خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً
٦
-الأحزاب

الجامع لاحكام القرآن

فيه تسع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } هذه الآية أزال الله تعالى بها أحكاماً كانت في صدر الإسلام؛ منها: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلّي على مَيّت عليه دَيْن، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن تُوُفِّيَ وعليه دَين فعليّ قضاؤه ومن ترك مالاً فلورثته" أخرجه الصحيحان. وفيهما أيضاً "فأيكم ترك دَيْناً أو ضَياعاً فأنا مولاه" . قال ابن العربيّ: فانقلبت الآن الحال بالذنوب، فإن تركوا مالاً ضُويق العصبة فيه، وإن تركوا ضياعاً أسلموا إليه؛ فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم وتنبيهه؛ (ولا عِطْر بعد عَرُوس). قال ابن عطية: وقال بعض العلماء العارفين هو أوْلى بهم من أنفسهم؛ لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة. قال ابن عطية: ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا آخِذ بحُجَزِكم عن النارِ وأنتم تقتحمون فيها تقحّم الفَراش" .

قلت: هذا قول حسن في معنى الآية وتفسيرها، والحديث الذي ذُكر أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما مَثَلَي ومَثَل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفَراش يقعن فيه وأنا آخِذٌ بِحُجَزِكم وأنتم تَقَحّمُون فيه" . وعن جابر مثله؛ وقال: "وأنتم تَفَلَّتُون من يدي" . قال العلماء: الْحُجْزَة للسراويل، والمَعْقِد للإزار؛ فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه. وهذا مثل لاجتهاد نبيَّنا عليه الصلاة والسلام في نجاتنا، وحرصه على تخلّصنا من الهلكات التي بين أيدينا؛ فهو أوْلى بنا من أنفسنا؛ ولجهلنا بقدر ذلك وغلبة شهواتنا علينا وظفر عدوّنا اللعين بناصِرنا أحقر من الفِراش وأذلّ من الفَراش، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم! وقيل: أولى بهم أي أنه إذا أمر بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أوْلى. وقيل: أولى بهم أي هو أولى بأن يحكم على المؤمنين فينفذ حكمه في أنفسهم؛ أي فيما يحكمون به لأنفسهم مما يخالف حكمه.

الثانية: قال بعض أهل العلم: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه حيث قال: "فعليّ قضاؤه" . والضَّياع (بفتح الضاد) مصدر ضاع، ثم جعل اسماً لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم، ومال لا قَيّم له. وسمّيت الأرض ضَيعة لأنها معرّضة للضياع، وتجمع ضِياعاً بكسر الضاد.

الثالثة: قوله تعالى: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } شرّف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين؛ أي في وجوب التعظيم والمبرّة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات. وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثاً كأمومة التَّبنِّي. وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس. وسيأتي عدد أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في آية التخيير إن شاء الله تعالى.

واختلف الناس هل هنّ أمهات الرجال والنساء أم أمهات الرجال خاصة؛ على قولين: فروى الشعبيّ عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها: يا أمّة؛ فقالت لها: لست لك بأمّ، إنما أنا أمّ رجالكم. قال ابن العربي: وهو الصحيح.

قلت: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء؛ تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء. يدلّ عليه صدر الآية: { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورةً. ويدلّ على ذلك حديث أبي هريرة وجابر؛ فيكون قوله: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } عائداً إلى الجميع. ثم إن في مصحف أُبيّ بن كعب «وأزواجه أمهاتهم وهو أبٌ لهم». وقرأ ابن عباس: «من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم». وهذا كلّه يوهن ما رواه مسروق إن صح من جهة الترجيح، وإن لم يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص، وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم. والله أعلم.

الرابعة: قوله تعالى: { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } قيل: إنه أراد بالمؤمنين الأنصار، وبالمهاجرين قريشاً. وفيه قولان: أحدهما: أنه ناسخ للتوارث بالهجرة. حكى سعيد عن قتادة قال: كان نزل في سورة الأنفال { { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ } [الأنفال: 72] فتوارث المسلمون بالهجرة؛ فكان لا يرث الأعرابيّ المسلم من قريبه المسلم المهاجِر شيئاً حتى يهاجر، ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله: { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ }. الثاني: أن ذلك ناسخ للتوارث بالحِلف والمؤاخاة في الدِّين؛ روى هشام بن عُروة عن أبيه عن الزبير: { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نِعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم؛ فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخيت أنا كعب بن مالك، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله؛ فوالله لقد مات عن الدنيا ما ورِثه غيري، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فرجعنا إلى موارثنا. وثبت عن عُروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزّبير وبين كعب بن مالك، فارْتُثّ كعب يوم أُحُدٍ فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته؛ فلو مات يومئذٍ كعب عن الضِّح والريح لورثه الزبير، فأنزل الله تعالى: { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ }. فبيّن الله تعالى أن القرابة أوْلى من الحِلْف، فتركت الوراثة بالحِلْف وورثوا بالقرابة. وقد مضى في «الأنفال» الكلام في توريث ذوي الأرحام. وقوله: { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } يحتمل أن يريد القرآن، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ الذي قضى فيه أحوال خلقه. و«مِنَ الْمُوْمِنِينَ» متعلق بـ«ـأَوْلَى» لا بقوله: { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ } بالإجماع؛ لأن ذلك كان يوجب تخصيصاً ببعض المؤمنين، ولا خلاف في عمومها، وهذا حلّ إشكالها؛ قاله ابن العربي. النحاس: { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } يجوز أن يتعلق «مِنَ الْمُوْمِنِينَ» بـ«ـأُولُو» فيكون التقدير: وَأُولُو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين. ويجوز أن يكون المعنى أوْلَى من المؤمنين. وقال المهدوِيّ: وقيل إن معناه: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إلا ما يجوز لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُدعَين أمهات المؤمنين. والله تعالى أعلم.

الخامسة: واختلف في كونهن كالأمهات في المَحْرَم وإباحة النظر؛ على وجهين: أحدهما: هنّ مَحْرَم، لا يحرم النظر إليهنّ. الثاني: أن النظر إليهن محرّم، لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظاً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن، وكان من حفظ حقّه تحريمُ النظر إليهن؛ ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابناً لأختها من الرضاعة، فيصير مَحْرَماً يستبيح النظر. وأما اللاتي طلقهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه: أحدها: ثبتت لهن هذه الحرمة تغليباً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: لا يثبت لهن ذلك، بل هن كسائر النساء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن، وقال: "أزواجي في الدنيا هنّ أزواجي في الآخرة" . الثالث: من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها وحَرُم نكاحها وإن طلقها؛ حفظاً لحرمته وحراسة لخلوته. ومن لم يدخل بها لم تثبت لها هذه الحرمة؛ وقد همّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوّجت فقالت: لم هذا! وما ضرب عَليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاباً ولا سُمّيت أمّ المؤمنين؛ فكفّ عنها عمر رضي الله عنه.

السادسة: قال قوم: لا يجوز أن يُسَمَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم أباً لقوله تعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ }. ولكن يقال: مِثل الأب للمؤمنين؛ كما قال: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلِّمكم..." الحديث. خرجه أبو داود. والصحيح أنه يجوز أن يقال: إنه أبٌ للمؤمنين، أي في الحرمة، وقوله تعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } أي في النسب. وسيأتي. وقرأ ابن عباس: «مِنْ أنفسهم وهو أبٌ لهم وأزواجه». وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال: حُكمها يا غلام؟ فقال: إنها في مصحف أُبيّ؛ فذهب إليه فسأله فقال له أُبَيّ: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصَّفْق بالأسواق؟ وأغلظ لعمر. وقد قيل في قول لوط عليه السلام { { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } [الحجر: 71]: إنما أراد المؤمنات؛ أي تزوّجوهن. وقد تقدّم.

السابعة: قال قوم: لا يقال بناته أخوات المؤمنين، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم. قال الشافعيّ رضي الله عنه: تزوّج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة، ولم يقل هي خالة المؤمنين. وأطلق قوم هذا وقالوا: معاوية خال المؤمنين؛ يعني في الحرمة لا في النسب.

الثامنة: قوله تعالى: { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } يريد الإحسان في الحياة، والوصية عند الموت؛ أي إن ذلك جائز؛ قاله قتادة والحسن وعطاء. وقال محمد بن الحنفِيّة، نزلت في إجازة الوصية لليهوديّ والنّصرانيّ؛ أي يفعل هذا مع الولِيّ والقريب وإن كان كافراً؛ فالمشرك وَلِيّ في النسب لا في الدّين فيوصى له بوصية. واختلف العلماء هل يجعل الكافر وصيًّا؛ فجوّز بعضٌ ومنع بعض. وردّ النظر إلى السلطان في ذلك بعض؛ منهم مالكرحمه الله تعالى. وذهب مجاهد وابن زيد والرّماني إلى أن المعنى: إلى أوليائكم من المؤمنين. ولفظ الآية يَعْضُد هذا المذهب، وتعميم الوليّ أيضاً حسن. وولاية النسب لا تدفع الكافر، وإنما تدفع أن يلقى إليه بالموَدّة كولِيّ الإسلام.

التاسعة: قوله تعالى: { كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً } «الْكتَابِ» يحتمل الوجهين المذكورين المتقدمين في «كِتَابِ اللَّهِ». و«مسْطُوراً» من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته أسطاراً. وقال قتادة: أي مكتوباً عند الله عز وجل ألاّ يرث كافرٌ مسلماً. قال قتادة: وفي بعض القراءة «كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوباً». وقال القُرَظِيّ: كان ذلك في التوراة.