قوله تعالى: { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ } هو حبيب بن مري وكان نجارا. وقيل: إسكافاً. وقيل: قصّاراً. وقال ٱبن عباس ومجاهد ومقاتل: هو حبيب بن إسرائيل النجار وكان يَنْحَت الأصنام، وهو ممن آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تُبّع الأَكبر وورَقة بن نوفل وغيرهما. ولم يؤمن بنبيّ أحدٌ إلا بعد ظهوره. قال وهب: وكان حبيب مجذوماً، ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان يَعكِفُ على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم، لعلهم يرحمونه ويكشفون ضره فما ٱستجابوا له، فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة الله فقال: هل من آية؟ قالوا: نعم، ندعو ربَّنا القادر فيفرج عنك ما بك. فقال: إن هذا لَعجب! أدعو هذه الآلهة سبعين سنة تفرِّج عني فلم تستطع، (فكيف) يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا: نعم، ربُّنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر. فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به، كأن لم يكن به بأس؛ فحينئذٍ أقبل على التكسب، فإذا أمسى تصدّق بكسبه، فأطعم عياله نصفاً وتصدّق بنصف، فلما همّ قومه بقتل الرسل جاءهم فـ{ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } الآية. وقال قتادة: كان يعبد الله في غارٍ، فلما سمع بخبر المرسلين جاء يسعى، فقال للمرسلين: أتطلبون على ما جئتم به أجراً؟ قالوا: لا؛ ما أجرنا إلا على الله. قال أبو العالية: فاعتقد صدقهم وآمن بهم وأقبل على قومه فـ«ـقَالَ يَا قَوْمِ ٱتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ». { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } أي لو كانوا متَّهَمين لطلبوا منكم المال { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } فاهتدوا بهم. { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } قال قتادة: قال له قومه أنت على دينهم؟ٰ فقال: { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } أي خلقني. { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وهذا ٱحتجاج منه عليهم. وأضاف الفطرة إلى نفسه؛ لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر، والبعث إليهم؛ لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر؛ فكان إضافة النعمة إلى نفسه أظهر شكراً، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثراً. { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً } يعني أصناماً. { إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ } يعني ما أصابه من السقم. { لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ } يخلصوني مما أنا فيه من البلاء { إِنِّيۤ إِذاً } يعني إن فعلت ذلك { لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي خسران ظاهر. { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } قال ٱبن مسعود: خاطب الرسل بأنه مؤمن بالله ربهم. ومعنى «فَاسْمَعُونِ» أي فٱشهدوا، أي كونوا شهودي بالإيمان. وقال كعب ووهب: إنما قال ذلك لقومه إني آمنت بربكم الذي كفرتم به. وقيل: إنه لما قال لقومه { ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } رفعوه إلى الملك وقالوا: قد تبعت عدوّنا؛ فطوّل معهم الكلام ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل، إلى أن قال: { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } فوثبوا عليه فقتلوه. قال ٱبن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره، وأُلقي في بئر وهي الرَّسُّ وهم أصحاب الرَّسِّ. وفي رواية أنهم قتلوا الرسل الثلاثة. وقال السدي: رموه بالحجارة وهو يقول: اللهم ٱهدي قومي حتى قتلوه. وقال الكلبي: حفروا حفرة وجعلوه فيها، وردموا فوقه التراب فمات ردما. وقال الحسن: حرقوه حرقاً، وعلّقوه من سور المدينة وقبره في سور أنطاكية؛ حكاه الثعلبي. وقال القشيري: وقال الحسن لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة، فإذا أعاد الله الجنة أُدخلها. وقيل: نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه، فوالله ما خرجت روحه إلا إلى الجنة فدخلها؛ فذلك قوله: { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ } فلما شاهدها { قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } أي بغفران ربي لي؛ فـ«ـما» مع الفعل بمنزلة المصدر. وقيل: بمعنى الذي والعائد من الصلة محذوف. ويجوز أن تكون ٱستفهاماً فيه معنى التعجب، كأنه قال ليت قومي يعلمون بأي شيء غفر لي ربي؛ قاله الفرّاء. واعترضه الكسائي فقال: لو صحّ هذا لقال بِم من غير ألف. وقال الفراء: يجوز أن يقال بما بالألف وهو ٱستفهام وأنشد فيه أبياتاً. الزمخشري: «بِمَ غَفَرَ لِي» بطرح الألف أجود، وإن كان إثباتها جائزاً؛ يقال: قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت. المهدوي: وإثبات الألف في الاستفهام قليل. فيوقف على هذا على «يَعْلَمُونَ». وقال جماعة: معنى قيل «ٱدْخُلِ الْجَنَّةَ» وجبت لك الجنة؛ فهو خبر بأنه قد ٱستحق دخول الجنة؛ لأن دخولها يُستحق بعد البعث.
قلت: والظاهر من الآية أنه لما قُتل قيل له ٱدخل الجنة. قال قتادة: أدخله الله الجنة وهو فيها حيّ يرزق؛ أراد قوله تعالى:
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران: 169] على ما تقدم في «آل عمران» بيانه. والله أعلم. قوله تعالى: { قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم الذي هو { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } وقرىء «مِنَ الْمُكَرَّمِينَ» وفي معنى تمنيه قولان: أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته. الثاني تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله. قال ابن عباس: نصح قومه حياً وميتاً. رفعه القشيري فقال: وفي الخبر أنه عليه السلام قال في هذه الآية:
"إنه نصح لهم في حياته وبعد موته" . وقال ٱبن أبي ليلى: سُبَّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يۤس، فهم الصدّيقون؛ ذكره الزمخشري مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في ٱفتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته، والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام. فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل النقمة على قومه، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم؛ فذلك قوله: { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } أي ما أنزلنا عليهم من رسالة ولا نبيّ بعد قتله؛ قاله قتادة ومجاهد والحسن. قال الحسن: الجند الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء. وقيل: الجند العساكر؛ أي لم أحتج في هلاكهم إلى إرسال جنود ولا جيوش ولا عساكر؛ بل أهلكهم بصيحة واحدة. قال معناه ابن مسعود وغيره. فقوله: { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } تصغير لأمرهم؛ أي أهلكناهم بصيحة واحدة من بعد ذلك الرجل، أو من بعد رفعه إلى السماء. وقيل: { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } على من كان قبلهم. الزمخشري: فإن قلت فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق؟ فقال: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } [الأحزاب: 9]، وقال: { آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [آل عمران: 124 ـ 125]. قلت: إنما كان يكفي ملك واحد، فقد أهلِكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة، ولكن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم بكل شيء على سائر الأنبياء وأولي العزم من الرسل فضلاً عن حبيب النجار، وأولاه من أسباب الكرامة والإعزاز ما لم يوله أحداً؛ فمن ذلك أنه أنزل له جنوداً من السماء، وكأنه أشار بقوله: { وَمَآ أَنزَلْنَا }. { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعل لغيرك. { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } قراءة العامة «وَاحِدَةً» بالنصب على تقدير ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة.
وقرأ أبو جعفر بن القَعْقَاع وشيبة والأعرج: «صَيْحَةٌ» بالرفع هنا، وفي قوله { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } جعلوا الكون بمعنى الوقوع والحدوث؛ فكأنه قال: ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة. وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث فهو ضعيف؛ كما تكون ما قامت إلا هندٌ ضعيفاً؛ من حيث كان المعنى ما قام أحد إلا هند. قال أبو حاتم: فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال: إن كان إلا صيحةٌ. قال النحاس: لا يمتنع شيء من هذا، يقال: ما جاءتني إلا جاريتك، بمعنى ما جاءتني ٱمرأة أو جارية إلا جاريتك. والتقدير في القراءة بالرفع ما قاله أبو إسحاق، قال: المعنى إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة، وقدّره غيره: ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة. وكان بمعنى وقع كثير في كلام العرب. وقرأ عبد الرحمن بن الأسود ـ ويقال إنه في حرف عبد الله كذلك ـ «إنْ كَانَتْ إِلاَّ زَقْيَةً وَاحِدَةً». وهذا مخالف للمصحف. وأيضاً فإن اللغة المعروفة زَقَا يَزْقو إذا صاح، ومنه المثل: أثقلُ من الزَّوَاقي؛ فكان يجب على هذا أن يكون زَقْوة. ذكره النحاس.
قلت: وقال الجوهري: الزَّقْو والزَّقْي مصدر، وقد زَقَا الصدى يَزقْو زقاء: أي صاح، وكل صائح زاقٍ، والزَّقْية الصّيحة.
قلت: وعلى هذا يقال: زَقْوة وزَقْية لغتان؛ فالقراءة صحيحة لا ٱعتراض عليها. والله أعلم. { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } أي ميتون هامدون؛ تشبيهاً بالرماد الخامد. وقال قتادة: هلكى. والمعنى واحد.