خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٦٥
وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ
٦٦
وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ
٦٧
وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
٦٨
-يس

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: "هل تدرون ممّ أضحك؟ ـ قلنا الله ورسوله أعلم قال ـ من مخاطبة العبد ربه، يقول يا رب ألم تُجِرني من الظُّلْم قال يقول بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلاّ شاهداً منّي قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً قال فيختم على فيه فيقال لأركانه ٱنطقي قال فتنطق بأعماله قال ثم يخلَّى بينه وبين الكلام فيقول بعداً لكنّ وسُحقًا فعنكنّ كنت أناضِل" خرجه أيضاً من حديث أبي هريرة. وفيه: "ثم يقال له الآن نبعث شاهدَنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليّ فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه ٱنطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليُعذِر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه" . وخرج الترمذي عن معاوية بن حَيْدَة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال: وأشاره بيده إلى الشام فقال "من هاهنا إلى هاهنا تحشرون ركباناً ومشاة وتجرّون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفِدَام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرِب عن أحدكم فخذه" في رواية أخرى «فخذه وكفّه» الفِدام مصْفاة الكوز والإبريق؛ قاله الليث. قال أبو عبيد: يعني أنهم منعوا الكلام حتى تكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفِدام الذي يجعل على الإبريق. ثم قيل في سبب الختم أربعة أوجه: أحدها ـ لأنهم قالوا { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23] فختم الله على أفواههم حتى نطقت جوارحهم؛ قاله أبو موسى الأشعري. الثاني ـ ليعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم؛ قاله ٱبن زياد. الثالث ـ لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق؛ لخروجه مخرج الإعجاز، وإن كان يوماً لا يحتاج إلى إعجاز. الرابع ـ ليعلم أن أعضاءه التي كانت أعواناً في حق نفسه صارت عليه شهوداً في حق ربه. فإن قيل: لم قال { وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ } فجعل ما كان من اليد كلاماً، وما كان من الرجل شهادة؟ قيل: إن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرِة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال أو فعل؛ فلذلك عبر عما صدر من الأيدي بالقول، وعما صدر من الأرجل بالشهادة. وقد روي عن عُقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فَخِذه من الرِّجل اليسرى" ذكره الماوردي والمهدوي. وقال أبو موسى الأشعري: إني لأحسب أن أول ما ينطق منه فخذه اليمنى؛ ذكره المهدوي أيضاً. قال الماوردي: فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء؛ لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي هي في الشطر الأسفل منها الفخذ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها. قال: وتقدمت اليسرى؛ لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها؛ فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها.

قلت: أو بالعكس لغلبة الشهوة، أو كلاهما معاً والكفّ؛ فإن بمجموع ذلك يكون تمام الشهوة واللذة. والله أعلم.

قوله تعالى: { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } حكى الكسائي: طَمَس يَطمِس ويَطمُس. والمطموس والطَّمِيس عند أهل اللغة الأعمى الذي ليس في عينيه شقّ. قال ٱبن عباس: المعنى لأعميناهم عن الهدى، فلا يهتدون أبداً إلى طريق الحق. وقال الحسن والسّدي: المعنى لتركناهم عمياً يترددون. فالمعنى لأعميناهم فلا يبصرون طريقاً إلى تصرفهم في منازلهم ولا غيرها. وهذا ٱختيار الطبري. وقوله: { فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ } أي ٱستبقوا الطريق ليجوزوا «فَأَنَّى يُبْصِرُونَ» أي فمن أين يبصرون. وقال عطاء ومقاتل وقتادة وروي عن ابن عباس: ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم، وأعميناهم عن غَيِّهم، وحوّلنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى؛ فاهتدوا وأبصروا رشدَهم، وتبادروا إلى طريق الآخرة. ثم قال: { فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } ولم نفعل ذلك بهم؛ أي فكيف يهتدون وعين الهدى مطموسة، على الضلال باقية. وقد روي عن عبد الله بن سلاَم في تأويل هذه الآية غير ما تقدّم، وتأولها على أنها في يوم القيامة. وقال: إذا كان يوم القيامة ومُدَّ الصراط، نادى منادٍ ليقم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؛ فيقومون بَرُّهم وفاجرهم يتبعونه ليجوزوا الصراط، فإذا صاروا عليه طمس الله أعين فُجَّارهم، فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه حتى يجاوزوه. ثم ينادي منادٍ ليقم عيسى صلى الله عليه وسلم وأمته؛ فيقوم فيتبعونه برّهم وفاجرهم فيكون سبيلهم تلك السبيل، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام. ذكره النحاس وقد كتبناه في التذكرة بمعناه حسب ما ذكره ابن المبارك في رقائقه. وذكره القشيري. وقال ابن عباس رضي الله عنه: أخذ الأسود بن الأسود حجراً ومعه جماعة من بني مخزوم ليطرحه على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فطمس الله على بصره، وألصق الحجر بيده، فما أبصره ولا ٱهتدى، ونزلت الآية فيه. والمطموس هو الذي لا يكون بين جفنيه شَقّ، مأخوذ من طَمَس الريحُ الأثَر؛ قاله الأخفش والقتبي.

قوله تعالى: { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } المسخ: تبديل الخِلقة وقلبها حجراً أو جماداً أو بهيمة. قال الحسن: أي لأقعدناهم فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم. وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر. وقد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة، ثم تلك البهيمة لا تعقل موضعاً تقصده فتتحير، فلا تقبِل ولا تُدبِر. ٱبن عباس رضي الله عنه: المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم. وقيل: المعنى لو نشاء لمسخناهم في المكان الذي اجترءوا فيه على المعصية. ٱبن سلام: هذا كله يوم القيامة يطمس الله تعالى أعينهم على الصراط. وقرأ الحسن والسُّلَمي وزِرُّ بن حُبَيش وعاصم في رواية أبي بكر: «مَكَانَاتهِمْ» على الجمع، الباقون بالتوحيد. وقرأ أبو حَيْوَة: «فَمَا ٱسْتَطَاعُوا مَضِيًّا» بفتح الميم. والمضي بضم الميم مصدر يَمضي مُضيًّا إذا ذهب.

قوله تعالى: { وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ } قرأ عاصم وحمزة «نُنَكِّسْه» بضم النون الأولى وتشديد الكاف من التنكيس. الباقون «نَنْكُسْه» بفتح النون الأولى وضم الكاف من نكستُ الشيءَ أَنْكسُه نَكْساً قلبته على رأسه فانتكس. قال قتادة: المعنى أنه يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا. وقال سفيان في قوله تعالى: { وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ } إذا بلغ ثمانين سنة تغيّر جسمه وضعفت قوّته. قال الشاعر:

من عاش أخلقتِ الأيامُ جِدّتَهُوخانه ثِقَتَاه السَّمْع والبصرُ

فطول العمر يصيِّر الشباب هَرَما، والقوّة ضعفاً، والزيادة نقصاً، وهذا هو الغالب. وقد تعوّذ صلى الله عليه وسلم من أن يردّ إلى أرذل العمر. وقد مضى في «النحل» بيانه. { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } أنّ من فعل هذا بكم قادر على بعثكم. وقرأ نافع وٱبن ذكوان: «تَعقِلون» بالتاء. الباقون بالياء.