خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ
٢١
إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ
٢٢
إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ
٢٣
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ
٢٤
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ
٢٥

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع وعشرون مسألة:

الأولى: قوله تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } «الْخَصْم» يقع على الواحد والاثنين والجماعة؛ لأن أصله المصدر. قال الشاعر:

وَخَصْم غِضابٌ يَنْفُضُونَ لِحَاهُمُكنفضِ البَرَاذينِ العِرابِ المَخَالِيَا

النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أنه يراد به هاهنا مَلَكان. وقيل: «تَسَوَّرُوا» وإن كانا اثنين حملاً على الخصم، إذ كان بلفظ الجمع ومضارعاً له، مثل الركب والصحب. وتقديره للاثنين ذوا خصم وللجماعة ذوو خصمٍ. ومعنى: «تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ» أتوه من أعلى سوره. يقال: تسوّر الحائط تسلّقه، والسور حائط المدينة وهو بغير همز، وكذلك السُّوَرُ جمع سورةٍ مثل بُسْرَةٍ وبُسَرٍ وهي كل منزلة من البناء. ومنه سورة القرآن؛ لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى. وقد مضى في مقدّمة الكتاب بيان هذا. وقول النابغة:

ألم تَرَ أنَ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةًتَرَى كُلَّ مَلْكٍ دونها يتذبذب

يريد شرفاً ومنزلة. فأما السؤر بالهمز فهو بقية الطعام في الإناء. ابن العربي: والسؤر الوليمة بالفارسي. وفي الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "إن جابراً قد صنع لكم سؤراً فَحَيَّهلاً بكم" . والمحراب هنا الغرفة؛ لأنهم تسوّروا عليه فيها؛ قاله يحيـى بن سلام. وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس، ومنه محراب المسجد. وقد مضى القول فيه في غير موضع. { إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ } جاءت «إِذْ» مرتين؛ لأنهما فعلان. وزعم الفرّاء: أن إحداهما بمعنى لما. وقول آخر أن تكون الثانية مع ما بعدها تبييناً لما قبلها. قيل: إنهما كانا إنسيين؛ قاله النقاش. وقيل: ملَكَين؛ قاله جماعة. وعينهما جماعة فقالوا: إنهما جبريل وميكائيل. وقيل: ملَكَين في صورة إنسيين بعثهما الله إليه في يوم عبادته. فمنعهما الحرس الدخول، فتسوّروا المحراب عليه، فما شعر وهو في الصلاة إلا وهما بين يديه جالسين؛ وهو قوله تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } أي علوا ونزلوا عليه من فوق المحراب؛ قاله سفيان الثوري وغيره. وسبب ذلك ما حكاه ابن عباس أن داود عليه السلام حدّث نفسه إن ابتلي أن يعتصم. فقيل له: إنك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حِذرك. فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير، فجعل يَدرُج بين يديه. فهمّ أن يتناوله بيده، فاستدرج حتى وقع في كوّة المحراب، فدنا منه ليأخذه فطار، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل، فلما رأته غطت جسدها بشعرها. قال السدّي: فوقعت في قلبه. قال ابن عباس: وكان زوجها غازياً في سبيل الله وهو أورِيا بن حنان، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا، فقدّمه فيهم فقتل، فلما انقضت عدّتها خطبها داود، واشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة بعده، وكتبت عليه بذلك كتاباً، وأشهدت عليه خمسين رجلاً من بني إسرائيل، فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشَبَّ، وتسوّر الملكان وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه. ذكره الماوردي وغيره. ولا يصح. قال ابن العربي: وهو أمثل ما روي في ذلك.

قلت: ورواه مرفوعاً بمعناه الترمذيّ الحكيم في «نوادر الأصول» عن يزيد الرقاشيّ، سمع أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فهمّ بها قطع على بني إسرائيل بَعْثاً وأوصى صاحب البعث فقال: إذا حضر العدوّ قَرِّب فلاناً وسماه، قال فقرَّبه بين يدي التابوت ـ قال ـ وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يُستنصر به فمن قُدِّم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله فقُدِّم فقُتِل زوج المرأة ونزل الملَكان على داود فقصّا عليه القصّة" . وقال سعيد عن قتادة: كتب إلى زوجها وذلك في حصِار عَمَّان مدينة بلقاء أن يأخذوا بحلقة الباب، وفيه الموت الأحمر، فتقدّم فقتل. وقال الثعلبي قال قوم من العلماء: إنما امتحن الله داود بالخطيئة؛ لأنه تمنى يوماً على ربه منزلة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه نحو ما امتحنهم، ويعطيه نحو ما أعطاهم. وكان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام، يوم يقضي فيه بين الناس، ويوم يخلو فيه بعبادة ربه، ويوم يخلو فيه بنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فقال: يا رب! إن الخير كله قد ذهب به آبائي؛ فأوحى الله تعالى إليه: إنهم ابتلوا ببلايا لم يبتل بها غيرهم فصبروا عليها؛ ابتلي إبراهيم بنمروذ وبالنار وبذبح ابنه، وابتلي إسحاق بالذبح، وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره، ولم تبتل أنت بشيء من ذلك. فقال داود عليه السلام: فابتلني بمثل ما ابتليتهم، وأعطني مثل ما أعطيتهم، فأوحى الله تعالى إليه: إنك مبتلى في شهر كذا في يوم الجمعة. فلما كان ذلك اليوم دخل محرابه، وأغلق بابه، وجعل يصلّي ويقرأ الزبور. فبينا هو كذلك إذ مثل له الشيطان في صورة حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن، فوقف بين رجليه، فمدّ يده ليأخذها فيدفعها لابن له صغير، فطارت غير بعيد ولم تؤيسه من نفسها، فامتد إليها ليأخذها فتنحت، فتبعها فطارت حتى وقعت في كوّة، فذهب ليأخذها فطارت ونظرُ داود يرتفع في إثرها ليبعث إليها من يأخذها، فنظر امرأة في بستان على شط بركة تغتسل؛ قاله الكلبي. وقال السدي: تغتسل عريانة على سطح لها؛ فرأى أجمل النساء خَلْقاً، فأبصرت ظله فنفضت شعرها فغطى بدنها، فزاده إعجاباً بها. وكان زوجها أوريا بن حنان، في غزوة مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود، فكتب داود إلى أيوب أن ابعث بأوريا إلى مكان كذا وكذا، وقدِّمه قبل التابوت، وكان من قدّم قبل التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله عليه أو يستشهد. فقدّمه ففتح له فكتب إلى داود يخبره بذلك. قال الكلبي: وكان أوريا سيف الله في أرضه في زمان داود، وكان إذا ضرب ضربة وكبّر كبّر جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، وكبّرت ملائكة السماء بتكبيره حتى ينتهي ذلك إلى العرش، فتكبر ملائكة العرش بتكبيره. قال: وكان سيوف الله ثلاثة؛ كالب بن يوفنا في زمن موسى، وأوريا في زمن داود، وحمزة بن عبد المطلب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كتب أيوب إلى داود يخبره أن الله قد فتح على أوريا كتب داود إليه: أن ابعثه في بعث كذا وقدمه قبل التابوت؛ ففتح الله عليه، فقتل في الثالثة شهيداً. فتزوج داود تلك المرأة حين انقضت عدّتها. فهي أم سليمان بن داود. وقيل: سبب امتحان داود عليه السلام أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يومٍ بغير مقارفة شيء. قال الحسن: إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء؛ جزءاً لنسائه، وجزءاً للعبادة، وجزءاً لبني إسرائيل يذاكرونه ويذاكرهم ويبكونه ويبكيهم، ويوماً للقضاء. فتذاكروا هل يمرّ على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنباً؟ فأضمر داود أنه يطيق ذلك؛ فأغلق الباب على نفسه يوم عبادته، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكبَّ على قراءة الزبور، فوقعت حمامة من ذهب بين يديه. وذكر نحو ما تقدّم. قال علماؤنا: وفي هذا دليل وهي:

الثانية: على أنه ليس على الحاكم أن ينتصب للناس كل يوم، وأنه ليس للإنسان أن يترك وطء نسائه وإن كان مشغولاً بالعبادة. وقد مضى هذا المعنى في «النساء». وحكم كعب بذلك في زمن عمر بمحضره رضي الله عنهما. وقد "قال عليه السلام لعبد الله بن عمرو: إنّ لزوجك عليك حقا" الحديث. وقال الحسن أيضاً ومجاهد: إن داود عليه السلام قال لبني إسرائيل حين استخلِف: والله لأعدلنّ بينكم، ولم يستثن فابتلي بهذا. وقال أبو بكر الورّاق: كان داود كثير العبادة فأعجب بعمله وقال: هل في الأرض أحد يعمل كعملي. (فأرسل) الله إليه جبريل؛ فقال: إن الله تعالى يقول لك: عجبتَ بعبادتك، والعجب يأكل العبادة كما تأكل النار الحطب، فإن أعجبت ثانية وَكَلْتُك إلى نفسك. قال: يا رب كِلني إلى نفسي سنة. قال: إن ذلك لكثير. قال: فشهراً. قال: إن ذلك لكثير. قال: فيوماً. قال: إن ذلك لكثير. قال: يا رب فكِلني إلى نفسي ساعة. قال: فشأنك بها. فوكَّل الأحراس، ولبس الصوف، ودخل المحراب، ووضع الزبور بين يديه؛ فبينما هو في عبادته إذ وقع الطائر بين يديه، فكان من أمر المرأة ما كان. وقال سفيان الثوري: قال داود ذات يوم: يا رب ما من يوم إلا ومن آل داود لك فيه صائم، وما من ليلة إلا ومن آل داود لك فيها قائم. فأوحى الله إليه: يا داود منك ذلك أو مني؟ وعزتي لأكِلَنَّك إلى نفسك. قال: يا رب اعف عنّي. قال: أكلك إلى نفسك سنة. قال: لا بعزتك. قال: فشهراً. قال: لا بعزتك. قال: فأسبوعاً. قال: لا بعزتك. قال: فيوماً. قال: لا بعزتك. قال: فساعة. قال: لا بعزتك. قال: فلحظة. فقال له الشيطان: وما قدر لحظة. قال: كِلْني إلى نفسي لحظة. فوكله الله إلى نفسه لحظة. وقيل له: هي في يوم كذا في وقت كذا. فلما جاء ذلك اليوم جعله للعبادة، ووكل الأحراس حول مكانه. قيل: أربعة آلاف. وقيل: ثلاثين ألفاً أو ثلاثة وثلاثين ألفاً. وخلا بعبادة ربه، ونشر الزبور بين يديه، فجاءت الحمامة فوقعت له، فكان من أمره في لحظته مع المرأة ما كان. وأرسل الله عز وجل إليه الملَكين بعد ولادة سليمان، وضربا له المثل بالنعاج؛ فلما سمع المثل ذكر خطيئته فخرّ ساجداً أربعين ليلة على ما يأتي.

الثالثة: قوله تعالى: { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } لأنهما أتياه ليلاً في غير وقت دخول الخصوم. وقيل: لدخولهم عليه بغير إذنه. وقيل: لأنهم تسوّروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب. قال ابن العربي: وكان محراب داود عليه السلام من الامتناع بالارتفاع، بحيث لا يرتقي إليه آدميّ بحيلة إلا أن يقيم إليه أياماً أو أشهراً بحسب طاقته، مع أعوان يكثر عددهم، وآلات جمة مختلفة الأنواع. ولو قلنا: إنه يوصل إليه من باب المحراب لما قال الله تعالى مخبراً عن ذلك: «تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ» إذ لا يقال تسوّر المحراب والغرفة لمن طلع إليها من درجها، وجاءها من أسفلها إلا أن يكون ذلك مجازاً؛ وإذا شاهدت الكوة التي يقال إنه دخل منها الخصمان علمت قطعاً أنهما ملَكَان؛ لأنها من العلو بحيث لا ينالها إلا عُلْويّ. قال الثعلبي: وقد قيل: كان المتسوِّران أخوين من بني إسرائيل لأب وأم. فلما قضى داود بينهما بقضية قال له مَلَك من الملائكة: فهلا قضيت بذلك على نفسك يا داود. قال الثعلبي: والأول أحسن أنهما كانا مَلَكين نَبَّهَا داود على ما فعل.

قلت: وعلى هذا أكثر أهل التأويل. فإن قيل: كيف يجوز أن يقول الملكان «خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» وذلك كذب والملائكة عن مثله منزَّهون. فالجواب عنه أنه لا بد في الكلام من تقدير؛ فكأنهما قالا: قدِّرنا كأننا خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق، وعلى ذلك يحمل قولهما: { إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } لأن ذلك وإن كان بصورة الخبر فالمراد إيراده على طريق التقدير لينبه داود على ما فعل؛ والله أعلم.

الرابعة: إن قيل: لِم فزع داود وهو نبيّ، وقد قويت نفسه بالنبوّة، واطمأنت بالوحي، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة، وأظهر على يديه من الآيات، وكان من الشجاعة في غاية المكانة؟ قيل له: ذلك سبيل الأنبياء قبله، لم يأمنوا القتل والأذِية ومنهما كان يخاف. ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا: { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ } [طه: 45] فقال الله عز وجل: «لاَ تَخَافا». وقالت الرسل للوط: { لاَ تَخَفْ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ } [هود: 81] وكذا قال الملكان هنا: «لاَ تَخَفْ». قال محمد بن إسحاق: بعث الله إليه ملكين يختصمان إليه وهو في محرابه ـ مثلاً ضربه الله له ولأوريا فرآهما واقفين على رأسه؛ فقال: ما أدخلكما عليّ؟ قالا: { لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ } فجئناك لتقضي بيننا.

الخامسة: قال ابن العربي: فإن قيل كيف لم يأمر بإخراجهما إذ قد علم مطلبهما، وهلا أدّبهما وقد دخلا عليه بغير إذن؟ فالجواب عليه من أربعة أوجه: الأوّل: أنا لم نعلم كيفية شرعه في الحجاب والإذن، فيكون الجواب بحسب تلك الأحكام، وقد كان ذلك في ابتداء شرعنا مهملاً في هذه الأحكام، حتى أوضحها الله تعالى بالبيان. الثاني: أنا لو نزلنا الجواب على أحكام الحجاب، لاحتمل أن يكون الفزع الطارىء عليه أذهله عما كان يجب في ذلك له. الثالث: أنه أراد أن يستوفي كلامهما الذي دخلا له حتى يعلم آخر الأمر منه، ويرى هل يحتمل التقحم فيه بغير إذن أم لا؟ وهل يقترن بذلك عذر لهما أم لا يكون لهما عذر فيه؟ فكان من آخر الحال ما انكشف أنه بلاء ومحنة، ومثل ضربه الله في القصة، وأدب وقع على دعوى العصمة. الرابع: أنه يحتمل أن يكون في مسجد ولا إذن في المسجد لأحد إذ لا حجر فيه على أحد.

قلت: وقول خامس ذكره القشيري؛ وهو أنهما قالا: لما لم يأذن لنا الموكلون بالحجاب، توصلنا إلى الدخول بالتّسور، وخفنا أن يتفاقم الأمر بيننا. فقبل داود عذرهم، وأصغى إلى قولهم.

السادسة: قوله تعالى: { خَصْمَانِ } إن قيل: كيف قال: «خَصْمَانِ» وقبل هذا: «إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَاب» فقيل: لأن الاثنين جمع؛ قال الخليل: كما تقول نحن فعلنا إذا كنتما اثنين. وقال الكسائي: جمع لما كان خبراً، فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة، خبّر الاثنان عن أنفسهما فقالا خصمان. وقال الزجاج: المعنى نحن خصمان. وقال غيره: القول محذوف؛ أي يقول: { خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ } قال الكسائي: ولو كان بغى بعضهما على بعض لجاز. الماوردي: وكانا ملكين، ولم يكونا خصمين ولا باغيين، ولا يتأتى منهما كذب؛ وتقدير كلامهما ما تقول: إن أتاك خصمان قالا بغى بعضنا على بعض. وقيل: أي نحن فريقان من الخصوم بغى بعضنا على بعض. وعلى هذا يحتمل أن تكون الخصومة بين اثنين ومع كل واحد جمع. ويحتمل أن يكون لكل واحد من هذا الفريق خصومة مع كل واحد من الفريق الآخر، فحضروا الخصومات ولكن ابتدأ منهم اثنان، فعرف داود بذكر النكاح القصة. وأغنى ذلك عن التعرّض للخصومات الأخر. والبغي التعدّي والخروج عن الواجب. يقال: بغى الجُرْح إذا أفرط وجعه وترامى إلى ما يفحش، ومنه بغت المرأة إذا أتت الفاحشة.

السابعة: قوله تعالى: { فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ } أي لا تَجُرْ؛ قاله السدّي. وحكى أبو عبيد: شططت عليه وأشططت أي جُرت. وفي حديث تميم الدارِيّ: (إنك لشَاطِّي) أي جائر عليّ في الحكم. وقال قتادة: لا تَمِل. الأخفش: لا تُسرِف. وقيل: لا تُفرط. والمعنى متقارب. والأصل فيه البعد من شطتِ الدار أي بعدت؛ شطّتِ الدار تَشِطّ وتَشُطّ شطًّا وشُطوطاً بعدت. وأشطَّ في القضية أي جار، وأَشطّ في السَّوْم واشتط أي أبعد، وأشطُّوا في طلبي أي أمعنوا. قال أبو عمرو: الشطط مجاوزة القدر في كل شيء. وفي الحديث: "لها مهر مثلها لا وَكْسَ ولا شطط" أي لا نقصان ولا زيادة. وفي التنزيل: { { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } [الكهف: 14] أي جوراً من القول وبعداً عن الحق. { وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ } أي أرشدنا إلى قصد السبيل.

الثامنة: قوله تعالى: { إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } أي قال الملَكَ الذي تكلم عن أورِيا «إِنَّ هَذَا أَخِي» أي على ديني، وأشار إلى المدّعى عليه. وقيل: أخي أي صاحبي. «لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً» وقرأ الحسن: «تَسْعٌ وَتَسْعُونَ نَعْجَةً» بفتح التاء فيهما وهي لغة شاذة، وهي الصحيحة من قراءة الحسن؛ قاله النحاس. والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة؛ لما هي عليه من السكون والمعجَزة وضعف الجانب. وقد يكنى عنها بالبقرة والحِجْرة والناقة؛ لأن الكل مركوب. قال ابن عون:

أنا أبوهنّ ثلاثٌ هُنَّهْرابعةٌ في البيت صُغْرا هُنَّهْ
ونعجتي خمسا تُوفِّيهِنَّهْأَلاَ فتًى سمحٌ يُغذِّيهِنَّهْ
طَيُّ النَّقَا في الجوع يَطْوِيهِنَّهْويلُ الرَّغِيف ويلَهُ منْهُنَّهْ

وقال عنترة:

يا شاةَ ما قَنَصٍ لِمن حَلَّتْ لَهُحَرُمتْ عليّ وليتَها لم تَحْرُمِ
فَبَعَثْتُ جاريتي فقلتُ لها اذْهَبِيفتَجَسَّسِي أخبارَها لي وَاعْلَمِ
قالتْ رأيْتُ مِن الأعادي غِرَّةًوالشّاةُ مُمْكِنَةٌ لمن هو مُرْتَمِ
فكَأَنَّمَا الْتَفَتَتْ بِجيدِ جِدايةٍرَشَإٍ مِنَ الغِزْلانِ حُرٍّ أَرْثَمِ

وقال آخر:

فرَمَيْتُ غَفْلَةَ عَيْنِهِ عَنْ شَاتِهِفَأَصَبْتُ حَبَّةَ قَلْبِها وطِحَالَهَا

وهذا من أحسن التعريض حيث كنى بالنعاج عن النساء. قال الحسين بن الفضل: هذا من الملكين تعريض وتنبيه كقولهم ضرب زيد عمرا، وما كان ضرب ولا نعاج على التحقيق، كأنه قال: نحن خصمان هذه حالنا. قال أبو جعفر النحاس: وأحسن ما قيل في هذا أن المعنى: يقول: خصمان بغى بعضنا على بعض على جهة المسألة؛ كما تقول: رجل يقول لامرأته كذا؛ ما يجب عليه؟

قلت: وقد تأوّل المزنيّ صاحب الشافعي هذه الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب الذي خرجه «الموطأ» وغيره: "هو لكَ يا عبدُ بنَ زَمْعَة" على نحو هذا؛ قال المزني: يحتمل هذا الحديث عندي ـ والله أعلم ـ أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة فأعلمهم بالحكم أنّ هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى، لا أنه قبل على عتبة قول أخيه سعد، ولا على زَمْعَة قول ابنه إنه ولد زنى، لأن كل واحد منهما أخبر عن غيره. وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره. وقد ذكر الله سبحانه في كتابه مثل ذلك في قصة داود والملائكة؛ إذ دخلوا عليه ففزع منهم، قالوا: لا تخف خصمان ولم يكونوا خصمين، ولا كان لواحد منهم تسع وتسعون نعجة، ولكنهم كلموه على المسألة ليعرِف بها ما أرادوا تعريفه. فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حكم في هذه القصة على المسألة، وإن لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل في الحديث؛ فإنه عندي صحيح. والله أعلم.

التاسعة: قال النحاس: وفي قراءة ابن مسعود «إِنَّ هَذَا أَخِي كَانَ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى» و«كان» هنا مثل قوله عز وجل: { { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 96] فأما قوله: «أنثى» فهو تأكيد، كما يقال: هو رجل ذكر وهو تأكيد. وقيل: لما كان يقال هذه مائة نعجة، وإن كان فيها من الذكور شيء يسير، جاز أن يقال: أنثى ليعلم أنه لا ذكر فيها. وفي التفسير: له تسع وتسعون امرأة. قال ابن العربي: إن كان جميعهن أحراراً فذلك شرعه، وإن كنّ إماء فذلك شرعنا. والظاهر أن شرع من تقدم قبلنا لم يكن محصوراً بعدد، وإنما الحصر في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لضعف الأبدان وقلة الأعمار. وقال القشيري: ويجوز أن يقال: لم يكن له هذا العدد بعينه، ولكن المقصود ضرب مثل، كما تقول: لو جئتني مائة مرة لم أقض حاجتك، أي مراراً كثيرة. قال ابن العربي: قال بعض المفسرين: لم يكن لداود مائة امرأة، وإنما ذكر التسعة والتسعين مثلاً؛ المعنى: هذا غنيّ عن الزوجة وأنا مفتقر إليها. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن العدول عن الظاهر بغير دليل لا معنى له، ولا دليل يدلّ على أن شرع من قبلنا كان مقصوراً من النساءِ على ما في شرعنا. الثاني: أنه روى البخاري وغيره أن سليمان قال: «لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة غلاماً يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله» وهذا نص.

العاشرة: قوله تعالى: { وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } أي امرأة واحدة: { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي انزل لي عنها حتى أكفلها. وقال ابن عباس: أعطنيها. وعنه: تحوّل لي عنها. وقاله ابن مسعود. وقال أبو العالية: ضمها إليّ حتى أكفلها. وقال ابن كيسان: اجعلها كِفلي ونصيبي. { وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } أي غلبني. قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني. يقال: عزّه يَعُزُّه (بضم العين في المستقبل) عَزًّا غلبه. وفي المثل: من عَزَّ بَزَّ؛ أي من غَلَبَ سَلَب. والاسم العزة وهي القوّة والغلبة. قال الشاعر:

قَطاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فباتَتْتُجاذِبهُ وقد عَلِقَ الْجنَاحُ

وقرأ عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير: «وَعَازَّنِي فِي الْخطَابِ» أي غالبني؛ من المعازَّة وهي المغالبة؛ عازَّهُ أي غالبه. قال ابن العربي: واختلف في سبب الغلبة؛ فقيل: معناه غلبني ببيانه. وقيل: غلبني بسلطانه؛ لأنه لما سأله لم يستطع خلافه. كان ببلادنا أمير يقال له: سير بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجلاً حاجة، فقال لي: أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غصب لها. فقلت: أما إذا كان عدلاً فلا. فعجبت من عجمته وحفظه لما تمثل به وفطنته، كما عجب من جوابي له واستغربه.

الحادية عشرة: قوله تعالى: { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ } قال النحاس: فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام؛ لأنه قال: لقد ظلمك من غير تثبت ببيّنة، ولا إقرار من الخصم؛ هل كان هذا كذا أو لم يكن. فهذا قول.

وسيأتي بيانه في المسألة بعد هذا، وهو حسن إن شاء الله تعالى. وقال أبو جعفر النحاس: فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم؛ منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس، فإنهم قالوا: ما زاد داود صلى الله على نبينا وعليه على أن قال للرجل انزل لي عن امرأتك. قال أبو جعفر: فعاتبه الله عز وجل على ذلك ونبّهه عليه، وليس هذا بكبير من المعاصي، ومن تخطى إلى غير هذا فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم، ويلحقه فيه إثم عظيم. كذا قال: في كتاب «إعراب القرآن». وقال: في كتاب «معاني القرآن» له بمثله. قال رضي الله عنه: قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود عليه السلام وأوريا، وأكثرها لا يصح ولا يتصل إسناده، ولا ينبغي أن يجترأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحتها. وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: ما زاد داود عليه السلام على أن قال: «أَكْفِلْنِيهَا» أي انزل لي عنها. وروى المنهال عن سعيد بن جبير قال: ما زاد داود صلى الله عليه وسلم على أن قال: «أَكْفِلْنِيهَا» أي تحوّل لي عنها وضمها إليّ. قال أبو جعفر: فهذا أجلّ ما روي في هذا، والمعنى عليه أن داود عليه السلام سأل أوريا أن يطلق امرأته، كما يسأل الرجل الرجل أن يبيعه جاريته، فنبهه الله عز وجل على ذلك، وعاتبه لما كان نبياً وكان له تسع وتسعون أنكر عليه أن يتشاغل بالدنيا بالتزيد منها، فأما غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه. قال ابن العربي: وأما قولهم إنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعاً؛ فإن داود صلى الله عليه وسلم لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه: انزل لي عن أهلك وعزم عليه في ذلك، كما يطلب الرجل من الرجل الحاجة برغبة صادقة؛ كانت في الأهل أو في المال. وقد قال سعيد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف حين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما: إن لي زوجتين أنزل لك عن أحسنهما؛ فقال له: بارك الله لك في أهلك. وما يجوز فعله ابتداء يجوز طلبه، وليس في القرآن أن ذلك كان، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها، ولا ولادتها لسليمان، فعمن يروى هذا ويسند؟ٰ وعلى من في نقله يعتمد، وليس يأثره عن الثقات الأثبات أحد. أما أن في سورة «الأحزاب» نكتة تدل على أن داود قد صارت له المرأة زوجة، وذلك قوله: { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } [الأحزاب: 38] يعني في أحد الأقوال: تزويج داود المرأة التي نظر إليها، كما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش؛ إلا أن تزويج زينب كان من غير سؤال للزوج في فراق، بل أمره بالتمسك بزوجته، وكان تزويج داود للمرأة بسؤال زوجها فراقها. فكانت هذه المنقبة لمحمد صلى الله عليه وسلم على داود مضافة إلى مناقبه العلية صلى الله عليه وسلم. ولكن قد قيل: إن معنى { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } [الأحزاب: 62] تزويج الأنبياء بغير صداق من وهبت نفسها لهم من النساء بغير صداق. وقيل: أراد بقوله: { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } [الأحزاب: 62] أن الأنبياء صلوات الله عليهم فرض لهم ما يمتثلونه في النكاح وغيره. وهذا أصح الأقوال. وقد روى المفسرون أن داود عليه السلام نكح مائة امرأة؛ وهذا نص القرآن. وروي أن سليمان كانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة جارية؛ وربك أعلم. وذكر الكيا الطبري في أحكامه في قول الله عز وجل: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } الآية: ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الكبائر، أن داود عليه السلام كان قد أقدم على خِطبة امرأة قد خطبها غيره، يقال: هو أوريا؛ فمال القوم إلى تزويجها من داود راغبين فيه، وزاهدين في الخاطب الأوّل، ولم يكن بذلك داود عارفاً، وقد كان يمكنه أن يعرف ذلك فيعدل عن هذه الرغبة، وعن الخطبة بها فلم يفعل ذلك، من حيث أعجب بها إما وصفاً أو مشاهدةً على غير تعمد؛ وقد كان لداود عليه السلام من النساء العدد الكثير، وذلك الخاطب لا امرأة له، فنبهه الله تعالى على ما فعل بما كان من تسوّر الملَكَين، وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض؛ لكي يفهم من ذلك موقع العتب فيعدل عن هذه الطريقة، ويستغفر ربه من هذه الصغيرة.

الثانية عشرة: قوله تعالى: { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ } فيه الفتوى في النازلة بعد السماع من أحد الخصمين، وقبل أن يسمع من الآخر بظاهر هذا القول. قال ابن العربي: وهذا مما لا يجوز عند أحد، ولا في ملّة من الملل، ولا يمكن ذلك للبشر. وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين ادعى والآخر سلّم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر" وقيل: إن داود لم يقض للآخر حتى اعترف صاحبه بذلك. وقيل: تقديره لقد ظلمك إن كان كذلك. والله أعلم بتعيين ما يمكن من هذه الوجوه.

قلت: ذكر هذين الوجهين القشيري والماورديّ وغيرهما. قال القشيري: وقوله: { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } من غير أن يسمع كلام الخصم مشكل؛ فيمكن أن يقال: إنما قال هذا بعد مراجعة الخصم الآخر وبعد اعترافه. وقد روي هذا وإن لم تثبت روايته، فهذا معلوم من قرائن الحال، أو أراد لقد ظلمك إن كان الأمر على ما تقول، فسكّته بهذا وصبره إلى أن يسأل خصمه. قال ويحتمل أن يقال: كان من شرعهم التعويل على قول المدّعي عند سكوت المدّعى عليه، إذا لم يظهر منه إنكار بالقول. وقال الحليمي أبو عبد الله في كتاب منهاج الدين له: ومما جاء في شكر النعمة المنتظرة إذا حضرت، أو كانت خافية فظهرت: السجود لله عز وجل. قال والأصل في ذلك قوله عز وجل: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ } إلى قوله: { وَحُسْنَ مَـآبٍ }. أخبر الله عز وجل عن داود عليه السلام: أنه سمع قول المتظلم من الخصمين، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر، إنما حكى أنه ظلمه، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول، ودعاه ذلك إلى ألاّ يسأل الخصم؛ فقال له مستعجلاً: «لَقَدْ ظَلَمَكَ» مع إمكان أنه لو سأله لكان يقول: كانت لي مائة نعجة ولا شيء لهذا، فسرق مني هذه النعجة، فلما وجدتها عنده قلت له ارددها، وما قلت له أكفلنيها، وعلم أني مرافعه إليك، فجرّني قبل أن أجرّه، وجاءك متظلماً من قبل أن أحضره، لتظنّ أنه هو المحق وأني أنا الظالم. ولما تكلم داود بما حملته العجلة عليه، علم أن الله عز وجل خلاه ونفسه في ذلك الوقت، وهو الفتنة التي ذكرناها، وأن ذلك لم يكن إلا عن تقصير منه، فاستغفر ربه وخَرَّ راكعاً لله تعالى شكراً على أن عصمه، بأن اقتصر على تظليم المشكو، ولم يزده على ذلك شيئاً من انتهار أو ضرب أو غيرهما، مما يليق بمن تصوّر في القلب أنه ظالم، فغفر الله له ثم أقبل عليه يعاتبه؛ فقال: «يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فبان بما قصه الله تعالى من هذه الموعظة، التي توخاه بها بعد المغفرة، أن خطيئته إنما كانت التقصيرَ في الحكم، والمبادرةَ إلى تظليم من لم يثبت عنده ظلمه. ثم جاء عن ابن عباس أنه قال: سجدها داود شكراً، وسجدها النبي صلى الله عليه وسلم اتباعاً، فثبت أن السجود للشكر سنة متواترة عن الأنبياء صلوات الله عليهم. { بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } أي بسؤاله نعجتك؛ فأضاف المصدر إلى المفعول، وألقى الهاء من السؤال؛ وهو كقوله تعالى: { لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ } [فصلت: 49] أي من دعائه الخير.

الثالثة عشرة: قوله تعالى: { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ } يقال: خلِيط وخلطاء، ولا يقال طويل وطولاء؛ لثقل الحركة في الواو. وفيه وجهان: أحدهما أنهما الأصحاب. الثاني أنهما الشركاء.

قلت: إطلاق الخلطاء على الشركاء فيه بعد، وقد اختلف العلماء في صفة الخلطاء، فقال أكثر العلماء: هو أن يأتي كل واحد بغنمه فيجمعهما راع واحد والدّلو والمراح. وقال طاوس وعطاء: لا يكون الخلطاء إلا الشركاء. وهذا خلاف الخبر؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُجْمع بين متفرّق ولا يفَرّق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية وروي فإنهما يترادّان الفضل" ولا موضع لتراد الفضل بين الشركاء؛ فاعلمه. وأحكام الخلطة مذكورة في كتب الفقه. ومالك وأصحابه وجمع من العلماء لا يرون (الصدقة) على من ليس في حصته ما تجب فيه الزكاة. وقال الربيع والليث وجمع من العلماء منهم الشافعي: إذا كان في جميعها ما تجب فيه الزكاة أخذت منهم الزكاة. قال مالك: وإن أخذ المصَّدِّق بهذا ترادّوا بينهم للاختلاف في ذلك، وتكون كحكم حاكم اختلف فيه.

الرابعة عشرة: قوله تعالى: { لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أي يتعدّى ويظلم. { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } فإنهم لا يظلمون أحداً. { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } يعني الصالحين، أي وقليل هم فـ«ـما» زائدة. وقيل: بمعنى الذين وتقديره وقليل الذين هم. وسمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل. فقال له عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال أردت قول الله عز وجل: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر!

الخامسة عشرة: قوله تعالى: { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } أي ابتليناه. «وَظَنَّ» معناه أيقن. قال أبو عمرو والفراء: ظن بمعنى أيقن، إلا أن الفراء شرحه بأنه لا يجوز في المعاين أن يكون الظن إلا بمعنى اليقين. والقراءة «فَتَنَّاهُ» بتشديد النون دون التاء. وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه «فَتَّنَّاهُ» بتشديد التاء والنون على المبالغة. وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السَّمَيْقَع «فَتَنَاهُ» بتخفيفهما. ورواه علي بن نصر عن أبي عمرو، والمراد به الملَكَان اللذان دخلا على داود عليه السلام.

السادسة عشرة: قيل: لما قضى داود بينهما في المسجد، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك، فلم يفطن داود؛ فأحبَّا أن يعرفهما، فصعدا إلى السماء حِيال وجهه، فعلم داود عليه السلام أن الله تعالى ابتلاه بذلك، ونبهه على ما ابتلاه.

قلت: وليس في القرآن ما يدل على القضاء في المسجد إلا هذه الآية، وبها استدل من قال بجواز القضاء في المسجد، ولو كان ذلك لا يجوز كما قال الشافعي لما أقرَّهم داود على ذلك. ويقول: انصرفا إلى موضع القضاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء يقضون في المسجد، وقد قال مالك: القضاء في المسجد من الأمر القديم. يعني في أكثر الأمور. ولا بأس أن يجلس في رحبته؛ ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض، ولا يقيم فيه الحدود؛ ولا بأس بخفيف الأدب. وقد قال أشهب: يقضي في منزله وأين أحب.

السابعة عشرة: قال مالكرحمه الله : وكان الخلفاء يقضون بأنفسهم، وأوّل من استقضى معاوية. قال مالك: وينبغي للقضاة مشاورة العلماء. وقال عمر بن عبد العزيز: لا يستقضي حتى يكون عالماً بآثار من مضى، مستشيراً لذوي الرأي، حليماً نزها. قال: ويكون ورعاً. قال مالك: وينبغي أن يكون متيقظاً كثير التحذر من الحيل، وأن يكون عالماً بالشروط، عارفاً بما لا بُدَّ له منه من العربية؛ فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات والدعاوى والإقرارات والشهادات والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له. وينبغي له أن يقول قبل إنجاز الحكم للمطلوب: أبقيت لك حجة؟ فإن قال لا حكم عليه، ولا يقبل منه حجة بعد إنفاذ حكمه إلا أن يأتي بما له وجه أو بينة. وأحكام القضاء والقضاة فيما لهم وعليهم مذكورة في غير هذا الموضع.

الثامنة عشرة: قوله تعالى: { فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } اختلف المفسرون في الذنب الذي استغفر منه على أقوال ستة: الأوّل أنه نظر إلى المرأة حتى شبع منها. قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنته النظرة. قال أبو إسحاق: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها، فصارت الأولى له والثانية عليه. الثاني أنه أغزى زوجها في حملة التابوت. الثالث أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها. الرابع أن أوريا كان خطب تلك المرأة، فلما غاب خطبها داود فزوِّجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا، فعتب الله على داود إذ لم يتركها لخاطبها، وقد كان عنده تسع وتسعون امرأة. الخامس أنه لم يجزع على قتل أوريا، كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله تعالى على ذلك؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله. السادس أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر. قال القاضي ابن العربي: أما قول من قال: إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء، وكذلك تعريض زوجها للقتل. وأما من قال: إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال؛ لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب! وحكى السديّ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو سمعت رجلاً يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرَّماً لجلدته ستين ومائة؛ لأن حدّ (قاذف) الناس ثمانون وحدّ (قاذف) الأنبياء ستون ومائة. ذكره الماوردي والثعلبي أيضاً. قال الثعلبي: وقال الحارث الأعور عن عليّ: من حدّث بحديث داود على ما ترويه القصاص معتقداً جلدته حدّين؛ لعظم ما ارتكب برمي من قد رفع الله محله، وارتضاه من خلقه رحمة للعالمين، وحجة للمجتهدين. قال ابن العربي: وهذا مما لم يصح عن عليّ. فإن قيل: فما حكمه عندكم؟ قلنا: أما من قال إن نبيًّا زنى فإنه يقتل، وأما من نسب إليه ما دون ذلك من النظر والملامسة، فقد اختلف (نقل) الناس في ذلك؛ فإن صمم أحد على ذلك فيه ونسبه إليه قتلته، فإنه يناقض التعزير المأمور به، فأما قولهم: إنه وقع بصره على امرأة تغتسل عريانة، فلما رأته أسبلت شعرها فسترت جسدها، فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع من الأمة؛ لأن النظرة الأولى تكشف المنظور إليه ولا يأثم الناظر بها، فأما النظرة الثانية فلا أصل لها. وأما قولهم: إنه (نوى) إن مات زوجها تزوجها فلا شيء فيه إذ لم يعرّضه للموت. وأما قولهم: إنه خطب على خطبة أوريا فباطل يردّه القرآن والآثار التفسيرية كلها. وقد روى أشهب عن مالك قال: بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريباً من داود عليه السلام وهي من ذهب، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها فكانت قرب يده، ثم صنع مثل ذلك مرتين، ثم طارت واتبعها ببصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغتسل ولها شعر طويل؛ فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجداً حتى نبت العشب من دموع عينيه. قال ابن العربي: وأما قول المفسرين إن الطائر درج عنده فهمّ بأخذه واتبعه فهذا لا يناقض العبادة؛ لأنه مباح فعله، لاسيما وهو حلال وطلب الحلال فريضة، وإنما اتبع الطير لذاته لا لجماله فإنه لا منفعة له فيه، وإنما ذِكرهم لحسن الطائر خرقٌ في الجهالة. أما أنه روي أنه كان طائراً من ذهب فاتبعه ليأخذه؛ لأنه من فضل الله سبحانه وتعالى كما روي في الصحيح: "إن أيوب عليه السلام كان يغتسل عرياناً فخرَّ عليه رِجل من جراد (من ذهب) فجعل يحثي منه ويجعل في ثوبه؛ فقال الله تعالى له: يا أيوب ألم أكن أغنيتك قال: بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك" . وقال القشيري: فهمّ داود بأن يأخذه ليدفعه إلى ابن له صغير فطار ووقع على كُوّة البيت، وقاله الثعلبي أيضاً وقد تقدّم.

التاسعة عشرة: قوله تعالى: { وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } أي خر ساجداً، وقد يعبر عن السجود بالركوع. قال الشاعر:

فخرّ على وَجهِه راكِعاًوتابَ إلى الله مِنْ كُلِّ ذنب

قال ابن العربي: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هاهنا السجود؛ فإن السجود هو الميل، والركوع هو الانحناء، وأحدهما يدخل على الآخر، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئته، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر، فسمى السجود ركوعاً. وقال المهدوي: وكان ركوعهم سجوداً. وقيل: بل كان سجودهم ركوعاً. وقال مقاتل: فوقع من ركوعه ساجداً لله عز وجل. أي لما أحس بالأمر قام إلى الصلاة، ثم وقع من الركوع إلى السجود؛ لاشتمالهما جميعاً على الانحناء. { وَأَنَابَ } أي تاب من خطيئته ورجع إلى الله. وقال الحسين بن الفضل: سألني عبد الله بن طاهر وهو الوالي عن قول الله عز وجل: { وَخَرَّ رَاكِعاً } فهل يقال للراكع خَرَّ؟. قلت: لا. قال: فما معنى الآية؟ قلت: معناها فخرّ بعد أن كان راكعاً أي سجد.

الموفية عشرين: واختلف في سجدة داود هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أم لا؟ فروى أبو سعيد الخدري: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأ بها فتَشَزَّنَ الناس للسجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها توبة نبيّ ولكني رأيتكم تَشَزَّنتم للسجود" ونزل وسجد. وهذا لفظ أبي داود. وفي البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: «صۤ» ليست من عزائم القرآن، وقد رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. وقد روي من طريق عن ابن مسعود أنه قال: «صۤ» توبة نبيّ ولا يسجد فيها؛ وعن ابن عباس أنها توبة نبيّ ونبيكم ممن أمر أن يقتدى به. قال ابن العربي: والذي عندي أنها ليست موضع سجود، ولكن النبيّ صلى الله عليه وسلم سجد فيها فسجدنا بالاقتداء به. ومعنى السجود أن داود سجد خاضعاً لربه، معترفاً بذنبه، تائباً من خطيئته؛ فإذا سجد أحد فيها فليسجد بهذه النية، فلعل الله أن يغفر له بحرمة داود الذي اتبعه، وسواء قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ فإن هذا أمر مشروع في كل أمة لكل أحد. والله أعلم.

الحادية والعشرون: قال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد: قوله: { وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } فيه دلالة على أن السجود للشكر مفرداً لا يجوز؛ لأنه ذكر معه الركوع؛ وإنما الذي يجوز أن يأتي بركعتين شكراً فأما سجدة مفردة فلا؛ وذلك أن البشارات كانت تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده، فلم ينقل عن أحد منهم أنه سجد شكراً، ولو كان ذلك مفعولاً لهم لنقل نقلاً متظاهراً لحاجة العامة إلى جوازه وكونه قربة.

قلت: وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى يوم بُشِّر برأس أبي جهل ركعتين. وخرّج من حديث أبي بكرة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسرّه ـ أو يسّر به ـ خر ساجداً شكراً لله. وهذا قول الشافعي وغيره.

الثانية والعشرون: روى الترمذي وغيره واللفظ للغير: أن رجلاً من الأنصار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل يستتر بشجرة وهو يقرأ: { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة، فسمعها وهي تقول: اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجراً، وارزقني بها شكراً.

قلت: خرّج ابن ماجه في سننه عن ابن عباس قال: كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل فقال: إني رأيت البارحة فيما يرى النائم، كأني أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة (فسجدت) فسجدتْ الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم احطط بها عني وزراً، واكتب لي بها أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً. قال ابن عباس: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ «السجدة» فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة. ذكره الثعلبي "عن أبي سعيد الخدري؛ قال: قلت يا رسول الله رأيتُني في النوم كأني تحت شجرة والشجرة تقرأ صۤ فلما بلغت السجدة سجدتْ فيها، فسمعتها تقول في سجودها: اللهم اكتب لي بها أجراً، وحط عني بها وزراً، وارزقني بها شكراً، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته، فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: أفسجدت أنت يا أبا سعيد فقلت: لا والله يا رسول الله. فقال: لقد كنت أحق بالسجود من الشجرة ثم قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم صۤ حتى بلغ السجدة فسجد، ثم قال مثل ما قالت الشجرة" .

الثالثة والعشرون: قوله تعالى: { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أي فغفرنا له ذنبه. قال ابن الأنباري: «فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ» تام، ثم تبتدىء «وَإِنَّ لَهُ» وقال القشيري: ويجوز الوقف على «فَغَفَرْنَا لَهُ» ثم تبتدىء «ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ» كقوله: { { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } [صۤ: 55] أي الأمر ذلك. وقال عطاء الخراساني وغيره: إن داود سجد أربعين يوماً حتى نبت المرعى حول وجهه وغمر رأسه، فنودي: أجائع فتطعَم أو عارٍ فتكسَى؛ فَنَحب نحبة هاج المرعى من حرّ جوفه، فغفِر له وستر بها. فقال: يا رب هذا ذنبي فيما بيني وبينك قد غفرته، وكيف بفلان وكذا وكذا رجلاً من بني إسرائيل، تركت أولادهم أيتاما، ونساءهم أرامل؟ قال: يا داود لا يجاوزني يوم القيامة ظلم أمكنه منك ثم أستوهبك منه بثواب الجنة. قال: يا رب هكذا تكون المغفرة الهينة. ثم قيل: يا داود ارفع رأسك. فذهب ليرفع رأسه فإذا به قد نَشِب في الأرض، فأتاه جبريل فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع من الشجرة صمغها. رواه الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن عطاء. قال الوليد: وأخبرني مُنِير بن الزبير، قال: فلزق مواضع مساجده على الأرض من فروة وجهه ما شاء الله. قال الوليد قال ابن لهيعة: فكان يقول في سجوده سبحانك هذا شرابي دموعي، وهذا طعامي في رماد بين يدي. في رواية: إنه سجد أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة، فبكى حتى نبت العُشْب من دموعه. وروي مرفوعاً من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن داود مكث أربعين ليلة ساجداً حتى نبت العشب من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده: يا رب داود زلّ زلّة بَعُد بها ما بين المشرق والمغرب ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً في الخلق من بعده فقال له جبريل بعد أربعين سنة يا داود إن الله قد غفر لك الهَمّ الذي هممت به" وقال وهب: إن داود عليه السلام نودي إني قد غفرت لك. فلم يرفع رأسه حتى جاءه جبريل فقال: لم لا ترفع رأسك وربك قد غفر لك؟ قال: يا رب كيف وأنت لا تظلم أحداً. فقال الله لجبريل: اذهب إلى داود فقل له يذهب إلى قبر أوريا فيتحلل منه، فأنا أسمعه نداءه. فلبس داود المسوح وجلس عند قبر أوريا، ونادى يا أوريا فقال: لبيك! من هذا الذي قطع عليّ لذتي وأيقظني؟ فقال: أنا أخوك داود أسألك أن تجعلني في حلٍّ فإني عرّضتك للقتل؛ قال: عرضتني للجنة فأنت في حلّ. وقال الحسن وغيره: كان داود عليه السلام بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين، ويقول: تعالوا إلى داود الخطَّاء، ولا يشرب شراباً إلا مزجه بدموع عينيه. وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قَصْعة فلا يزال يبكي حتى يبتل بدموعه، وكان يذرّ عليه الرماد والملح فيأكل ويقول: هذا أكل الخاطئين. وكان قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر، ثم صام بعده الدهر كله وقام الليل كله. وقال: يا رب اجعل خطيئتي في كفي فصارت خطيئته منقوشة في كفه. فكان لا يبسطها لطعام ولا شراب ولا شيء إلا رآها فأبكته، وإن كان ليؤتى بالقدح ثلثاه ماء، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه عن شفته حتى يفيض من دموعه. وروى الوليد بن مسلم: حّدثني أبو عمرو الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل عيني داود مثل القِربتين تَنْطُفان ولقد خدّد الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض" . قال الوليد: وحدّثنا عثمان بن أبي العاتكة أنه كان في قول داود إذ هو خلوٌ من الخطيئة شدّة قوله في الخطائين أن كان يقول: اللهم لا تغفر للخطائين. ثم صار إلى أن يقول: اللهم رب اغفر للخاطئين لكي تغفر لداود معهم؛ سبحان خالق النور. إلهي! خرجت أسأل أطباء عبادك أن يداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني. إِلهي! أخطأت خطيئة قد خفت أن تجعل حصادها عذابك يوم القيامة إن لم تغفرها؛ سبحان خالق النور. إلهي! إذا ذكرت خطيئتي ضاقت الأرض برحْبها عليّ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إليّ روحي. وفي الخبر: أن داود عليه السلام كان إذا علا المنبر رفع يمينه فاستقبل بها الناس ليريهم نقش خطيئته؛ فكان ينادي: إِلهي! إذا ذكرت خطيئتي ضاقت عليّ الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إليّ روحي؛ رب اغفر للخاطئين كي تغفر لداود معهم. وكان يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد، فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من الأفرشة كلها. وكان إذا كان يوم نَوْحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشّعاب وعلى رؤوس الجبال وأفواه الغيران: ألا إن هذا يوم نوحِ داود، فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأت داود فيسعده؛ فيهبط السياح من الغيران والأودية، وترتج الأصوات حول منبره والوحوش والسباع والطير عُكَّفٌ؛ وبنو إسرائيل حول منبره، فإذا أخذ في العويل والنوح، وأثارت الحرقات منابع دموعه، صارت الجماعة ضجة واحدة نوحاً وبكاء، حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم. ومات داود عليه السلام فيما قيل يوم السبت فجأة؛ أتاه مَلَك الموت وهو يصعد في محرابه وينزل؛ فقال: جئت لأقبض روحك. فقال: دعني حتى أنزل أو أرتقي. فقال: مالي إلى ذلك سبيل؛ نفدت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق، فما أنت بمؤثر بعدها أثراً. قال: فسجد داود على مرقاة من الدرج فقبض نفسه على تلك الحال. وكان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة. وقيل: تسع وسبعون، وعاش مائة سنة، وأوصى إلى ابنه سليمان بالخلافة.

الرابعة والعشرون: قوله تعالى: { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ } قال محمد بن كعب ومحمد بن قيس: { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } قربة بعد المغفرة. { وَحُسْنَ مَـآبٍ } قالا: والله إن أوّل من يشرب الكأس يوم القيامة داود. وقال مجاهد عن عبد الله بن عمر: الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة. وعن مجاهد: يبعث داود يوم القيامة وخطيئته منقوشة في يده: فإذا رأى أهاويل يوم القيامة لم يجد منها محرزاً إلا أن يلجأ إلى رحمة الله تعالى. قال: ثم يرى خطيئته فيقلق فيقال له هاهنا؛ ثم يرى فيقلق فيقال له هاهنا، ثم يرى فيقلق فيقال له هاهنا؛ (حتى يقرّب فيسكن) فذلك قوله عز وجل: { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ } ذكره الترمذي الحكيم. قال: حدّثنا الفضل بن محمد، قال حدّثنا عبد الملك بن الأصبغ قال: حدّثنا الوليد بن مسلم، قال حدّثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن عبد الملك بن أبي سليمان عن مجاهد فذكره. قال الترمذي: ولقد كنت أمر زماناً طويلاً بهذه الآيات فلا ينكشف لي المراد والمعنى من قوله: { رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } [صۤ: 16] والقِط الصحيفة في اللغة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [الانشقاق: 7]: وقال لهم: «إنكم ستجدون هذا كله في صحائفكم تعطونها بشمائلكم» فقالوا: «رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا» أي صحيفتنا «قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ» قال الله تعالى: { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ } [صۤ: 17] فقص قصة خطيئته إلى منتهاها، فكنت أقول: أمره بالصبر على ما قالوا، وأمره بذكر داود فأي شيء أريد من هذا الذكر؟ وكيف اتصل هذا بذاك؟ فلا أقف على شيء يسكن قلبي عليه، حتى هداني الله يوماً فألهمته أن هؤلاء أنكروا قول أنهم يعطون كتبهم بشمائلهم، فيها ذنوبهم وخطاياهم استهزاء بأمر الله؛ وقالوا: «رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ» فأوجعه ذلك من استهزائهم، فأمره بالصبر على مقالتهم، وأن يذكر عبده داود؛ سأل تعجيل خطيئته أن يراها منقوشة في كفه، فنزل به ما نزل من أنه كان إذا رآها اضطرب وامتلأ القدح من دموعه، وكان إذا رآها بكى حتى تنفذ سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد، فإنما سألها بعد المغفرة وبعد ضمان تبعة الخصم، وأن الله تبارك وتعالى اسمه يستوهبه منه، وهو حبيبه ووليه وصفيه؛ فرؤية نقش الخطيئة بصورتها مع هذه المرتبة صنعت به هكذا، فكيف كان يحلّ بأعداء الله وبعصاته من خلقه وأهل خزيه، لو عجلت لهم صحائفهم فنظروا إلى صورة تلك الخطايا التي عملوها على الكفر والجحود، وماذا يحل بهم إذا نظروا إليها في تلك الصحائف، وقد أخبر الله عنهم فقال: { { فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49] فداود صلوات الله عليه مع المغفرة والبشرى والعطف لم يقم لرؤية صورتها. وقد روينا في الحديث: إذا رآها يوم القيامة منقوشة في كفه قلق حتى يقال له هاهنا، ثم يرى فيقلق ثم يقال هاهنا، ثم يرى فيقلق حتى يُقرِّب فيسكن.