأمر لقمان به ابنه؛ ذكر هذه الأقوال القشيريّ. والصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وَقّاص؛ كما تقدم في «العنكبوت» وعليه جماعة المفسرين.

وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، ويستحسن في ترك الطاعات الندب؛ ومنه أمر الجهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة؛ على أن هذا أقوى من الندب؛ لكن يعلل بخوف هلكة عليها، ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب. وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال: إن منعته أمّه من شهود العِشاء شفقة فلا يطعها.

الثانية: لما خصّ تعالى الأم بدرجة ذكر الحمل وبدرجة ذكر الرضاع حصل لها بذلك ثلاث مراتب، وللأب واحدة؛ وأشبه ذلك "قوله صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل: من أَبَرّ؟ قال: أمّك قال: ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك" فجعل له الرّبع من المَبَرَّة كما في هذه الآية؛ وقد مضى هذا كله في «سبحان».

الثالثة: قوله تعالى: { وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } أي حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفاً على ضعف. وقيل: المرأة ضعِيفة الخلقة ثم يُضعفها الحمل. وقرأ عيسى الثَّقَفيّ: «وَهَناً على وَهَن» بفتح الهاء فيهما؛ ورويت عن أبي عمرو، وهما بمعنًى واحد. قال قَعْنَب بن أم صاحب:

هل للعواذل من ناهٍ فَيزْجُرَهاإن العواذل فيها الأَيْن والوَهَن

يقال: وَهَن يَهِن، ووَهُن يَوْهَنُ ووَهِن، يَهِن؛ مثلُ وَرِمَ يَرِم. وانتصب «وَهْناً» على المصدر؛ ذكره القشيري. النحاس: على المفعول الثاني بإسقاط حرف الجر؛ أي حملته بضعف على ضعف. وقرأ الجمهور: «وَفِصَالُهُ» وقرأ الحسن ويعقوب: «وفَصْله» وهما لغتان، أي وفصاله في انقضاء عامين؛ والمقصود من الفصال الفطام، فعبّر بغايته ونهايته. ويقال: انفصل عن كذا أي تميّز؛ وبه سُمِّيَ الفَصِيل.

الرابعة: الناس مُجْمِعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن فحدّدت فرقة بالعام لا زيادة ولا نقص. وقالت فرقة: العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع. وقالت فرقة: إن فُطم الصبيّ قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرّم؛ وقد مضى هذا في «البقرة» مستوفًى.

الخامسة: قوله تعالى: { أَنِ ٱشْكُرْ لِي } «أَن» في موضع نصب في قول الزجاج، وأن المعنى: ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي. النحاس: وأجود منه أن تكون «أن» مفسرة، والمعنى: قلنا له أن اشكر لي ولوالديك. قيل: الشكر لله على نعمة الإيمان، وللوالدين على نعمة التربية. وقال سفيان بن عُيَيْنة: من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.

السادسة: قوله تعالى: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } قد بينا أن هذه الآية والتي قبلها نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص لمّا أسلم، وأن أمّه وهي حَمْنة بنت أبي سفيان بن أُمَيَّة حلفت ألاّ تأكل؛ كما تقدم في الآية قبلها.

السابعة: قوله تعالى: { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } نعت لمصدر محذوف؛ أي مصاحباً معروفاً؛ يقال صاحبته مصاحبة ومصاحَباً. و«مَعْرُوفاً» أي ما يحسن.

والآية دليلٌ على صلة الأبوين الكافرَيْن بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلاَنة القول والدعاء إلى الإسلام برفق. وقد "قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبيّ عليه الصلاة والسلام وقد قَدِمت عليها خالتها وقيل أمها من الرضاعة فقالت: يا رسول الله، إن أميّ قدِمت عليّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم" . وراغبة قيل معناه: عن الإسلام. قال ابن عطية: والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لِتقْدم على أسماء لولا حاجتها. ووالدة أسماء هي قُتيلة بنت عبد العُزّى بن عبد أسد. وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رُومان قديمة الإسلام.

الثامنة: قوله تعالى: { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } وصيّة لجميع العالم؛ كأن المأمور الإنسان. و«أَنَابَ» معناه مال ورجع إلى الشيء؛ وهذه سبيل الأنبياء والصالحين. وحكى النقاش أن المأمور سعد، والذي أناب أبو بكر؛ وقال: إن أبا بكر لما أسلم أتاه سعد وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزّبير فقالوا: آمنت! قال نعم؛ فنزلت فيه: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر: 9] فلمّا سمعها الستة آمنوا؛ فأنزل الله تعالى فيهم: { { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ ـ إلى قوله ـ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ } [الزمر: 17 ـ 18]. وقيل: الذي أناب النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: ولما أسلم سعد أسلم معه أخواه عامر وعُوَيْمر؛ فلم يبق منهم مشرك إلا عُتبة. ثم توعّد عز وجل بِبَعث مَن في القبور والرجوع إليه للجزاءِ والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها.