خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
٢٢
-النساء

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع مسائل:

الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } يُقال: كان الناس يتزوّجون ٱمرأة الأبِ برضاها بعد نزول قوله تعالىٰ: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً } حتى نزلت هذه الآية: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } فصار حراماً في الأحوال كلها؛ لأن النكاح يقع على الجماع والتزوّج، فإن كان الأب تزوج ٱمرأة أو وطئها بغير نكاح حرّمت على ٱبنه؛ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالىٰ.

الثانية ـ قوله تعالىٰ: { مَا نَكَحَ } قيل: المراد بها النساء. وقيل: العقد، أي نكاح آبائكم الفاسد المخالف لدين الله؛ إذ الله قد أحكم وجه النكاح وفصّل شروطه. وهو اختيار الطبري. فـ «مِنْ» متعلقة بـ «ـتَنْكِحُوا» و { مَا نَكَحَ } مصدر. قال: ولو كان معناه ولا تنكحوا النساء اللآتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع «ما» «من». فالنهي على هذا إنما وقع على ألاّ ينكحوا مثل نكاح آبائهم الفاسد. والأوّل أصح، وتكون «ما» بمعنى «الذي» و «من». والدليل عليه أن الصحابة تلقّت الآية على ذلك المعنى؛ ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء. وقد كان في العرب قبائل قد ٱعتادت أن يخلف ٱبن الرجل على ٱمرأة أبيه، وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي. ألا ترىٰ أن عمرو بن أُمية خلف على ٱمرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافراً وأبا مُعيط، وكان لها من أُمية أبو العِيصِ وغيره؛ فكان بنو أُمية إخوة مُسَافِر وأبي مُعِيط وأعمامهما. ومن ذلك صفوان بن أُمية بن خَلَف تزوّج بعد أبيه ٱمرأته فاخِتَة بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكان أُمية قتل عنها. ومن ذلك منظور بن زَبّان خلف على مُلَيْكَةَ بنت خارجة، وكانت تحت أبيه زَبَّان بن سَيّار. ومن ذلك حِصْن بن أبي قيس تزوّج ٱمرأة أبيه كُبَيْشَة بنت مَعْن. والأسود بن خلف تزوّج ٱمرأة أبيه. وقال الأشعث بن سَوّار: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ٱبنه قيس ٱمرأة أبيه فقالت: إني أعدّك ولداً، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره؛ فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية. وقد كان في العرب من تزوّج ٱبنته، وهو حاجب بن زُرَارَة تمَجَّس وفعل هذه الفعلة؛ ذكر ذلك النضر ابن شُمَيْل في كتاب المثالب. فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة.

الثالثة ـ قوله تعالىٰ: { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } أي تقدّم ومضى. والسلف: من تقدّم من آبائك وذوي قرابتك. وهذا استثناء منقطع، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه. وقيل: «إلاَّ» بمعنى بَعْدُ، أي بعدما سلف؛ كما قال تعالىٰ: { { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } [الدخان: 56] أي بعد الموتة الأُولى. وقيل: { إِلاَّ ۤمَا قَدْ سَلَفَ } أي ولا ما سلف؛ كقوله تعالىٰ: { { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [النساء: 92] يعني ولا خطأ. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، معناه: ولا تنكِحوا ما نكح آباؤكم مِن النساء إنه كان فاحِشة ومقتاً وساء سبيلاً إلاَّ ما قد سلف. وقيل: في الآية إضمار لقوله: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلاَّ ما قد سلف.

الرابعة ـ قوله تعالىٰ: { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } عقب بالذم البالغ المتتابع، وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية. قال أبو العباس: سألت ٱبن الأعرابيّ عن نكاح المقت فقال: هو أن يتزوّج الرجل ٱمرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها؛ ويُقال لهذا الرجل: الضّيْزَن. وقال ٱبن عرفة: كانت العرب إذا تزوّج الرجل ٱمرأة أبيه فأولدها قيل للولد: المقتِيّ. وأصل المقت البغض؛ من مَقَتَه يَمْقُتُه مَقْتاً فهو مَمْقُوتٌ وَمَقِيتٌ. فكانت العرب تقول للرجل من ٱمرأة أبيه: مَقِيتٌ؛ فسمي تعالى هذا النكاح «مقتاً» إذ هو ذا مقتٍ يلحق فاعله. وقيل: المراد بالآية النهي عن أن يطأ الرجل ٱمرأةً وطئها الآباء، إلاَّ ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على وجه المناكحة فإنه جائز لكم زواجهنّ. وأن تطئوا بعقد النكاح ما وطئه آباؤكم من الزنى؛ قاله ٱبن زيد. وعليه فيكون الاستثناء متصلاً، ويكون أصلاً في أن الزنى لا يحرِّم على ما يأتي بيانه. والله أعلم.