خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٣٠
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ
٣١
وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
٣٢
-يس

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } منصوب؛ لأنه نداء نكرة ولا يجوز فيه غير النصب عند البصريين. وفي حرف أُبَيّ «يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ» على الإضافة. وحقيقة الحسرة في اللغة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيراً. وزعم الفراء أن الاختيار النصب، وأنه لو رفعت النكرة الموصولة بالصلة كان صواباً. وٱستشهد بأشياء منها أنه سمع من العرب: يا مُهَتمُّ بأمرنا لا تهتمّ. وأنشد:

يا دارُ غَيَّرها البِـلَى تَغْييرَا

قال النحاس: وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره؛ لأنه يرفع النكرة المحضة، ويرفع ما هو بمنزلة المضاف في طوله، وبحذف التنوين متوسطاً، ويرفع ما هو في المعنى مفعول بغير علة أوجبت ذلك. فأما ما حكاه عن العرب فلا يشبه ما أجازه؛ لأن تقدير يا مُهْتَمُّ بأمرنا لا تهتم على التقديم والتأخير، والمعنى: يأيها المهتم لا تهتم بأمرنا. وتقدير البيت: يأيتها الدار، ثم حوّل المخاطبة؛ أي يا هؤلاء غيّر هذه الدار البلى؛ كما قال الله جل وعز: { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [يونس: 22]. فـ«ـحسرة» منصوب على النداء؛ كما تقول يا رجلاً أقبل، ومعنى النداء: هذا موضع حضور الحسرة. الطبري: المعنى يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندُّماً وتلهُّفاً في ٱستهزائهم برسل الله عليهم السلام. ٱبن عباس: «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ» أي يا ويلا على العباد. وعنه أيضاً: حلّ هؤلاء محلّ من يتحسر عليهم. وروى الربيع عن أنس عن أبي العالية أن العباد هاهنا الرسل؛ وذلك أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا: «يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ» فتحسروا على قتلهم، وترك الإيمان بهم؛ فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم الإيمان؛ وقاله مجاهد. وقال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل. وقيل: «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ» من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، لما وثب القوم لقتله. وقيل: إن الرسل الثلاثة هم الذين قالوا لما قتل القوم ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وحلَّ بالقوم العذاب: يا حسرة على هؤلاء، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد آمنوا. وقيل: هذا من قول القوم قالوا لما قتلوا الرجل وفارقتهم الرسل، أو قتلوا الرجل مع الرسل الثلاثة، على ٱختلاف الروايات: يا حسرة على هؤلاء الرسل، وعلى هذا الرجل، ليتنا آمنا بهم في الوقت الذي ينفع الإيمان. وتم الكلام على هذا، ثم ٱبتدأ فقال: { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ }. وقرأ ٱبن هُرْمُز ومسلم بن جُنْدب وعِكرمة: «يَا حَسْرَهْ عَلَى الْعِبَادِ» بسكون الهاء للحرص على البيان وتقرير المعنى في النفس؛ إذ كان موضع وعظ وتنبيه والعرب تفعل ذلك في مثله، وإن لم يكن موضعاً للوقف. ومن ذلك ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يُقَطِّعُ قراءته حرفاً حرفاً؛ حرصاً على البيان والإفهام. ويجوز أن يكون «عَلَى الْعِبَادِ» متعلقاً بالحسرة. ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف لا بالحسرة؛ فكأنه قدر الوقف على الحسرة فأسكن الهاء، ثم قال: «عَلَى الْعِبَادِ» أي أتحسر على العباد. وعن ٱبن عباس والضحاك وغيرهما: «يَا حَسْرَةَ العِبَادِ» مضاف بحذف «على». وهو خلاف المصحف. وجاز أن يكون من باب الإضافة إلى الفاعل فيكون العباد فاعلين؛ كأنهم إذا شاهدوا العذاب تحسروا فهو كقولك يا قيام زيدٍ. ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المفعول، فيكون العباد مفعولين؛ فكأن العباد يتحّسر عليهم من يشفق لهم. وقراءة من قرأ: «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ» مقوِّية لهذا المعنى.

قوله تعالى: { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } قال سيبويه: «أنّ» بدل من «كم»، ومعنى كم هاهنا الخبر؛ فلذلك جاز أن يبدل منها ما ليس باستفهام. والمعنى: ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون. وقال الفراء: «كَمْ» في موضع نصب من وجهين: أحدهما بـ«ـيَرَوْا» وٱستشهد على هذا بأنه في قراءة ٱبن مسعود «أَلَمْ يَرَوْا مَنْ أَهْلَكْنَا». والوجه الآخر أن يكون «كَمْ» في موضع نصب بـ«ـأَهْلَكْنَا». قال النحاس: القول الأوّل محال؛ لأن «كَمْ» لا يعمل فيها ما قبلها؛ لأنها ٱستفهام، ومحال أن يدخل الاستفهام في خبر ما قبله. وكذا حكمها إذا كانت خبراً، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل «أَنَّهُمْ» بدلاً من كم. وقد ردّ ذلك محمد بن يزيد أشدّ ردّ، وقال «كَمْ» في موضع نصب بـ«ـأَهْلَكْنَا» و «أَنَّهُمْ» في موضع نصب، والمعنى عنده بأنهم أي { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ } بالاستئصال. قال: والدليل على هذا أنها في قراءة عبد الله «مَنْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ». وقرأ الحسن: «إِنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ» بكسر الهمزة على الاستئناف. وهذه الآية ردٌّ على من زعم أن من الخلق من يرجع قبل القيامة بعد الموت. { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } يريد يوم القيامة للجزاء. وقرأ ٱبن عامر وعاصم وحمزة: «وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا» بتشديد «لما». وخفف الباقون. فـ«ـإن» مخففة من الثقيلة وما بعدها مرفوع بالابتداء، وما بعده الخبر. وبطل عملها حين تغيَّر لفظها. ولزمت اللام في الخبر فرقاً بينها وبين إن التي بمعنى ما. و «ما» عند أبي عبيدة زائدة. والتقدير عنده: وإن كلٌّ لجميع. قال الفرّاء: ومن شدّد جعل «لما» بمعنى إلا و «إِن» بمعنى ما، أي ما كلٌّ إلاَّ لَجميع؛ كقوله: { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } [المؤمنون: 25]. وحكى سيبويه في قوله: سألتك بالله لما فعلت. وزعم الكسائي أنه لا يعرف هذا. وقد مضى هذا المعنى في «هود». وفي حرف أُبَيّ «وَإِنْ مِنْهُمْ إِلاَّ جَميعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ».