خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
٤١
ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ
٤٢
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
٤٣

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ } أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في الصبر على المكاره. «أَيُّوبَ» بدل. { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } وقرأ عيسى بن عمر «إِنّي» بكسر الهمزة أي قال. قال الفراء: وأجمعت القراء على أن قرؤوا «بِنُصْبٍ» بضم النون والتخفيف. النحاس: وهذا غلط وبعده مناقضة وغلط أيضاً؛ لأنه قال: أجمعت القراء على هذا، وحكى بعده أنهم ذكروا عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ: «بِنَصَبٍ» بفتح النون والصاد فغلط على أبي جعفر، وإنما قرأ أبو جعفر «بِنُصُبٍ» بضم النون والصاد؛ كذا حكاه أبو عبيد وغيره وهو مروي عن الحسن. فأما «بِنَصَبٍ» فقراءة عاصم الجحدريّ ويعقوب الحضرميّ. وقد رويت هذه القراءة عن الحسن. وقد حكي «بِنَصْبٍ» بفتح النون وسكون الصاد عن أبي جعفر. وهذا كله عند أكثر النحويين بمعنى النَّصَبِ؛ فنُصْب ونَصَب كحزْن وحَزَن. وقد يجوز أن يكون نُصْب جمع نَصَبٍ كَوُثْن ووَثَنٍ. ويجوز أن يكون نُصْب بمعنى نُصُب حذفت منه الضمة، فأما { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [المائدة: 3] فقيل: إنه جمع نصاب. وقال أبو عبيدة وغيره: النُّصْبُ الشر والبلاء. والنَّصَب التعب والإعياء. وقد قيل في معنى: { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } أي ما يلحقه من وسوسته لا غير. والله أعلم. ذكره النحاس. وقيل: إن النصب ما أصابه في بدنه، والعذاب ما أصابه في ماله؛ وفيه بُعْد. وقال المفسرون: إن أيوب كان رومياً من البَثَنِيَّة وكنيته أبو عبد الله في قول الواقدي؛ اصطفاه الله بالنبوّة، وأتاه جملة عظيمة من الثروة في أنواع الأموال والأولاد. وكان شاكراً لأنْعُم الله، مواسياً لعباد الله، بَرًّا رحيماً. ولم يؤمن به إلا ثلاثة نفر. وكان لإبليس موقف من السماء السابعة في يوم من الأيام، فوقف به إبليس على عادته؛ فقال الله له أو قيل له عنه: أَقَدَرْتَ من عبدي أيوب على شيء؟ فقال: يا رب! وكيف أقدر منه على شيء، وقد ابتليته بالمال والعافية، فلو ابتليته بالبلاء والفقر ونزعت منه ما أعطيته لحال عن حاله، ولخرج عن طاعتك. قال الله: قد سلطتك على أهله وماله. فانحط عدوُّ الله فجمع عفاريت الجن فأعلمهم، وقال قائل منهم: أكون إعصاراً فيه نار أهلك ماله فكان؛ فجاء أيوبَ في صورة قَيِّم ماله فأعلمه بما جرى؛ فقال: الحمد لله هو أعطاه وهو منعه. ثم جاء قصره بأهله وولده، فاحتمل القصر من نواحيه حتى ألقاه على أهله وولده، ثم جاء إليه وأعلمه فألقى التراب على رأسه، وصعد إبليس إلى السماء فسبقته توبة أيوب. قال: يا رب سلطني على بدنه. قال: قد سلطتك على بدنه إلا على لسانه وقلبه وبصره، فنفخ في جسده نفخة اشتعل (منها) فصار في جسده ثآليل فحكها بأظفاره حتى دميت، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه. وقال عند ذلك: «مَسَّنِي الشَّيْطَانُ». ولم يخلص إلى شيء من حشوة البطن؛ لأنه لا بقاء للنفس إلا بها فهو يأكل ويشرب، فمكث كذلك ثلاث سنين. فلما غلبه أيوب اعترض لامرأته في هيئة أعظم من هيئة بني آدم في القدر والجمال، وقال لها: أنا إلٰه الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت، ولو سجدت لي سجدة واحدة لرددت عليه أهله وماله وهم عندي. وعرض لها في بطن الوادي ذلك كله في صورته؛ أي أظهره لها، فأخبرت أيوب فأقسم أن يضربها إن عافاه الله. وذكروا كلاماً طويلاً في (سبب بلائه و) مراجعته لربه وتبرمه من البلاء الذي نزل به، وأن النفر الثلاثة الذين آمنوا به نهوه عن ذلك واعترضوا عليه؛ وقيل: استعان به مظلوم فلم ينصره فابتلي بسبب ذلك. وقيل: استضاف يوماً الناس فمنع فقيراً الدخول فابتلي بذلك. وقيل: كان أيوب يغزو ملكاً وكان له غنم في ولايته، فداهنه لأجلها بترك غزوه فابتلي. وقيل: كان الناس يتعدّون امرأته ويقولون نخشى العدوى وكانوا يستقذرونها؛ فلهذا قال: { مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ }. وامرأته ليا بنت يعقوب. وكان أيوب في زمن يعقوب وكانت أمه ابنة لوط. وقيل: كانت زوجة أيوب رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام. ذكر القولين الطبريرحمه الله . قال ابن العربي: ما ذكره المفسرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة يوماً من العام فقول باطل؛ لأنه أهبط منها بلعنة وسخط إلى الأرض، فكيف يرقى إلى محل الرضا، ويجول في مقامات الأنبياء، ويخترق السموات العلى، ويعلو إلى السماء السابعة إلى منازل الأنبياء، فيقف موقف الخليل؟ٰ إن هذا لخطب من الجهالة عظيم. وأما قولهم: إن الله تعالى قال له هل قدرت من عبدي أيوب على شيء فباطل قطعاً؛ لأن الله عز وجل لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس الملعون؛ فكيف يكلم من تَوَلَّى إضلالهم؟.ٰ وأما قولهم: إن الله قال قد سلطتك على ماله وولده فذلك ممكن في القدرة، ولكنه بعيد في هذه القصة. وكذلك قولهم: إنه نفخ في جسده حين سلَّطه عليه فهو أبعد، والباري سبحانه قادر على أن يخلق ذلك كله من غير أن يكون للشيطان فيه كسب حتى تقِرّ له ـ لعنةُ الله عليه ـ عينٌ بالتمكن من الأنبياء في أموالهم وأهليهم وأنفسهم. وأما قولهم: إنه قال لزوجته أنا إلٰه الأرض، ولو تركتِ ذكر الله وسجدتِ أنتِ لي لعافيته، فاعلموا وإنكم لتعلمون أنه لو عرض لأحدكم وبه ألم وقال هذا الكلام ما جاز عنده أن يكون إلٰها في الأرض، وأنه يسجد له، وأنه يعافي من البلاء، فكيف أن تستريب زوجة نبيّ؟ٰ ولو كانت زوجة سواديّ أو فَدْم بربريّ ما ساغ ذلك عندها. وأما تصويره الأموال والأهل في وادٍ للمرأة فذلك ما لا يقدر عليه إبليس بحال، ولا هو في طريق السحر فيقال إنه من جنسه. ولو تصوّر لعلمت المرأة أنه سحر كما نعلمه نحن وهي فوقنا في المعرفة بذلك؛ فإنه لم يخل زمان قط من السحرِ وحديثه وجريه بين الناس وتصويره. قال القاضي: والذي جرأهم على ذلك وتذرّعوا به إلى ذكر هذا قوله تعالى: { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } فلما رأوه قد شكا مسّ الشيطان أضافوا إليه من رأيهم ما سبق من التفسير في هذه الأقوال. وليس الأمر كما زعموا والأفعال كلها خيرها وشرها، في إيمانها وكفرها، طاعتها وعصيانها، خالقها هو الله لا شريك له في خلقه، ولا في خلق شيء غيرها، ولكن الشر لا ينسب إليه ذِكرا، وإن كان موجوداً منه خَلْقا؛ أدباً أدّبنا به، وتحميداً علّمناه، "وكان من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم لربه به قوله من جملته: والخير في يديك والشر ليس إليك" على هذا المعنى. ومنه قول إبراهيم: { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [الشعراء: 80] وقال الفتى للكليم: { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَانُ } [الكهف: 63] وأما قولهم: إنه استعان به مظلوم فلم ينصره. فمن لنا بصحة هذا القول. ولا يخلو أن يكون قادراً على نصره، فلا يحلّ لأحد تركه فيلام على أنه عصى وهو منزّه عن ذلك. أو كان عاجزاً فلا شيء عليه في ذلك، وكذلك قولهم: إنه منع فقيراً من الدخول؛ إن كان علم به فهو باطل عليه، وإن لم يعلم به فلا شيء عليه فيه. وأما قولهم: إنه داهن على غنمه الملك الكافر فلا تقل داهن ولكن قل دارى. ودفع الكافر والظالم عن النفس أو المال بالمال جائز؛ نعم وبحسن الكلام. قال ابن العربي القاضي أبو بكر رضي الله عنه: ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين؛ الأولى قوله تعالى: { { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } [الأنبياء: 83] والثانية في «صۤ» { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ }. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله: "بينا أيوب يغتسل إذ خرّ عليه رِجل من جراد من ذهب" الحديث. وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره، أم على أيّ لسان سمعه؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات؛ فأعرض عن سطورها بصرك، وأصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالاً، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا. وفي الصحيح واللفظ للبخاري أن ابن عباس قال: يا معشر المسلمين! تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله، تقرؤونه مَحْضاً لم يُشَب، وقد حدّثكم أن أهل الكتاب قد بدّلوا من كتب الله وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب؛ فقالوا: { هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [البقرة: 79] ولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الموطأ على عمر قراءته التوراة.

قوله تعالى: { ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ } الركض الدفع بالرجل. يقال: رَكَض الدابةَ ورَكَض ثوبه برجله. وقال المبرّد: الرَّكْض التحريك؛ ولهذا قال الأصمعي: يقال رُكِضَت الدابّة ولا يقال رَكَضَت هي؛ لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ولا فعل لها في ذلك. وحكى سيبويه: ركَضتُ الدابةَ فركضتْ مثل جَبرتُ العظم فَجبَر وحزنته فحزن؛ وفي الكلام إضمار أي قلنا له: «ارْكُضْ» قاله الكسائي. وهذا لما عافاه الله. { هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } أي فركض فنبعت عين ماء فاغتسل به، فذهب الداء من ظاهره، ثم شرب منه فذهب الداء من باطنه. وقال قتادة: هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية، فاغتسل من إحداهما فأذهب الله تعالى ظاهر دائه، وشرب من الأخرى فأذهب الله تعالى باطن دائه. ونحوه عن الحسن ومقاتل؛ قال مقاتل؛ نبعت عين حارّة واغتسل فيها فخرج صحيحاً، ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماء عذباً. وقيل: أمر بالركض بالرجل ليتناثر عنه كل داء في جسده. والمغتسل الماء الذي يغتسل به؛ قاله القتبي. وقيل: إنه الموضع الذي يغتسل فيه؛ قاله مقاتل. الجوهري: واغتسلت بالماء، والغسول الماء الذي يغتسل به، وكذلك المغتسل، قال الله تعالى: { هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } والمغتسل أيضاً الذي يغتسل فيه، والمَغْسِل والمَغْسَل بكسر السين وفتحها مغسِل الموتى والجمع المغاسل. واختلف كم بقي أيوب في البلاء؛ فقال ابن عباس: سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات. وقال وهب بن منبّه: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وترك يوسف في السجن سبع سنين، وعُذِّب بُخْتَنصَّر وحُوِّل في السباع سبع سنين. ذكره أبو نعيم. وقيل: عشر سنين. وقيل: ثمان عشرة سنة. رواه أنس مرفوعاً فيما ذكر الماوردي.

قلت: وذكره ابن المبارك؛ أخبرنا يونس بن يزيد، عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوماً أيوب، وما أصابه من البلاء، وذكر أن البلاء الذي أصابه كان به ثمان عشرة سنة. وذكر الحديث القشيري. وقيل: أربعين سنة.

قوله تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } تقدّم في «الأنبياء» الكلام فيه. { رَحْمَةً مِّنَّا } أي نعمة منا. { وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } أي عبرة لذوي العقول.