خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
-النساء

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع وأربعون مسألة:

الأولى ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } خص الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب المؤمنين؛ لأنهم كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفَتْ عليهم أذهانَهم فخصُّوا بهذا الخطاب؛ إذ كان الكفار لا يفعلونها صُحاة ولا سكارى. روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافياً؛ فنزلت الآية التي في البقرة { { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } [البقرة: 219] قال: فدُعِي عمر فقُرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً؛ فنزلت الآية التي في النساء { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألاَ لا يقربنّ الصلاة سكران. فدعي عمر فقُرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً؛ فنزلت هذه الآية: { { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91] قال عمر: انتهينا. وقال سعيد بن جبير: كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا، فكانوا يشربونها أوّل الإسلام حتى نزلت: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } قالوا: نشربها للمنفعة لا للإثم؛ فشربها رجل فتقدّم يصلي بهم فقرأ؛ قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون؛ فنزلت: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ }. فقالوا: في غير عين الصلاة. فقال عمر: اللهم أنزل علينا في الخمر بياناً شافياً؛ فنزلت: { { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ } [المائدة: 91] الآية. فقال عمر: ٱنتهينا. ٱنتهينا. ثم طاف منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الخمر قد حُرِّمَتْ؛ على ما يأتي بيانه في «المائدة» إن شاء الله تعالى: وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبدالرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأت { { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [الكافرون: 2] ونحن نعبد ما تعبدون. قال: فأنزل الله تعالى { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ }. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ووجه الاتصال والنظم بما قبله أنه قال سبحانه وتعالى: { { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [النساء: 36.]

ثم ذكر بعد الإيمان الصلاةَ التي هي رأس العبادات؛ ولذلك يُقتل تاركُها ولا يسقط فرضها، وانجرّ الكلام إلى ذكر شروطها التي لا تصح إلا بها.

الثانية ـ والجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر سكر الخمر؛ إلا الضحاك فإنه قال: المراد سكر النوم؛ لقوله عليه السلام: "إذا نعس أحدكم في الصلاة فلْيرقُدْ حتى يذهب عنه النوم، فإنه لا يدري لعلّه يستغفر فيَسبّ نفسه" . وقال عَبيدة السّلمانِيّ: «وَأَنْتُمْ سُكَارَى» يعني إذا كنت حاقناً؛ لقوله عليه السلام: "لا يصلِّيَنَّ أحدكم وهو حاقن" في رواية "وهو ضام بين فخذيه"

قلت وقول الضحاك وعَبيدة صحيح المعنى؛ فإن المطلوب من المصلِّي الإقبالُ على الله تعالى بقلبه وترك الالتفات إلى غيره، والخلُّو عن كل ما يشوِّش عليه من نوم وحُقنة وجوع، وكل ما يشغَل البال ويغيّر الحال. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا حضر العَشاء وأُقيمت الصلاة فٱبدئوا بالعَشاء" . فراعى صلى الله عليه وسلم زوال كلِّ مشوّش يتعلّق به الخاطر، حتى يُقبل على عبادة ربّه بفراغ قلبه وخالص لُبِّه، فيخشع في صلاته. ويدخل في هذه الآية: { { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } } [المؤمنون:1] { { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون: 2] على ما يأتي بيانه. وقال ابن عباس: إن قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } منسوخٌ بآية المائدة: { { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ } [المائدة: 6] الآية. فأُمِروا على هذا القول بألاّ يصلّوا سكارى؛ ثم أُمروا بأن يصلوا على كل حال؛ وهذا قبل التحريم. وقال مُجاهد: نسخت بتحريم الخمر. وكذلك قال عِكرمة وقَتادة، وهو الصحيح في الباب لحديث عليّ المذكور. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أُقيمت الصلاة فنادى منادِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا يَقْرَبَنَّ الصلاة سكران؛ ذكره النحاس. وعلى قول الضحاك وعَبيدة الآية مُحْكَمَةٌ لا نسخ فيها.

الثالثة ـ قوله تعالى: { لاَ تَقْرَبُواْ } إذا قيل: لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تَلْبَس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تَدْنُ منه. والخطاب لجماعة الأُمة الصاحِين. وأما السّكران إذا عدم المَيْز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت لذهاب عقله؛ وإنما هو مخاطب بامتثال ما يجب عليه، وبتكفير ما ضيع في وقت سكره من الأحكام التي تقرّر تكليفه إياها قبل السكر.

الرابعة ـ قوله تعالى: { ٱلصَّلاَةَ } اختلف العلماء في المراد بالصلاة هنا؛ فقالت طائفة: هي العبادة المعروفة نفسها؛ وهو قول أبي حنيفة؛ ولذلك قال { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ }. وقالت طائفة: المراد مواضع الصلاة؛ وهو قول الشافعي، فحذف المضاف. وقد قال تعالى { { لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ } [الحج: 40] فسمّى مواضع الصلاة صلاةً. ويدلّ على هذا التأويل قوله تعالى { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } وهذا يقتضي جواز العُبُور للجُنُب في المسجد لا الصلاة فيه. وقال أبو حنيفة: المراد بقوله تعالى { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم ويصلّي؛ وسيأتي بيانه. وقالت طائفة: المراد الموضع والصلاة معاً؛ لأنهم كانوا حينئذٍ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين.

الخامسة ـ قوله تعالى: { وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } ابتداء وخبر، جملة في موضع الحال من «تَقْرَبُوا». و «سُكَارَى» جمع سكران؛ مثل كَسْلان وكُسَالى. وقرأ النَّخَعيّ «سَكْرى» بفتح السين على مثال فَعْلى، وهو تكسير سكران؛ وإنما كُسّر على سكرى لأن السّكر آفة تلحق العقل فجرى مجرى صَرْعَى وبابِه. وقرأ الأعمش «سُكرى» كحبلى فهو صفة مفردة؛ وجاز الإخبار بالصفة المفردة عن الجماعة على ما يستعملونه من ٱلإخبار عن الجماعة بالواحد. والسكر: نقيض الصحو؛ يقال: سَكِر يَسْكَر سكراً، من باب حَمِد يحمَد. وسَكِرت عينه تَسْكُر أي تحيّرت؛ ومنه قوله تعالى: { { إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } [الحجر: 15]. وسكّرت الشّق سددته. فالسكران قد ٱنقطع عما كان عليه من العقل.

السادسة ـ وفي هذه الآية دليل بل نصّ على أن الشرب كان مباحاً في أوّل الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر. وقال قوم: السّكر محرّم في العقل وما أُبيح في شيء من الأديان؛ وحملَوا السُّكر في هذه الآية على النوم. وقال القَفَّال: يحتمل أنه كان أُبيح لهم من الشراب ما يحرّك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحَمِيّة.

قلت: وهذا المعنى موجود في أشعارهم؛ وقد قال حسان:

ونشربها فتتركنا ملوكا

وقد أشبعنا هذا المعنى في «البقرة». قال القَفّال: فأمّا ما يزيل العقل حتى يصيّر صاحبه في حدّ الجنون والإغماء فما أُبيح قَصْدُه، بل لو ٱتفق من غير قصد فيكون مرفوعاً عن صاحبه.

قلت: هذا صحيح، وسيأتي بيانه في «المائدة» إن شاء الله تعالى في قصة حمزة. وكان المسلمون لما نزلت هذه الآية يجتنبون الشرب أوقات الصلوات، فإذا صلّوا العشاء شرِبوها؛ فلم يزالوا على ذلك حتى نزل تحريمها في «المائدة» في قوله تعالى: { { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91].

السابعة ـ قوله تعالى: { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } أي حتى تعلموه متيقِّنين فيه من غير غلط. والسكران لا يعلم ما يقول؛ ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن السكران لا يلزمه طلاقه. وروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء وٱلقاسم وربيعة، وهو قول اللّيث بن سعد وإسحاق وأبي ثَوْر والمُزَنِي؛ وٱختاره الطحاوي وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المَعْتُوه لا يجوز، والسكران مَعْتُوه كالمُوَسْوِس معتوه بالوَسواس. ولا يختلفون أن من شرِب البَنْج فذهب عقله أن طلاقه غيرُ جائز؛ فكذلك من سِكر من الشراب. وأجازت طائفة طلاقَه؛ وروي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعةٍ من التابعين، وهو قول أبي حنيفة والثَّوْرِيّ والأُوزاعيّ، واختلف فيه قول الشافعيّ. وألزمه مالك الطلاق والقَوَد في الجِراح والقتل، ولم يلزمه النكاح والبيع. وقال أبو حنيفة: أفعال السكران وعقوده كلُّها ثابتة كأفعال الصاحي، إلا الردّة فإنه إذا ٱرتدّ (فإنه) لا تَبِين منه ٱمرأته إلا استحساناً. وقال أبو يوسف: يكون مُرْتَدّاً في حال سكره؛ وهو قول الشافعيّ إلا أنه لا يقتله في حال سكره ولا يستتِيبه. وقال الإمام أبو عبد الله المَازَرِي: وقد رُويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزم طلاق السكران. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يلزمه طلاق ولا عتاق. قال ٱبن شاس: ونزّل الشيخ أبو الوليد الخِلاف على المُخَلِّط الذي معه بقيّة من عقله إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه فيخطِىء ويصيب. قال: فأما السكران الذي لا يعرف الأَرض من السماء ولا الرجل من المرأة، فلا ٱختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعاله وأحواله فيما بينه وبين الناس، وفيما بينه وبين الله تعالى أيضاً؛ إلا فيما ذهب وقته من الصلوات، فقيل: إنها لا تسقط عنه بخلاف المجنون؛ من أجل أنه بإدخاله السكر على نفسه كالمتعمّد لتركها حتى خرج وقتها. وقال سفيان الثَّوريّ: حدّ السكر ٱختلال العقل؛ فإذا ٱستُقْرِىء فخلط في قراءته وتكلّم بما لا يعرف جُلِد. وقال أحمد: إذا تغيّر عقله عن حال الصحّة فهو سكران؛ وحُكِي عن مالك نحوه. قال ٱبن المُنْذِر: إذا خلّط في قراءته فهو سكران؛ استدلالاً بقول الله تعالى: { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ }. فإذا كان بحيث لا يعلم ما يقول تجنّب المسجد مخافةَ التلويث؛ ولا تصح صلاته وإن صلى قضى. وإن كان بحيث يعلم ما يقول فأتى بالصلاة فحُكْمه حُكم الصّاحِي.

الثامنة ـ قوله تعالى: { وَلاَ جُنُباً } عطف على موضع الجملة المنصوبة في قوله: { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ } أي لا تصلّوا وقد أجنبتم. ويقال: تجنبتم وأجنبتم وجُنِّبتم بمعنًى. ولفظ الجُنُب لا يُؤَنَّث ولا يُثَنَّى ولا يُجمع؛ لأنه على وزن المصدر كالبُعْد والقُرْب. ورُبّما خفّفوه فقالوا: جَنْب؛ وقد قرأه كذلك قوم. وقال الفَرّاء: يقال جَنُب الرجل وأجنب من الجنابة. وقيل: يجمع الجُنُب في لغة على أجناب؛ مثل عُنقٍ وأعناقٍ، وطُنُبٍ وأطنابٍ. ومن قال للواحد جانب قال في الجمع: جُنّاب؛ كقولك: راكِب ورُكّاب. والأصل البعد؛ كأنّ الجُنبَ بَعُدَ بخروج الماء الدّافق عن حال الصلاة؛ قال:

فلا تَحْرِمَنِّي نائِلاً عن جنابةٍفإني ٱمْرُؤٌ وَسْطَ القِبَاب غَريب

ورجل جُنُب: غريب. والجنابة مخالطة الرّجل المرأة.

التاسعة ـ والجمهور من الأُمّة على أن الجُنُب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة خِتانٍ. وروِي عن بعض الصحابة ألاّ غسل إلاّ من إنزال؛ لقوله عليه السلام: "إنما الماء من الماء" أخرجه مسلم. وفي البخاري "عن أُبَيّ بن كعب أنه قال: يا رسول الله، إذا جامع الرّجل المرأةَ فلم ينزِل؟ قال: يَغسِل مامسّ المرأة منه ثم يتوضأ ويُصلي" . قال أبو عبد الله: الغسل أحوط؛ وذلك الآخر إنما بيناه لآختلافهم. وأخرجه مسلم في صحيحه بمعناه، وقال في آخره: قال أبو العلاء بن الشِّخِّير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضاً كما ينسخ القرآن بعضه بعضاً. قال أبو إسحاق: هذا منسوخ. وقال الترمذيّ: كان هذا الحُكْم في أوّل الإسلام ثم نسِخ.

قلت: على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وأن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين. وقد كان فيه خِلاف بين الصحابة ثم رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جَلس بين شُعبِها الأَربع ومَسّ الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل" . أخرجه مسلم. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قعد بين شُعَبِها الأربع ثم جَهَدَها فقد وجب عليه الغسل" . زاد مسلم "وإن لم ينزِل" . قال ٱبن القَصّار: وأجمع التابعون ومَن بعدهم بعد خلاف من قبلهم على الأخذ بحديث "إذا ٱلْتَقَى الخِتانان" وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مُسْقِطاً للخِلاف. قال القاضي عِياض: لا نعلم أحداً قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حُكي عن الأعْمَش ثم بعده داود الأصبهاني. وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على ترك الأخذ بحديث: "الماء من الماء" لما ٱختلفوا. وتأوّله ابن عباس على الاحتلام؛ أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال الماء في الاحتلام. ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل. وهذا ما لا خلاف فيه بين كافة العلماء.

العاشرة ـ قوله تعالى: { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } يقال: عبرت الطريق أي قطعته من جانب إلى جانب. وعَبَرت النهر عُبوراً، وهذا عِبْر النهر أي شطّه، ويقال: عُبْر بالضم. والمِعْبَر ما يُعْبَر عليه من سفينة أو قنطرة. وهذا عابرُ السبيل أي مارّ الطريق. وناقة عُبْرُ أسفار: لا تَزال يُسافَر عليها ويُقطَع بها الفلاة والهاجرة لسرعة مَشيها. قال الشاعر:

عَيْرَانَةٌ سُرُحُ اليَدَيْنِ شِمِلّةٌعِبْرُ الهَوَاجِرِ كالهِزَفّ الخاضِب

وعَبَر القومُ ماتوا. وأنشد:

قضاء الله يغلب كلّ شيءويلعب بالجَزُوع وبالصّبُورِ
فإن نَعْبُرْ فإنّ لنا لُمَاتٍوإن نَغْبُر فنحن على نُذُورِ

يقول: إن مِتْنَا فلنا أقران، وإن بقينا فلا بدّ لنا من الموت؛ حتى كأنّ علينا في إتيانه نُذوراً.

الحادية عشرة ـ وٱختلف العلماء في قوله: { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } فقال عليّ رضي الله عنه وٱبن عباس وٱبن جُبير ومُجاهد والحَكَم: عابِر السبيل المسافر. ولا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جُنُب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم؛ وهذا قول أبي حنيفة؛ لأن الغالب في الماء لا يُعدَم في الحضر؛ فالحاضِر يغتسل لوجود الماء، والمسافر يتيمّم إذا لم يجده. قال ابن المُنْذِر: وقال أصحاب الرأي في الجنب المسافرِ يمرّ على مسجدٍ فيه عين ماء يتيمّم الصعيدَ ويدخل المسجِد ويستقي منها ثم يُخرج الماء من المسجد. ورخّصت طائفة في دخول الجنب المسجد. واحتج بعضهم بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "المؤمن ليس بنجسٍ" . قال ابن المُنْذِر: وبه نقول. وقال ابن عباس أيضاً وابن مسعود وعِكرمة والنّخَعيّ: عابر السبيل الخاطِر المجتاز؛ وهو قول عمرو بن دِينار ومالك والشافعيّ. وقالت طائفة: لا يمرّ الجنب في المسجد إلا ألاّ يجِد بُدّاً فيتيمم ويمرّ فيه؛ هكذا قال الثوريّ وإسحاق بن رَاهَوْيه. وقال أحمد وإسحاق في الجنب: إذا توضّأ لا بأس أن يجلس في المسجد؛ حكاه ٱبن المُنْذِر. وروى بعضهم في سبب الآية أن قوماً من الأنصار كانت أبواب دُورِهم شارِعةً في المسجد، فإذا أصاب أحدهم الجنابة ٱضطرّ إلى المرور في المسجد.

قلت: وهذا صحيح؛ يَعْضُده ما رواه أبو داود عن جَسْرة بنت دَجاجة قالت سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: "جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوتِ أصحابه شارِعة في المسجد؛ فقال: وجّهوا هذه البيوت عن المسجد. ثم دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئاً رجاءَ أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم فقال: وجِّهُوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحِل المسجد لحائضٍ ولا جُنُبٍ" . وفي صحيح مسلم: "لا تبقينّ في المسجد خَوْخة إلا خَوْخة أبي بكر" . فأمر صلى الله عليه وسلم بسدّ الأبواب لما كان يؤدّي ذلك إلى ٱتخاذ المسجد طريقاً والعُبورِ فيه. واستثنى خَوْخة أبي بكر إكراماً له وخصوصية؛ لأنهما كانا لا يفترقان غالباً. وقد روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أذِن لأحد أن يمرّ في المسجد ولا يجلس فيه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ورواه عطيّة العَوْفِيّ عن أبي سعيد الخُدْريّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لمسلم ولا يصْلُح أن يجنُب في المسجد إلا أنا وعليّ" . قال علماؤنا: وهذا يجوز أن يكون ذلك؛ لأن بيت عليّ كان في المسجد، كما كان بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، وإن كان البيتان لم يكونا في المسجد ولكن كانا متصِلَيْن بالمسجد وأبوابهما كانت في المسجد فجعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فقال: "ما ينبغي لمسلم" الحديث. والذي يدلّ على أن بيت عليّ كان في المسجد ما رواه ٱبن شِهاب عن سالم بن عبد الله قال: سأل رجل أبي عن عليّ وعثمان رضي الله عنهما أيّهما كان خيراً؟ فقال له عبد الله بن عمر: هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأشار إلى بيت عليّ إلى جنبه، لم يكن في المسجد غيرهما؛ وذكر الحديث. فلم يكونا يجنبان في المسجد وإنما كانا يجنبان في بيوتهما، وبيوتهما من المسجد إذ كان أبوابهما فيه؛ فكانا يستطرقانه في حال الجنابة إذا خرجا من بيوتهما. ويجوز أن يكون ذلك تخصيصاً لهما؛ وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم خُص بأشياء، فيكون هذا مما خُصّ به، ثم خص النبيّ صلى الله عليه وسلم عليّاً عليه السلام فرخّص له في ما لم يرخِّص فيه لغيره. وإن كانت أبواب بيوتهم في المسجد، فإنه كان في المسجد أبواب بيوتٍ غيرِ بَيْتَيْهما؛ حتى أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بسدّها إلا باب عليّ. وروى عمرو بن ميمون عن ٱبن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سُدُّوا الأبواب إلا باب عليّ" فخصّه عليه السلام بأن ترك بابه في المسجد، وكان يجنب في بيته وبيته في المسجد. وأما قوله: "لا تبقينّ في المسجد خَوْخة إلا خَوْخة أبي بكر" فإن ذلك كانت ـ والله أعلم ـ أبواباً تطلع إلى المسجد خوخات، وأبواب البيوت خارجة من المسجد؛ فأمر عليه السلام بسدّ تلك الخوخات وترك خوخة أبي بكر إكراماً له. والخَوْخات كالكُوَى والمشاكي، وباب عليّ كان بابَ البيت الذي كان يدخل منه ويخرج. وقد فسّر ٱبن عمر ذلك بقوله: ولم يكن في المسجد غيرهما.

فإن قيل: فقد ثبت عن عطاء بن يسار أنه قال: كان رجال من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ويأتون المسجد فيتحدّثون فيه. وهذا يدل على أن اللَّبث في المسجد للجنب جائز إذا توضأ؛ وهو مذهب أحمد وإسحاق كما ذكرنا. فالجواب أن الوضوء لا يرفع حدث الجنابة، وكلُّ موضع وُضِع للعبادة وأكرِم عن النجاسة الظاهرة ينبغي ألاّ يدخله من لا يرضى لتلك العبادة، ولا يصح له أن يتلبس بها. والغالب من أحوالهم المنقولة أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم. فإن قيل: يبطل بالمحدث. قلنا: ذلك يكثر وقوعه فيشق الوضوء منه؛ وفي قوله تعالى: { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } ما يُغْني ويَكْفِي. وإذا كان لا يجوز له اللبث في المسجد فأحرى ألاّ يجوز له مسّ المصحف ولاَ القراءة فيه؛ إذ هو أعظم حُرْمَة. وسيأتي بيانه في «الواقعة» إن شاء الله تعالى.

الثانية عشرة ـ ويمنع الجُنُب عند علمائنا من قراءة القرآن غالباً إلا الآيات اليسيرة للتعوّذ. وقد روى موسى ابن عُقبة عن نافع عن ٱبن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقرأ الجُنُب والحائض شيئاً من القرآن" أخرجه ٱبن ماجه. وأخرجه الدّارقطنِيّ من حديث سفيان عن مِسْعَر، وشعبة عن عمرو بن مُرّة عن عبد الله بن سَلِمَةَ عن عليّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جُنُباً. قال سفيان قال لي شعبة: ما أحدّث بحديث أحسن منه. وأخرجه ٱبن ماجه قال: حدّثنا محمد بن بشار حدّثنا محمد بن جعفر حدّثنا شعبة عن عمرو بن مُرة؛ فذكره بمعناه، وهذا إسناد صحيح. وعن ٱبن عباس عن عبد الله بن رَوَاحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب؛ أخرجه الدّارَقُطْنِيّ. ورَوَى عن عكرمة قال: كان ٱبن رواحة مضطجِعاً إلى جنب ٱمرأته فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها؛ وفزعت ٱمرأته فلم تجده في مضجعه، فقامت فخرجت فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت، وفرغ فقام فلقيها تحمل الشفرة فقال مَهْيَمْ؟ قالت: مَهْيَم لو أدركتك حيث رأيتك لوَجَأْت بين كتفيْك بهذه الشّفْرَة. قال: وأين رأيتني؟ قالت: رأيتك على الجارية؛ فقال: ما رأيتني؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جُنُب. قالت: فٱقرأ، وكانت لا تقرأ القرآن، فقال:

أتانا رسولُ اللَّه يَتْلُو كتابَهكما لاحَ مشهورٌ من الفجر ساطِعُ
أتى بالهدى بعد العمَى فقلوبُنابه موقِناتٌ أنّ ما قال وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجافي جنبُه عن فراشهإذا ٱستَثْقَلَتْ بالمشركين المضاجِعُ

فقالت: آمنتُ بالله وكذَّبت البصر. ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فضحِك حتى بدتْ نواجِذُه صلى الله عليه وسلم.

الثالثة عشرة ـ قوله تعالى: { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال؛ والاغتسال معنى معقول، ولفظه عند العرب معلوم، يُعبّر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول؛ ولذلك فَرَقَت العرب بين قولهم: غسلت الثوب، وبين قولهم: أفَضْتُ عليه الماء وغمسته في الماء. إذا تقرّر هذا فاعلم أن العلماء ٱختلفوا في الجُنُب يصب على جسده الماء أو يَنغمِس فيه ولا يتدلّك؛ فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يجزِئه حتى يتدلّك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر الجُنُب بالاغتسال، كما أمر المتوضىءَ بغسل وجهه ويديه ولم يكن للمتوضى بَدٌّ من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضي ويديه. وهذا قول المُزَنِيّ وٱختياره. قال أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي: وهذا هو المعقول من لفظ الغسل؛ لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال، ومن لم يُمرّ يديه فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان غاسلاً، بل يسمونه صابّاً للماء ومنغمِساً فيه. قال: وعلى نحوِ هذا جاءت الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تحت كلِّ شعرةٍ جنابة فاغسِلوا الشعر وأنْقُوا البَشَرَة" قال: وإنقاؤه ـ والله أعلم ـ لا يكون إلا بتَتَبُّعهِ؛ على حدّ ما ذكرنا.

قلت: لا حجة فيما ٱستُدِلّ به من الحديث لوجهين: أحدهما ـ أنه قد خولف في تأويله؛ قال سفيان بن عُيَيْنة: المراد بقوله عليه السلام "وأنْقُوا البَشَرة" أراد غسل الفرج وتنظيفه، وأنه كنّى بالبَشَرة عن الفرج. قال ابن وهب: ما رأيت أحداً أعلم بتفسير الأحاديث من ٱبن عيينة.

الثاني ـ أن الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال فيه: وهذا الحديث ضعيف؛ كذا في رواية ٱبن داسة. وفي رواية اللُّؤْلِئيّ عنه: الحارث بن وَجيه ضعيف، حديثه منكر؛ فسقط الاستدلال بالحديث، وبقِي المعوّل على اللسان كما بينا. ويعْضُدُه ما ثبت في صحيح الحديث. أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بصبيّ فبال عليه، فدعا بماء فأتبعَه بولَه ولم يغسله؛ روته عائشة، ونحوه عن أُم قيس بنت محصن؛ أخرجهما مسلم. وقال الجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء: يُجزِىء الجُنُب صَبُّ الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعمّ وإن لم يتدلّك؛ على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبيّ صلى الله عليه وسلم. رواهما الأئمة. وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُفيض الماء على جسده؛ وبه قال محمد بن عبد الحكم، وإليه رجع أبو الفرج ورواه عن مالك؛ قال: وإنما أمر بإمرار اليدين في الغسل لأنه لا يكاد من لم يُمِرّ يديه عليه يسلم من تنكّبِ الماء عن بعض ما يجب عليه من جسده. وقال ٱبن العربي: وأعجب لأبي الفرج الذي روى وحكى عن صاحب المذهب أن الغسل دون ذلك يجزىء! وما قاله قَطُّ مالكٌ نصّا ولا تَخْرِيجاً، وإنما هي من أوهامه.

قلت: قد رُوِي هذا عن مالك نصاً؛ قال مروان بن محمد الظاهري وهو ثِقة من ثِقات الشاميين: سألت مالك بن أنس عن رجلٍ ٱنغمس في ماء وهو جُنُب ولم يتوضأ، قال: مضت صلاته. قال أبو عمر: فهذه الرواية فيها لم يتدَلّك ولا توضأ، وقد أجزأه عند مالك. والمشهور من مذهبه أنه لا يُجزِئه حتى يتدَلّك؛ قياساً على غَسْل الوجه واليدين. وحجة الجماعة أن كل من صبّ عليه الماء فقد ٱغتسل. والعرب تقول: غسلتني السماءُ. وقد حكت عائشة وميمونة صفة غُسْل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا تَدَلُّكا، ولو كان واجباً ما تركه؛ لأنه المبيّن عن الله مرادَه، ولو فعله لنُقِل عنه؛ كما نُقِل تخليلُ أُصولِ شعره بالماء وغَرْفه على رأسه، وغير ذلك من صفة غُسْله ووضوئه عليه السلام. قال أبو عمر: وغير نكير أن يكون الغسل في لسان العرب مرةً بالعَرْكِ ومرة بالصّبّ والإفاضة؛ وإذا كان هذا فلا يمتنع أن يكون الله جل وعز تعبّد عِباده في الوضوء بإمرار أيديهم على وجوههم مع الماء ويكون ذلك غسلاً، وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غُسل الجنابة والحيض، ويكون ذلك غسلاً موافقاً للسنة غير خارج من اللغة، ويكون كل واحد من الأمرين أصلاً في نفسه، لا يجب أن يردّ أحدهما إلى صاحبه؛ لأن الأُصول لا يُردّ بعضها إلى بعض قياساً ـ وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء الأُمة. وإنما تردّ الفروع قياساً على الأُصول. وبالله التوفيق.

الرابعة عشرة ـ حديث ميمونة وعائشة يردّ ما رواه شعبة مولى ٱبن عباس عن ٱبن عباس أنه كان إذا ٱغتسل من الجنابة غَسَل يديه سبعاً وفرْجَه سبعا. وقد روى عن ٱبن عمر قال: كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرار، وغسل البول من الثوب سبع مرار؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جُعِلت الصلاة خمساً، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة. قال ٱبن عبد البر، وإسناد هذا الحديث عن ابن عمر فيه ضَعْف ولَيْن، وإن كان أبو داود قد خرّجه والذي قبله عن شعبة مولى ابن عباس، وشعبة هذا ليس بالقوِيّ، ويردّهما حديث عائشة وميمونة.

الخامسة عشرة ـ ومن لم يستطِع إمرار يده على جسده فقد قال سحنون: يجعل من يلي ذلك منه، أو يعالجه بخرقة. وفي الواضحة: يمرّ يديه على ما يدرِكه من جسده، ثم يفيض الماء حتى يعمّ ما لم تبلغه يداه.

السادسة عشرة ـ واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته؛ فروى ٱبن القاسم عنه أنه قال: ليس عليه ذلك. وروى أشهب عنه أن عليه ذلك. قال ٱبن عبد الحكم: ذلك هو أحب إلينا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلّل شعره في غسل الجنابة، وذلك عامّ وإن كان الأظهر فيه شعر رأسه؛ وعلى هذين القولين العلماءُ. ومن جهة المعنى أن ٱستيعاب جميع الجسد في الغسل واجب، والبشرةُ التي تحت اللحية من جملته؛ فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها باليد. وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى لأنها مبنية على التخفيف، ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة؛ ولذلك جاز فيها المسح على الخفّين ولم يجز في الغسل.

قلت: ويَعْضُد هذا قولُه صلى الله عليه وسلم: "تحت كلِّ شعرةٍ جنابة"

السابعة عشرة ـ وقد بالغ قوم فأوجبوا المضمضة والاستنشاق؛ لقوله تعالى: { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } منهم أبو حنيفة؛ ولأنهما من جملة الوجه وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخدّ والجَبِين، فمن تركهما وصلّى أعاد كمن ترك لُمْعَة، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه. وقال مالك: ليستا بفرضٍ لا في الجنابة ولا في الوضوء؛ لأنهما باطنان فلا يجب كداخل الجسد. وبذلك قال محمد بن جرير الطبريّ والليث بن سعد والأُوزاعيّ وجماعة من التابعين. وقال ٱبن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان: هما فرض في الوضوء والغسل جميعاً؛ وهو قول إسحاق وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب داود. وروي عن الزهرِيّ وعطاء مثل هذا القول. وروي عن أحمد أيضاً أن المضمضة سنة والاستنشاق فرض؛ وقال به بعض أصحاب داود. وحجة من لم يوجبهما أن الله سبحانه لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما رسوله، ولا ٱتفق الجميع عليه؛ والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه. احتج من أوجبهما بالآية، وقوله تعالى: { فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر؛ والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة؛ وهو المبيّن عن الله مراده قولاً وعملاً. احتج من فرق بينهما بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فَعَل المضمضة ولم يأمر بها، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل، وفعل الاستنشاق وأمر به؛ وأمْرُه على الوجوب أبداً.

الثامنة عشرة ـ قال علماؤنا: ولا بدّ في غسل الجنابة من النّيّة؛ لقوله تعالى: { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } وذلك يقتضي النية؛ وبه قال مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وكذلك الوضوء والتيمم. وعضدوا هذا بقوله تعالى: { { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [البينة: 5] والإخلاص النية في التقرب إلى الله تعالى، والقصدِ له بأداء ما ٱفترض على عباده المؤمنين، وقال عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" وهذا عمل. وقال الأُوزاعيّ والحسن: يُجزِىء الوضوء والتيمم بغير نية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: كل طهارة بالماء فإنها تُجزِىء بغير نية، ولا يجزِىء التيمم إلا بنية؛ قياساً على إزالة النجاسة بالإجماع من الأبدان والثياب بغير نية. ورواه الوليد بن مسلم عن مالك.

التاسعة عشرة ـ وأما قدر الماء الذي يغتسل به؛ فروى مالك عن ٱبن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أُم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يغتسل من إناء هو الفَرَق من الجنابة. «الفَرَقُ» تحرك راؤه وتسكن. قال ٱبن وهب: «الفَرْق» مكيال من الخشب، كان ٱبن شهاب يقول: إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أُمية. وقد فسر محمد بن عيسى الأعشى «الفرق» فقال: ثلاثة آصع، قال: وهي خمسة أقساط، قال: وفي الخمسة أقساط اثنا عشراً مُدّاً بمُدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم قال سفيان: «الفرق» ثلاثة آصع. وعن أنس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمُدّ ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد. وفي رواية: يغتسل بخمسة مكاكِيك ويتوضأ بمَكُّوك. وهذه الأحاديث تدل على ٱستحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن، يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي ولا يُكثِر منه، فإن الإكثار منه سَرَف والسَّرف مذموم. ومذهب الأباضِيّة الإكثار من الماء، وذلك من الشيطان.

الموفية عشرين ـ قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } هذه آية التيمم، نزلت في عبد الرحمن ابن عوف أصابته جنابة وهو جريح؛ فرُخّص له في أن يتيمّم، ثم صارت الآية عامّةً في جميع الناس. وقيل: نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة «المُرَيْسِيع» حين انقطع العِقد لعائشة. أخرج الحديث مالك من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة. وترجم البخارِيّ هذه الآية في كتاب التفسير: حدّثنا محمد قال أخبرنا عَبدة عن هشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: هلكت قلادة لأسماء فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالاً، فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلوا وهم على غير وضوء؛ فأنزل الله تعالى آية التَّيَمُّم.

قلت: وهذه الرواية ليس فيها ذكر للموضع، وفيها أن القِلادة كانت لأسماء؛ خلافُ حديث مالك. وذكر النَّسائِيّ من رواية علي بن مُسْهِر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها ٱستعارت من أسماء قِلادةً لها وهي في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فٱنسلّت منها وكان ذلك المكان يقال له الصُّلْصُل؛ وذكر الحديث. ففي هذه الرواية عن هشام أن القِلادة كانت لأسماء، وأن عائشة استعارتها من أسماء. وهذا بيان لحديث مالك إذ قال: انقطع عِقد لعائشة، ولحديث البخاريّ إذ قال: هلكت قِلادة لأسماء. وفيه أن المكان يقال له الصلصل. وأخرجه الترمذي حدّثنا الحُمَيْدِيّ حدّثنا سفيان حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها سقطت قِلادتُها ليلة الأَبْواء، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين في طلبها؛ وذكر الحديث. ففي هذه الرواية عن هشام أيضاً إضافة القِلادة إليها، لكن إضافة مستعير بدليل حديث النَّسائي. وقال في المكان: «الأبواء» كما قال مالك، إلا أنه من غير شك. وفي حديث مالك قال: وبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العِقد تحته. وجاء في البخاريّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده. وهذا كله صحيح المعنى، وليس اختلاف النَّقلة في العِقد والقِلادة ولا في الموضع ما يقدح في الحديث ولا يُوهِن شيئاً منه؛ لأن المعنى المرادَ من الحديث والمقصودَ به إليه هو نزول التيمم، وقد ثبتت الروايات في أمر القِلادة. وأما قوله في حديث التّرمذِيّ: فأرسل رجلين قيل: أحدهما أسَيد بن حُضير. ولعلهما المراد بالرّجال في حديث البخاريّ فعبّر عنهما بلفظ الجمع، إذ أقل الجمع اثنان، أو أردف في أثرهما غيرهما فصح إطلاق اللفظ، والله أعلم. فبعثوا في طلبها فطلبوا فلم يجدوا شيئاً في وجهتهم، فلما رجعوا أثاروا البعير فوجدوه تحته. وقد رُوي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جِراحة ففشت فيهم ثم ٱبتلُوا بالجنابة فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. وهذا أيضاً ليس بخلاف لِمَا ذكرنا؛ فإنهم ربما أصابتهم الجِراحة في غزوتهم تلك التي قفلوا منها إذ كان فيها قتال فشكَوْا، وضاع العِقد ونزلت الآية. وقد قيل: إن ضياع العِقد كان في غَزاة بني المُصْطَلِق. وهذا أيضاً ليس بخلاف لقول من قال في غزاة المُرَيْسِيع، إذ هي غزاة واحدة؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم غزا بني المُصْطَلِق في شعبان من السنة السادسة من الهجرة، على ما قاله خليفة بن خَيّاط وأبو عمر بن عبد البر، واستعمل على المدينة أبا ذَرٍّ الغِفارِي. وقيل: بل نُمَيلة بن عبد الله اللّيثي. وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المُصْطَلِق وهم غارّون، وهم على ماء يقال له المُرَيْسِيع من ناحية قُدَيدٍ مما يلي الساحل، فقتَلَ مَن قتل وسَبَى من سبى النساءَ والذّرية وكان شعارهم يومئذ: أمِتْ أمِتْ. وقد قيل: إن بني المُصْطَلِق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوه، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقِيهم على ماء. فهذا ما جاء في بدء التيمم والسبب فيه. وقد قيل: إن آية المائدة آيةُ التيمم، على ما يأتي بيانه هناك. قال أبو عمر: فأنزل الله تعالى آية التيمم، وهي آية الوضوء المذكورة في سورة «المائدة»، أو الآية التي في سورة «النساء». ليس التيمم مذكوراً في غير هاتين الآيتين وهما مَدَنِيّتَان.

الحادية والعشرون ـ قوله تعالى: { مَّرْضَىٰ } المرض عبارة عن خروج البدن عن حدّ الاعتدال والاعتياد، إلى الاعوجاج والشذوذ. وهو على ضربين: كثير ويسير؛ فإذا كان كثيراً بحيث يخاف الموت لبرد الماء، أو للعلة التي به، أو يخاف فوت بعض الأعضاء، فهذا يتيمم بإجماع؛ إلا ما رُوي عن الحسن وعطاء أنه يتطهر وإن مات. وهذا مردود بقوله تعالى: { { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78] وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ }. وروى الدّارَقُطْنِيّ عن سعيد بن جُبير عن ٱبن عباس في قوله عز وجل: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } قال: إذا كانت بالرجل الجِراحة في سبيل الله أو القروح أو الجُدَرِيّ فيَجْنَب فيخاف أن يموت إن ٱغتسل، تَيمَّم. وعن سعيد بن جُبير أيضاً عن ٱبن عباس قال: رُخِّص للمريض في التيمم بالصَّعيد. وتيمّم عمرو بن العاص لما خاف أن يَهلِك من شدّة البرد ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بغسلٍ ولا إعادة. فإن كان يسيراً إلاَّ أنه يخاف معه حدوثَ علة أو زيادَتها أو بطء بُرْءٍ فهؤلاء يتيمّمون بإجماع من المذهب. قال ٱبن عطية: فيما حفظت.

قلت: قد ذكر الباجِيّ فيه خلافاً؛ قال القاضي أبو الحسن: مثل أن يخاف الصحيح نَزْلَةً أو حُمّى، وكذلك إن كان المريض يخاف زيادة مرض؛ وبنحو ذلك قال أبو حنيفة. وقال الشافعيّ: لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف؛ ورواه القاضي أبو الحسن عن مالك. قال ٱبن العربيّ: «قال الشافعيّ لا يباح التيمم للمريض إلا إذا خاف التلف؛ لأن زيادة المرض غير متحققة؛ لأنها قد تكون وقد لا تكون، ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك. قلنا: قد ناقضت؛ فإنك قلت إذا خاف التلف من البرد تيمم؛ فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك يبيحه خوف المرض؛ لأن المرض محذور كما أن التلف محذور. قال: وعجباً للشافعيّ يقول: لو زاد الماء على قدر قيمته حبة لم يلزمه شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم، وهو يخاف على بدنه المرض! وليس لهم عليه كلام يساوي سماعه».

قلت: الصحيح من قول الشافعيّ فيما قال القشيرِيّ أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره: والمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يخاف فيه فوت الروح أو فوات بعض الأعضاء لو ٱستعمل الماء. فإن خاف طول المرض فالقول الصحيح للشافعيّ: جواز التيمم. روى أبو داود والدّارَقُطْنِيّ عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جُبير "عن عمرو بن العاص قال: ٱحتلمت في ليلة باردة في غزوة ذاتِ السلاسل فأشفقت إن ٱغتسلت أن أهلِك؛ فتيممت ثم صلّيتُ بأصحابي الصبح؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو: صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمِعت الله عز وجل يقول: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [النساء: 29] فضحك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً" . فدلّ هذا الحديثُ على إباحة التيمم مع الخوف لا مع اليقين، وفيه إطلاق ٱسم الجنب على المتيمم وجواز صلاة المتيمم بالمتوضِّئين؛ وهذا أحد القولين عندنا؛ وهو الصحيح وهو الذي أقرأه مالك في موطَّئه وقُرِىء عليه إلى أن مات. والقول الثاني ـ أنه لا يصلي؛ لأنه أنقص فضيلة من المتوضىء، وحُكم الإمام أن يكون أعلى رتبة؛ وقد روى الدّارَقُطْنِيّ من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمّ المتيمم المتوضئين" إسناده ضعيف. وروى أبو داود والدّارقُطْنِيّ "عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجّه في رأسه ثم ٱحتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء؛ فٱغتسل فمات، فلما قدِمنا على النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبِر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء ٱلعِيّ السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويَعْصِر أو يَعصِب ـ شكّ موسى ـ على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده" . قال الدّارَقُطْنِيّ: «قال أبو بكر هذه سنة تفرّد بها أهل مكة وحملها أهل الجزيرة، ولم يروِه عن عطاء عن جابر غير الزّبير بن خُرَيق، وليس بالقويّ، وخالفه الأُوزاعي فرواه عن عطاء عن ٱبن عباس وهو الصواب. وٱختُلف عن الأُوزاعي فقيل عنه عن عطاء، وقيل عنه: بلغني عن عطاء، وأرسل الأُوزاعيّ آخره عن عطاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زُرْعة عنه فقالا: رواه ٱبن أبي العشرين عن الأُوزاعيّ عن إسماعيل بن مسلم عن عطاء عن ٱبن عباس، وأسند الحديث». وقال داود: كل من ٱنطلق عليه ٱسم المريض فجائز له التيمم؛ لقوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ }. قال ابن عطية: وهذا قول خلْف، وإنما هو عند علماء الأُمة لمن خاف من ٱستعمال الماء أو تأذّيه به كالمجدور والمحصوب، والعلل المَخُوف عليها من الماء؛ كما تقدّم عن ٱبن عباس.

الثانية والعشرون ـ قوله تعالى: { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } يجوز التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة؛ هذا مذهب مالك وجمهور العلماء. وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة. وٱشترط آخرون أن يكون سفر طاعة. وهذا كله ضعيف. والله أعلم.

الثالثة والعشرون ـ أجمع العلماء على جواز التيمم في السفر حسبما ذكرنا، واختلفوا فيه في الحضر؛ فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز؛ وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف؛ وهو قول الطبري. وقال الشافعي أيضاً واللّيث والطبري: إذا عَدِم الماء في الحضر مع خوف الوقت الصحيحُ والسقيمُ تيمم وصلّى ثم أعاد. وقال أبو يوسف وزُفَر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرضٍ ولا لخوف الوقت. وقال الحسن وعطاء: لا يتيمم المريض إذا وجد الماء ولا غير المريض. وسبب الخلاف ٱختلافهم في مفهوم الآية؛ فقال مالك ومن تابعه: ذكر الله تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خُرِّج على الأغلب فيمن لا يجد الماء، والحاضرون الأغلب عليهم وجودُه فلذلك لم ينصّ عليهم. فكل من لم يجد الماء أو منعه منه مانع أو خاف فوات وقت الصلاة، تيمم المسافر بالنص، والحاضرُ بالمعنى. وكذلك المريض بالنص والصحيح بالمعنى. وأما من مَنعه في الحضر فقال: إن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر؛ كالفِطر وقصر الصلاة، ولم يبح التيمم إلا بشرطين، وهما المرض والسفر؛ فلا دخول للحاضر الصحيح في ذلك لخروجه من شرط الله تعالى. وأما قول الحسن وعطاء الذي منعه جملةً مع وجود الماء فقال: إنما شرطه الله تعالى مع عدم الماء، لقوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } فلم يُبح التيمم لأحد إلا عند فقْد الماء. وقال أبو عمر: ولولا قول الجمهور وما رُوي من الأثر لكان قول الحسن وعطاء صحيحاً؛ والله أعلم. وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم التيمم لعمرو بن العاص وهو مسافر إذ خاف الهلاك إن ٱغتسل بالماء، فالمريض أحرى بذلك.

قلت: ومن الدليل على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء الكتابُ والسنةُ:

أما الكتاب فقوله سبحانه: { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ } يعني المقيم إذا عدِم الماء تيمم. نصّ عليه القُشَيْرِيّ عبد الرحيم قال: ثم يقطع النظر في وجوب القضاء؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر وفي القضاء قولان:

قلت: وهكذا نص أصحابنا فيمن تيمم في الحضر، فهل يعيد إذا وجد الماء أم لا؛ المشهور من مذهب مالك أنه لا يعيد وهو الصحيح. وقال ٱبن حبيب ومحمد بن عبد الحكم: يعيد أبداً؛ ورواه ٱبن المُنْذر عن مالك. وقال الوليد عنه: يغتسل وإن طلعت الشمس.

وأما السُّنّة فما رواه البخاريّ عن أبي الجُهَيْم بن الحارث بن الصِّمّة الأنصاريّ قال: "أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم من نحو بئرِ جَمَلٍ فلقِيه رجل فسلّم عليه فلم يردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجِدار فمسح بوجهه ويديه، ثم ردّ عليه السلام. وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ بِئر. وأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من حديث ابن عمر وفيه: ثم ردّ على الرّجل السلام وقال: إنه لم يمنعني أن أردّ عليك السلام إلا أني لم أكن على طهرٍ" .

الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى: { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ } الغائط أصله ما انخفض من الأرض، والجمع الغِيطان أو الأغواط؛ وبه سُمِّيَ غُوطة دِمَشْق. وكانت العرب تقصِد هذا الصنف من المواضع لقضاء حاجتها تَسَتُّراً عن أعين الناس، ثم سُمِّيَ الحدث الخارج من الإنسان غائطاً للمقارنة. وغاط في الأرض يغوط إذا غاب.

وقرأ الزُّهْرِي: «من الغَيْطِ» فيحتمل أن يكون أصله الغيّط فخفف، كهيّن وميّت وشبهه. ويحتمل أن يكون من الغوط؛ بدلالة قولهم تغوّط إذا أتى الغائط، فقلبت واو الغوط ياء، كما قالوا في لا حَوْل لا حَيْل. و «أو» بمعنى الواو، أي إن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحدث لا المرض والسفر؛ فدلّ على جواز التيمم في الحضر كما بيناه. والصحيح في «أو» أنها على بابها عند أهل النظر. فلأَوْ معناها، وللواو معناها. وهذا عندهم على الحذف، والمعنى وإن كنتم مرضى مرضاً لا تقدرون فيه على مَسّ الماء أو على سفرٍ ولم تجدوا ماء واحتجتم إلى الماء. والله أعلم.

الخامسة والعشرون ـ لفظ «الغائِطِ» يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى. وقد اختلف الناس في حصرها، وأَنْبَل ما قيل في ذلك أنها ثلاثة أنواع، لا خلاف فيها في مذهبنا: زوال العقل، خارج معتاد، ملامسة. وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من الجسد من النجاسات، ولا يُراعى المخرج ولا يعدّ اللمس. وعلى مذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم ما خرج من السبيلين، ولا يراعى الاعتياد، ويعدّ اللمس. وإذا تقرّر هذا فٱعلم أن المسلمين أجمعوا على أن من زال عقله بإغماء أو جنون أو سُكْر فعليه الوضوء، وٱختلفوا في النوم هل هو حدث كسائر الأحداث؟ أو ليس بحَدَثٍ أو مِظَنّة حدث؛ ثلاثة أقوال: طرفان وواسطة.

الطرف الأول ـ ذهب المُزَني أبو إبراهيم إسماعيل إلى أنه حَدَث، وأن الوضوء يجب بقليله وكثيره كسائر الأحداث؛ وهو مقتضي قول مالك في الموطأ لقوله: ولا يتوضأ إلا من حَدَث يخرج من ذَكَر أو دُبُر أو نوم. ومقتضى حديث صفوان بن عَسَال أخرجه النَّسائي والدَارَقُطْني والتّرمذي وصححه. روَوْه جميعاً من حديث عاصم بن أبي النَّجُود عن زِرّ بن حُبيش فقال: أتيت صفوان بن عَسَّال المرادي فقلت: جئتك أسألك عن المسح على الخُفَّين قال: نعم كنت في الجيش الذي بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمَرَنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهرٍ ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعها من بَوْل ولا غائط ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة. ففي هذا الحديث وقول مالك التسويةُ بين الغائط والبول والنوم. قالوا: والقياس أنه لما كان كثيره وما غلب على العقل منه حدثاً وجب أن يكون قليله كذلك. وقد رُوي عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وِكاء السّه العينان فمن نام فليتوضأ" وهذا عام. أخرجه أبو داود، وأخرجه الدارقطني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما الطرف الآخر فروي عن أبي موسى الأَشعري ما يدل على أن النوم عنده ليس بحدث على أي حال كان، حتى يُحِدث النائم حَدثاً غير النوم، لأنه كان يوكل من يحرسه إذا نام. فإن لم يخرج منه حدث قام من نومه وصلّى؛ ورُوي عن عبيدة وسعيد بن المُسَيَّب والأوزاعي. في رواية محمود بن خالد. والجمهور على خلاف هذين الطرفين. فأما جملة مذهب مالك فإن كل نائم استثقل نوماً، وطال نومه على أي حال كان، فقد وجب عليه الوضوء؛ وهو قول الزُّهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم. قال أحمد بن حنبل: فإن كان النوم خفيفاً لا يخامر القلب ولا يغمره لم يضرّ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلا على من نام مضطجعاً أو متوركاً. وقال الشافعي: من نام جالساً فلا وضوء عليه ورواه ابن وهب عن مالك. والصحيح من هذه الأقوال مشهور مذهب مالك؛ لحديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شُغِل عنها ليلة يعني العشاء فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم" رواه الأئمة واللفظ للبخاري؛ وهو أصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد والعمل. وأما ما قاله مالك في مُوطّئه وصفوان بن عَسّال في حديثه فمعناه: ونوم ثقيل غالب على النفس؛ بدليل هذا الحديث وما كان في معناه. وأيضاً فقد روى حديث صفوانٍ وكِيعٌ عن مسعر عن عاصم بن أبي النَّجُود فقال: «أو ريح» بدل «أو نوم»، فقال الدّارَقُطْني: لم يقل في هذا الحديث «أو ريح» غيرُ وكيع عن مِسْعر.

قلت: وكيعٌ ثِقةٌ إمامٌ أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة؛ فسقط الاستدلال بحديث صفوان لمن تمّسك به في أن النوم حَدَث. وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فضعيف؛ رواه الدّارَقُطْني عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام وهو ساجد حتى غَطّ أو نفخ ثم قام فصلّى، فقلت: يا رسول الله إنك قد نمت! فقال: إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعاً فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله" . تفرّد به أبو خالد عن قتّادة ولا يصح، قاله الدّارَقُطْني. وأخرجه أبو داود وقال، قوله «الوضوء على من نام مضطجعا» هو وحديث مُنْكَرٌ لم يَرْوِه إلا أبو خالد يزيد الدّالاني عن قتادة، وروى أوّلَه جماعةٌ عن ابن عباس لم يذكروا شيئاً من هذا. وقال أبو عمر بن عبدالبر: هذا حديث مُنْكَر لم يروه أحد من أصحاب قتادة الثقات، وإنما انفرد به أبو خالد الدّلاني، وأنكروه وليس بحجة فيما نقل وأما قول الشافعي؛ على كلّ نائم الوضوءُ إلا على الجالس وحده، وأن كلّ من زال عن حدّ الاستواء ونام فعليه الوضوء؛ فهو قول الطبري وداود، ورُوي عن علي وابن مسعود وابن عمر؛ لأن الجالس لا يكاد يستثقل، فهو في معنى النوم الخفيف. وقد روى الدّارَقُطْني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نام جالسا فلا وضوء عليه ومن وضع جنبه فعليه الوضوء" . وأما الخارج؛ فلنا ما رواه البخاري قال؛ حدّثنا قُتيبة قال حدّثنا يزيد بن زُريع عن خالدٍ عن عكرمة عن عائشة قالت: اعتكفَتْ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةٌ من أزواجه فكانت ترى الدّم والصُّفْرة والطسْت تحتها وهي تصلّي. فهذا خارج على غير المعتاد، وإنما هو عرق ٱنقطع فهو مرض؛ وما كان هذا سبيله مما يخرج من السبيلين فلا وضوء فيه عندنا إيجابا، خلافا للشافعي كما ذكرنا. وبالله توفيقنا. ويردّ على الحنفي حيث راعى الخارج النجس. فصح ووضح مذهب مالك ابن أنس رضي الله عنه ما تردّد نفس، وعنهم أجمعين.

السادسة والعشرون ـ قوله تعالى؛ { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } قرأ نافع وابن كَثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «لاَمَسْتُمُ». وقرأ حمزة والكسائي: «لمستم» وفي معناه ثلاثة أقوال؛ الأوّل ـ أن يكون لمستم جامعتم. الثاني ـ لمستم باشرتم. الثالث ـ يجمع الأمرين جميعاً. و «لامستم» بمعناه عند أكثر الناس، إلا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال؛ الأولى في اللغة أن يكون «لامستم» بمعنى قبلتم أو نظيره، لأن لكل واحد منهما فعلاً. قال؛ و «لمستم» بمعنى غشيتم ومسستم، وليس للمرأة في هذا فعل.

واختلف العلماء في حكم الآية على مذاهب خمسة؛ فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد، والجُنُب لا ذكر له إلا مع الماء؛ فلم يدخل في المعنى المراد بقوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ } الآية، فَلا سبيل له إلى التيمم، وإنما يغتسل الجُنُب أو يَدَع الصلاة حتى يجِد الماء؛ ورُوي هذا القولُ عن عمر وابن مسعود. قال أبو عمر: ولم يقل بقول عمر وعبد الله في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحَمَلة الآثار؛ وذلك والله أعلم لحديث عَمار وعِمران بن حُصين وحديث أبي ذَرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: في تيمّم الجُنُب. وقال أبو حنيفة عكس هذا القول، فقال: الملامسة هنا مختصة باللمس الذي هو الجماع. فالجنب يتيمم واللامس بيده لم يجرِ له ذِكر؛ فليس بحدَثٍ ولا هو ناقض لوضوئه. فإذا قبَّل الرجل امرأته للذّة لم ينتقض وضوءه؛ وعَضدوا هذا بما رواه الَدارَقُطْني عن عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ" . قال عروة؛ فقلت لها من هي إلا أنْتِ؟ فضحكت وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمّم إذا ٱلتذّ فإذا لمَسها بغير شهوة فلا وضوء؛ وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مقتضي الآية. وقال علي بن زياد؛ وإن كان عليها ثوب كثيف فلا شيء عليه، وإن كان خفيفاً فعليه الوضوء. وقال عبد الملك بن الماجِشُون: من تعمّد مس امرأته بيده لملاعبة فليتوضأ التذ أو لم يلتذ. قال القاضي أبو الوليد الباجي في المْنتَقَى: والذي تحقّق من مذهب مالك. وأصحابه أن الوضوء إنما يجب لقصده اللذّة دون وجودها؛ فمن قصد اللذّة بلمسه فقد وجب عليه الوضوء، التذّ بذلك أو لم يلتذّ؛ وهذا معنى ما في العُتْبِية من رواية عيسى عن ابن القاسم. وأما الإنعاظ بمجرّده فقد روى آبن نافع عن مالك أنه لا يوجب وضوءا ولا غسل ذَكَر حتى يكون معه لَمْسٌ أو مَذْيٌ. وقال الشيخ أبو إسحاق: من أنعظ إنعاظاً انتقض وضوءه، وهذا قول مالك في المدونة. وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد تعلّق نقض الطهر به؛ وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزُّهري وربيعة. وقال الأوزاعي: إذا كان اللّمس باليد نقض الطُّهر وإن كان بغير اليد لم ينقضه؛ لقوله تعالى: { { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [الأنعام: 7] فهذه خمسة مذاهب أسدّها مذهب مالك؛ وهو مروي عن عمر وابنه عبدالله، وهو قول عبدالله بن مسعود أن الملامسة ما دون الجماع، وأن الوضوء يجب بذلك؛ وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء. قال ابن العربي: وهو الظاهر من معنى الآية؛ فإن قوله في أوّلها: { وَلاَ جُنُباً } أفاد الجماع، وأن قوله: { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ } أفاد الحدث، وأن قوله: { أَوْ لاَمَسْتُمُ } أفاد اللّمس والقبل. فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام، وهذه غاية في العلم والإعلام. ولو كان المراد باللّمس الجماع كان تكراراً في الكلام.

قلت: وأما ما استدل به أبو حنيفة من حديث عائشة فحديث مُرْسل؛ رواه وَكِيع عن الأَعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عُروة عن عائشة. قال يحيى بن سعيد وذَكَر حديثَ الأعمش عن حبيب عن عروة فقال: أمّا إنّ سفيان الثَّوْري كان أعلمَ الناس بهذا، زعم أن حبيباً لم يسمع من عروة شيئاً؛ قاله الدَّارَقُطْني. فإن قيل: فأنتم تقولون بالمرسل فيلزمكم قبوله والعمل به. قلنا: تركناه لظاهر الآية وعمل الصحابة فإن قيل إن الملامسة هي الجماع وقد رُوي ذلك عن ابن عباس. قلنا: قد خالفه الفاروق وابنه وتابعهما عبدالله بن مسعود وهو كوفي، فما لكم خالفتموه؟ ٰ فإن قيل: الملامسة من باب المفاعلة، ولا تكون إلا من اثنين، واللمس باليد إنما يكون من واحد؛ فثبت أن الملامسة هي الجماع. قلنا: الملامسة مقتضاها التقاء البشرتين؛ سواء كان ذلك من واحد أو من اثنين؛ لأن كل واحد منهما يوصف لامسٌ وملموس.

جواب آخر ـ وهو أن الملامسة قد تكون من واحد؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، والثوب ملموس وليس بلامس؛ وقد قال ابن عمر مُخْبراً عن نفسه «وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام». وتقول العرب: عاقبت اللص وطارقت النعل، وهو كثير.

فإن قيل: لما ذكر الله سبحانه سبب الحَدث، وهو المجيء من الغائط ذَكر سبب الجنابة وهو الملامسة؛ فبيّن حكم الحَدَث والجنابة عند عدم الماء، كما أفاد بيان حكمهما عند وجود الماء. قلنا: لا نمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس، ويفيد الحكمين كما بيّنا. وقد قرىء «لمَسْتم» كما ذكرنا. وأما ما ذهب إليه الشافعي من لمس الرجل المرأة ببعض أعضائه لا حائل بينه وبينها لشهوة أو لغير شهوة وجب عليه الوضوء فهو ظاهر القرآن أيضاً؛ وكذلك إن لمَسَته هي وجب عليه الوضوء، إلا الشّعر؛ فإنه لا وضوء لمن مسّ شعر امرأته لشهوة كان أو لغير شهوة، وكذلك السنّ والظفر؛ فإن ذلك مخالف للبشرة. ولو احتاط فتوضأ إذا مس شعرها كان حسناً. ولو مسّها بيده أو مسّته بيدها من فوق الثوب فالتذّ بذلك أو لم يلتذ لم يكن عليهما شيء حتى يُفضِي إلى البشرة، وسواء في ذلك كان متعمداً أو ساهياً، كانت المرأة حية أو ميتة إذا كانت أجنبية. واختلف قوله إذا لَمَس صبيّة صغيرة أو عجوزاً كبيرة بيده أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحّل له نكاحها، فمرّة قال: ينتقض الوضوء؛ لقوله تعالى: { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } فلم يفرق. والثاني لا يُنقض؛ لأنه لا مدخل للشهوة فيهنّ. قال المَرْوَزي: قول الشافعي أشبه بظاهر الكتاب؛ لأن الله عزّ وجلّ قال: { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } ولم يقل بشهوة ولا من غير شهوة؛ وكذلك الذين أوْجبوا الوضوء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترطوا الشهوة. قال: وكذلك عامة التابعين. قال المَرْوَزي: فأمّا ما ذهب إليه مالك من مراعاة الشهوة وٱللذّة من فوق الثوب يوجب الوضوء فقد وافقه على ذلك الّليث بن سعد، ولا نعلم أحداً قال ذلك غيرهما. قال: ولا يصحّ ذلك في النظر؛ لأن من فعل ذلك فهو غير لامسٍ لامرأته، وغير مُمَاسَ لها في الحقيقة، إنما هو لامس لثوبها. وقد أجمعوا أنه لو تلذذ واشتهى أن يلمِس لم يجب عليه وضوء؛ فكذلك من لمس فوق الثوب لأنه غير مماس للمرأة.

قلت: أمّا ما ذُكر من أنه لم يوافق مالكا على قوله إلا الّليث بن سعد، فقد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبدالبر أن ذلك قول إسحاق وأحمد، ورُوي ذلك عن الشَّعْبي والنَّخعي كلهم قالوا: إذا لمس فآلتذّ وجب الوضوء، وإن لم يلتذّ فلا وضوء. وأما قوله: "ولا يصح ذلك في النظر" فليس بصحيح؛ وقد جاء في صحيح الخبر عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قِبْلته، فإذا سَجَد غَمَزَني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما ثانياً، قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. فهذا نصّ في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الملامس، وأنه غَمَزَ رجلْي عائشة؛ كما في رواية القاسم عن عائشة «فإذا أراد أن يسجد غمز رجليّ فقبضتهما» أخرجه البخاري. فهذا يخصّ عموم قوله؛ «أو لامستم» فكان واجباً لظاهر الآية انتقاض وضوء كل ملامس كيف لامس. ودلّت السّنة التي هي البيان لكتاب الله تعالى أن الوضوء على بعض الملامسين دون بعض، وهو من لم يلتذ ولم يقصِد. ولا يقال: فلعلّه كان على قدمي عائشة ثوب، أو كان يضرِب رجليها بُكّمه، فإنا نقول: حقيقة الغَمْز إنما هو باليد ومنه غَمْزُك الكبش أي تَجُسه لتنظر أهو سمين أم لا فأما أن يكون الغَمز الضَّرْب بالْكُمّ فلا. والرِّجل من النائم الغالبُ عليها ظهورها من النائم؛ لا سِيما مع امتداده وضيق حاله. فهذه كانت الحال في ذلك الوقت؛ ألا ترى إلى قولها: «وإذا قام بسطتهما» وقولها: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح». وقد جاء صريحا عنها قالت: «كنت أمدّ رجليَّ في قِبْلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فإذا سجد غمزِني فرفعتهما، فإذا قام مددتهما» أخرجه البخاري. فظهر أن الغمز كان على حقيقته مع المباشرة. ودليل آخر ـ وهو ما روته عائشة أيضاً رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان؛ الحديثَ. فلمّا وضعت يدها على قدمه وهو ساجد وتمادَى في سجوده كان دليلا على أن الوضوء لا ينتقض إلا على بعض الملامسين دون بعض.

فإن قيل: كان على قدمه حائل كما قاله المُزَنّى. قيل له: القَدَم قَدمٌ بلا حائل حتى يثبت الحائل، والأصل الوقوف مع الظاهر؛ بل بمجموع ما ذكرنا يجتمع منه كالنّص.

فإن قيل: فقد أجمعت الأمّة على أن رجلا لو استكره امرأة فمّس خِتانه خِتانها وهي لا تلتذّ لذلك؛ أو كانت نائمة فلم تلتذ ولم تشته أن الغسْل واجب عليها؛ فكذلك حكم من قّبل أو لامس بشهوة أو لغير شهوة انتقضت طهارته ووجب عليه الوضوء؛ لأن المعنى في الجّسة والّلمس والقُبلة الفعُل لا الّلذة. قلنا: قد ذكرنا أن الأعمش وغيره قد خالف فيما ادّعيتموه من الإجماع. سلمناه لكن هذا استدلال بالإجماع في محل النزاع فلا يلزم؛ وقد استدللنا على صحة مذهبنا بأحاديث صحيحة. وقد قال الشافعي ـ فيما زعمتم ـ إنه لم يُسبق إليه، وقد سبقه إليه شيخه مالك؛ كما هو مشهور عندنا «إذا صحّ الحديث فخذوا به ودعوا قولي» وقد ثبت الحديث بذلك فَلِم لا تقولون به؟ ٰ ويلزم على مذهبكم أن من ضرب امرأته فلطمها بيده تأديباً لها وإغلاظاً عليها أن ينتقض وضوءه؛ إذ المقصود وجود الفعل، وهذا لا يقوله أحد فيما أعلم، والله أعلم. وروى الأئمة مالك وغيرهُ "أنه صلى الله عليه وسلم: كان يُصلي وأُمَامَة بنت أبي العاص ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه، فإذا رَكع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها" . وهذا يردّ ما قاله الشافعي في أحد قوليه: لو لمس صغيرة لانتقض طهره تمسّكا بلفظ النساء، وهذا ضعيف؛ فإنّ لمس الصغيرة كلمس الحائط. واختلف قوله في ذوات المحارم لأجل أنه لا يعتبر اللذّة، ونحن اعتبرنا اللذّة فحيث وُجِدَت وُجِد الحكم، وهو وجوب الوضوء. وأما قول الأوزاعي في اعتباره اليد خاصّة؛ فلأن الّلمس أكثر ما يستعمل باليد، فقَصَره عليه دون غيره من الأعضاء؛ حتى أنه لو أدخل الرجل رجليه في ثياب امرأته فمسّ فرجها أو بطنها لا ينتقض بذلك وضوء. وقال في الرجل يقبّل امرأته: إن جاء يسألني قلت يتوضأ، وإن لم يتوضأ لم أعبه. وقال أبو ثَوْر: لا وضوء على من قبّل آمرأته أو باشرها أو لمسها. وهذا يُخرّج على مذهب أبي حنيفة، والله أعلم.

السابعة والعشرون ـ قوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } الأسباب التي لا يجد المسافرُ معها الماءَ هي إما عدمه جملة أو عدم بعضه، وإما أن يخاف فوات الرفيق، أو على الرحل بسبب طلبه، أو يخاف لصوصا أو سباعا، أو فوات الوقت، أو عطشا على نفسه أو على غيره؛ وكذلك لطبيخ يَطْبِخُه لمصلحة بدنه؛ فإذا كان أحد هذه الأشياء تيّمم وصلّى. ويترتب عدمه للمريض بألا يجد من يناوله، أو يخاف من ضرره. ويترتب أيضاً عدمه للصّحيح الحاضر بالغَلاء الذي يَعُم جميع الأصناف، أو بأن يُسجَن أو يربط. قال الحسن: يشتري الرجل الماء بماله كلّه ويبقى عديماً، وهذا ضعيف، لأن دين الله يُسْر. وقالت طائفة: يشتريه ما لم يَزِد على القيمة الثلث فصاعداً. وقالت طائفة: يشتري قيمة الدّرهم بالدّرهمين والثلاث ونحو هذا؛ وهذا كله في مذهب مالكرحمه الله . وقيل لأشهب: أتُشتَرى القِربة بعشرة دراهم؟ فقال: ما أرى ذلك على الناس. وقال الشافعي بعدم الزيادة.

الثامنة والعشرون ـ واختلف العلماء هل طلبُ الماء شرط في صحة التيمم أم لا؟ فظاهر مذهب مالك أن ذلك شرط؛ وهو قول الشافعي. وذهب القاضي أبومحمد بن نصر إلى أن ذلك ليس بشرط في صحة التيمّم وهو قول أبي حنيفة. ورُوي عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر على غْلوتين من طريقه فلا يَعدِل إليه. قال إسحاق: لا يلزمه الطلب إلا في موضعه، وذكر حديث ابن عمر، والأوّل أصحّ وهو المشهور من مذهب مالك في الموطأ لقوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } وهذا يقتضي أن التّيممّ لا يُستعمل إلا بعد طلب الماء. وأيضاً من جهة القياس أن هذا بدل مأمورٌ به عند العجز عن مُبْدَله، فلا يجزِىء فعله إلا مع تيقّن عدم مُبْدَله؛ كالصوم مع العتق في الكفارة.

التاسعة والعشرون ـ وإذا ثبت هذا وعُدِم الماء فلا يخلو أن يغلب على ظنّ المكلّف اليأسُ من وجوده في الوقت. أو يغلب على ظنّه وجوده ويَقْوَى رجاؤه له، أو يتساوى عنده الأمران؛ فهذه ثلاثة أحوال:

فالأوّل ـ يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت؛ لأنه إذا فاتته فضيلة الماء فإنه يستحب له أن يُحْرِزَ فضيلة أوّل الوقت.

الثاني ـ يتيمم وسط الوقت؛ حكاه أصحاب مالك عنه، فيؤخِرّ الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم تَفُته فضيلة أول الوقت؛ فإن فضيلة أوّل الوقت قد تدرك بوسَطه لقُرْبه منه.

الثالث ـ يؤخَر الصّلاة إلى أن يجد الماء في آخر الوقت؛ لأن فضيلة الماء أعظم من فضيلة أوّل الوقت. لأن فضيلة أول الوقت مختلف فيها، وفضيلة الماء متفق عليها، وفضيلة أوّل الوقت يجوز تركها دون ضرورة ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلا لضرورة، والوقت في ذلك هو آخر الوقت المختار؛ قاله ابن حبيب. ولو عَلِم وجود الماء في آخر الوقت فتيّمم في أوّله وصلّى فقد قال ابن القاسم: يُجزِئه، فإن وجد الماء أعاد في الوقت خاصّة. وقال عبد الملك بن الماجِشُون: إن وجد الماء بعد أعاد أبداً.

الموفية ثلاثين ـ والذي يُراعى من وجود الماء أن يجِد منه ما يكفيه لطهارته، فإن وجد أقل من كفايته تيّمم ولم يستعمل ما وجد منه. وهذا قول مالك وأصحابه؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن الله تعالى جعل فرضه أحد الشيئين، إمّا الماءُ وإمّا الترابُ. فإن لم يكن الماء مُغنِياً عن التيمّم كان غير موجود شرعاً، لأن المطلوب من وجوده الكفاية. وقال الشافعي في القول: الآخر: يستعمل ما معه من الماء ويتيمّم؛ لأنه واجِد ماءً فلم يتحقق شرط التيمم؛ فإذا استعمله وفَقَد الماء تيمم لمّا لم يجد. واختلف قول الشافعي أيضاً فيما إذا نَسي الماء في رحلهِ فتيمم؛ والصحيح أنه يعيد، لأنه إذا كان الماء عنده فهو واجد وإنما فَرّط. والقول الآخر لا يعيد؛ وهو قول مالك؛ لأنه إذا لم يعلمه فلم يجده.

الحادية والثلاثون ـ وأجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغيّر لقوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } فقال: هذا نفيٌ في نكرة، وهو يَعمّ لغة؛ فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغيّر وغير المتغيّر؛ لانطلاق اسم الماء عليه. قلنا: النْفي في النكرة يَعُمّ كما قلتم، ولكن في الجنس، فهو عام في كل ماءٍ كان من سماء أو نهر أو عينٍ عذبٍ أو ملح. فأما غير الجنس وهو المتغيّر فلا يدخل فيه؛ كما لا يدخل فيه ماء البَاقِلاّء ولا ماء الورد، وسيأتي حكم المياه في «الفرقان» إن شاء الله تعالى.

الثانية والثلاثون ـ وأجمعوا على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء؛ وقوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } يردّه. والحديث الذي فيه ذكر الوضوء بالنبيذ رواه ابن مسعود، وليس بثابت؛ لأن الذي رواه أبو زيد، وهو مجهول لا يعرف بصحبة عبدالله؛ قاله ابن المنذر وغيره. وسيأتي في «الفرقان» بيانه إن شاء الله تعالى.

الثالثة والثلاثون ـ الماء الذي يبيح عدمه التيمم هو الطاهر المطهّر الباقي على أوصاف خِلقته. وقال بعض من ألّف في أحكام القرآن لما قال تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } فإنما أباح التّيّمم عند عدم كل جزء من ماء؛ لأنه لفظ مُنكر يتناول كل جزء منه، سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه. ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء؛ فلما كان كذلك لم يجز التيمم مع وجوده. وهذا مذهب الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه؛ واستدلوا على ذلك بأخبار ضعيفة يأتي ذكرها في سورة «الفرقان»، وهناك يأتي القول في الماء إن شاء الله تعالى.

الرابعة والثلاثون ـ قوله تعالى: { فَتَيَمَّمُواْ } التّيمّم مما خُصّت به هذه الأمّة توسعة عليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً" فذكر الحديث. وقد تقدم ذكر نزوله، وذلك بسبب القِلادة حسبما بيّناه. وقد تقدّم ذكر الأسباب التي تبيحه، والكلام ها هنا في معناه لغة وشرعا، وفي صفته وكيفيته وما يتيمّم به وله، ومن يجوز له التّيمّم، وشروط التّيمّم إلى غير ذلك من أحكامه.

فالتّيمّم لغة هو القصد. تيمّمت الشيء قصدته، وتيّممت الصعيد تعمدته، وتيمّمْتُه برُمحي وسهمي أي قصدته دون مَن سواه. وأنشد الخليل:

يمّمته الرّمح شَزْرا ثم قلت لههذي البَسَالة لا لِعْب الزَّحاليق

قال الخليل: من قال في هذا البيت أممته فقد أخطأ؛ لأنه قال؛ «شَزْرا» ولا يكون الشزر إلا من ناحية ولم يقصد به أمامه. وقال امرؤ القيس:

تيممتها من أذرِعاتٍ وأهلُهابَيثْرِب أدْنَى دارِها نظرٌ عالٍ

وقال أيضاً:

تيمّمتِ العينَ التي عند ضارِجٍيَفىءُ عليها الظلُّ عَرْمَضُها طامي

آخر:

إنِّي كذاك إذا ما ساءني بلدٌيمّمت بعيري غيره بلدا

وقال أعشى باهلة:

تيممت قيساً وكم دونهمن الأرض من مَهْمَهٍ ذي شزن

وقال حُميد بن ثَوْر:

سِلِ الرَّبْعَ أنَّي يَمّمت أمَّ طارقٍوهل عادةٌ للرّبِع أن يتكلّما

وللشافعي رضي الله عنه:

عِلمي معي حيثما يمّمتُ أحمِلهبطني وِعاءٌ له لا بطن صنْدوق

قال ابن السِّكّيت: قوله تعالى: { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } أي اقصِدوا؛ ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم مسحَ الوجه واليدين بالتراب. وقال ابن الأنباري في قولهم: «قد تيمم الرجل» معناه قد مسح التراب على وجهه ويديه.

قلت: وهذا هو التيمم الشرعيّ، إذا كان المقصود به القُربة. ويممت المريض فتيمَّمَ للصلاة. ورجل مُيَمَّم يظفر بكلّ ما يطلب؛ عن الشيباني. وأنشد:

إنا وجدنا أعْصُرَ بن سعدمُيَمَّم البيت رفيعَ المجدِ

وقال آخر:

أزْهَر لم يولَد بِنجم الشُّحِّمُيَمَّم البيت كريم السَّنْح

الخامسة والثلاثون ـ لفظ التيمم ذكره الّله تعالى في كتابه في «البقرة» وفي هذه السورة و «المائدة» والتي في هذه السورة هي آية التيمم. والله أعلم. وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: هذه مُعْضِلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد؛ هما آيتان فيهما ذكر التيمم إحداهما في «النساء» والأخرى في «المائدة». فلا نعلم أيْة آية عَنَت عائشة بقولها: «فأنزل الله آية التيمم». ثم قال: وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم.

قلت: أما قوله: «فلا نعلم أيّة آية عَنَت عائشة» فهي هذه الآية على ما ذكرنا. والله أعلم. وقوله: «وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم» فصحيح ولا خلاف فيه بين أهل السِّيرَ؛ لأنه معلوم أن غسل الجنابة لم يُفترض قبل الوضوء، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ ٱفتُرِضت عليه الصلاة بمكة لم يُصَلّ إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم. فدل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدّم متلُواً في التنزيل. وفي قوله: "فنزلت آية التيمم" ولم يقل آية الوضوء ما يبين أن الذي طرأ لهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء؛ وهذا بيّن لا إشكال فيه.

السادسة والثلاثون ـ التيمم يلزم كل مكلّف لزمته الصلاة إذا عدِم الماء ودخل وقت الصلاة. وقال أبو حنيفة وصاحباه والمُزِني صاحب الشافعي: يجوز قبله؛ لأن طلب الماء عندهم ليس بشرطٍ قياسا على النافلة؛ فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضاً للفريضة. واستدلوا من السنة بقوله عليه السلام لأبي ذَرّ: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج" . فسمى عليه السلام الصعيد وضوءا كما يسمّى الماء؛ فحكمه إذاً حكم الماء. والله أعلم. ودليلنا قوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } ولا يقال: لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد. وقد تقدم هذا المعنى؛ ولأنها طهارةُ ضرورةٍ كالمستحاضة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فأينما أدركتك الصلاة تيممت وصليت" . وهو قول الشافعي وأحمد، وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس.

السابعة والثلاثون ـ وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء عاد جنباً كما كان أو مُحْدِثا؛ لقوله عليه السلام لأبي ذَرّ: "إذا وجدت الماء فأمسّه جلدك" إلا شيء رُوِي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، رواه ابن جُريج وعبد الحميد بن جُبير بن شيبة عنه؛ ورواه ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن حَرْملة عنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء وهو على طهارته: لا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يُحدِث. وقد روى عنه فيمن تيمم وصلّى ثم وجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ويعيد تلك الصلاة.قال ابن عبد البر: وهذا تناقض وقلّة رويّة، ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة.

الثامنة والثلاثون ـ وأجمعوا على أن من تيمم ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه، وعليه استعمال الماء. والجمهور على أن من تيمم وصلّى وفرغ من صلاته، وقد كان اجتهد في طلبه الماء ولم يكن في رَحلِه أن صلاته تامة لأنه أدّى فرضه كما أمر. فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة. ومنهم من استحب له أن يعيد في الوقت إذا توضأ واغتسل. ورُوِي عن طاووس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزُّهري وربيعة كلهم يقول: يعيد الصلاة. وآستحب الأوزاعي ذلك وقال: ليس بواجب؛ لما رواه أبو سعيد الخُدْري قال: "خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يُعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين" . أخرجه أبو داود وقال: وغير (ابن) نافع يرويه عن اللّيث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذِكْر أبي سعيد في هذا الإسناد ليس بمحفوظ. وأخرجه الدّارَقُطْني وقال فيه؛ ثم وجد الماء بعد (في) الوقت.

التاسعة والثلاثون ـ واختلف العلماء إذا وجد الماء بعد دخوله في الصلاة فقال مالك: ليس عليه قطع الصلاة واستعمالُ الماء ولِيُتِمّ صلاته وليتوضأ لما يُستقبل: وبهذا قال الشافعي واختاره ابن المُنْذر. وقال أبو حنيفة وجماعة منهم أحمد بن حنبل والمُزَني: يقطع ويتوضأ ويستأنف الصلاة لوجود الماء. وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة فكذلك يبطل ما بقي منها، وإذا بطل بعضها بطل كلّها؛ لإجماع العلماء على أن المعتدة بالشهور لا يبقى عليها إلا أقلّها ثم تحيض أنها تستقبل عدّتها بالحيض. قالوا: والذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة كذلك قياسا ونظرا. ودليلنا قوله تعالى: { { وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ } [محمد: 33]. وقد اتفق الجميع على جواز الدخول في الصلاة بالتيمم عند عدم الماء، واختلفوا في قطعها إذا رؤي الماء؛ ولم تثبت سُنّة بقطعها ولا إجماع. ومن حجتهم أيضاً أن من وجب عليه الصوم في ظِهارٍ أو قتل فصام منه أكثره ثم وجد رقبة لا يلغي صومه ولا يعود إلى الرقبة. وكذلك من دخل في الصلاة بالتيمم لا يقطعها ولا يعود إلى الوضوء بالماء.

الموفية أربعين ـ واختلفوا هل يُصلّى به صلوات أم يلزم التيمم لكل صلاة فرضٍ ونفل؛ فقال شُريك بن عبدالله القاضي: يتيمم لكل صلاة نافلة وفريضة. وقال مالك: لكل فريضة؛ لأن عليه أن يبتغي الماء لكل صلاة، فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم. وقال أبو حنيفة والثوري والّليث والحسن بن حي وداود: يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث؛ لأنه طاهر ما لم يجد الماء، وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه. وما قلناه أصح؛ لأن الله عز وجل أوجب على كل قائم إلى الصلاة طلب الماء، وأوجب عند عدمه التيمم لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت، فهي طهارة ضرورةٍ ناقصةٌ بدليل إجماع المسلمين على بطلانها بوجود الماء وإن لم يحدث؛ وليس كذلك الطهارة بالماء. وقد ينبني هذا الخلاف أيضاً في جواز التيمم قبل دخول الوقت؛ فالشافعي وأهل المقالة الأولى لا يجوّزونه؛ لأنه لما قال الله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } ظهر منه تعلّق أجزاء التيمم بالحاجة، ولا حاجة قبل الوقت. وعلى هذا لا يصلّى فرضين بتيمم واحد، وهذا بيّن. واختلف علماؤنا فيمن صلّى صلاتي فرض بتيمم واحد؛ فروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم: يعيد الثانية ما دام في الوقت. وروى أبو زيد بن أبي الغمر عنه: يعيد أبداً. وكذلك رُوِي عن مُطَرِّف وابن الماجِشون يعيد الثانية أبداً. وهذا الذي يناظر عليه أصحابنا؛ لأن طلب الماء شرط. وذكر ابن عَبْدُوس أن ابن نافع روى عن مالك في الذي يجمع بين الصلاتين أنه يتيمم لكل صلاة. وقال أبو الفرج فيمن ذكر صلواتٍ: إنْ قضاهن بتيمم واحد فلا شيء عليه وذلك جائز له. وهذا على أن طلب الماء ليس بشرط. والأوّل أصح. والله أَعلم.

الحادية والأربعون ـ قوله تعالى: { صَعِيداً طَيِّباً } الصعيد: وجه الأرض كان عليه تراب أو لم يكن؛ قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج. قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة، قال الله تعالى: { { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [الكهف: 8] أي أرضا غليظة لا تنبت شيئاً. وقال تعالى: { { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } [الكهف: 40]. ومنه قول ذي الرمة:

كأنّه بالضّحَى ترمي الصعِيدَ به دبّابة في عظام الرأس خُرْطُومُ

وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يُصْعَد إليه من الأرض. وجمع الصعيد صُعُدات؛ ومنه الحديث: "إياكم والجلوسَ في الصُعدات" . واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيبَّ؛ فقالت طائفة: يتيمم بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سَبخة. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري والطبري. «وطيبا» معناه طاهرا. وقالت فرقة: «طيبا» حلالا؛ وهذا قلق. وقال الشافعي وأبو يوسف: الصعيد للتراب المنبت وهو الطيب؛ قال الله تعالى: { { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [الأعراف: 58] فلا يجوز التيمم عندهم على غيره. وقال الشافعي: لا يقع الصعيد إلاّ على تراب ذي غُبار. وذكر عبدالرزاق عن ابن عباس أنه سئل أي الصعيد أطيب؟ فقال الحَرْث. قال أبو عمر: وفي قول ابن عباس هذا ما يدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث. وقال علي رضي الله عنه: هو التراب خاصة. وفي كتاب الخليل: تيمم بالصعيد، أي خذ من غباره؛ حكاه ابن فارس. وهو يقتضي التيمم بالتراب فإن الحجر الصّلد لا غبار عليه. وقال الكِيَا الطبري: واشترط الشافعي أن يَعْلَق التراب باليد ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء. قال الكِيَا: ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصا فيما قاله الشافعي، إلاّ أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جُعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً" بيّن ذلك.

قلت: فاستدل أصحاب هذه المقالة بقوله عليه السلام: "وجعلت تربتها لنا طهوراً" وقالوا: هذا من باب المُطْلَق والمُقَيَّد وليس كذلك، وإنما هو من باب النصّ على بعض أشخاص العموم كما قال تعالى: { { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [الرحمن: 68] وقد ذكرناه في «البقرة» عند قوله { { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [البقرة: 98]. وقد حكى أهل اللغة أن الصعيد اسم لوجه الأرض كما ذكرنا، وهو نصّ القرآن كما بينا، وليس بعد بيان الله بيان. "وقال صلى الله عليه وسلم للجنب: عليك بالصعيد فإنه يكفيك" وسيأتي. فـ «صَعِيداً» على هذا ظرف مكان. ومن جعله للتراب فهو مفعول به بتقدير حذف الباء أي بصعيد. و «طيبا» نعت له. ومن جعل «طيبا» بمعنى حلالاً نصبه على الحال أو المصدر.

الثانية والأربعون ـ وإذا تقرّر هذا فاعلم أن مكان الإجماع مما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب. ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصِّرف والفضة والياقوت والزُّمُرُّد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن؛ فأجيز وهو مذهب مالك وغيره. ومُنع وهو مذهب الشافعي وغيره. وقال ابن خُوَيْزِ مَنْدَادَ: ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، واختلف عنه في التيمم على الثلج ففي المدوّنة والمبسوط جوازه، وفي غيرهما منعه. واختلف المذهب في التيمم على العُود؛ فالجمهور على المنع. وفي مختصر الوَقَار أنه جائز. وقيل: بالفرق بين أن يكون منفصلا أو متصلا فأجيز على المتصل ومنع في المنفضل. وذكر الثعلبي أن مالكا قال: لو ضرب بيده على شجرة ثم مسح بها أجزأه. قال: وقال الأوْزاعي والثَّوْرِي: يجوز بالأرض وكل ما عليها من الشجر والحجر والمَدَر وغيرها، حتى قالا: لو ضرب بيده على الجَمَد والثلج أجزأه. قال ابن عطية: وأما التراب المنقول من طين أو غيره فجمهور المذهب على جواز التيمم به، وفي المذهب المنع وهو في غير المذهب أكثر، وأما ما طُبِخ كالجصّ والآجُرّ ففيه في المذهب قولان: الإجازة والمنع؛ وفي التيمم على الجدار خلاف.

قلت: والصحيح الجواز لحديث أبي جُهيم بن الحارث بن الصَّمّة الأنصاري قال: "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقِيه رجل فسلم عليه، فلم يردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم ردّ عليه السلام" . أخرجه البخاري. وهو دليل على صحة التيمم بغير التراب كما يقوله مالك ومن وافقه. ويردّ على الشافعي ومن تابعه في أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار يَعلَق باليد. وذكر النقّاش عن ابن عُلَيّة وابن كَيْسان أنهما أجازا التيمم بالمِسْك والزّعفران. قال ابن عطية: هذا خطأ بَحْت من جهات. قال أبو عمر: وجماعة العلماء على إجازة التيمم بالسباخ إلا إسحاق بن رَاهْوَيْه. ورُوي عن ابن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين قال يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده، فإذا جفّ تيمم به. وقال الثَوْرِي وأحمد: يجوز التيمم بغبار الِّلبد. قال الثعلبي: وأجاز أبو حنيفة التيمّم بالكُحْل والزِّرنيخ والنُّورة والجص والجوهر المسحوق. قال: فإذا تيمم بسُحالة الذهب والفضة والصُّفر والنحاس والرصاص لم يجزه؛ لأنه ليس من جنس الأرض.

الثالثة والأربعون ـ قوله تعالى؛ { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } المسح لفظ مشترك يكون بمعنى الجماع، يقال: مسح الرجل المرأة إذا جامعها. والمسح: مسح الشيء بالسيف وقطعه به. ومسحت الإبل يومها إذا سارت. والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا آسْت لها. وبفلان مَسْحة من جمالٍ. والمراد هنا بالمسح عبارةٌ عن جرّ اليد على الممسوح خاصّة فإن كان بآلة فهو عبارة عن نقل الآلة إلى اليد وجرها على الممسوح، وهو مقتضى قوله تعالى: في آية المائدة: { { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } [المائدة: 6]. فقوله «منه» يدل على أنه لا بدّ من نقل التراب إلى محل التيمم. وهو مذهب الشافعي ولا نشترطه نحن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع يديه على الأرض ورفَعهما نفخ فيهما؛ وفي رواية؛ نفض. وذلك يدل على عدم اشتراط الآلة؛ يوضّحه تيممه على الجدار. قال الشافعي: لما لم يكن بُدٌّ في مسح الرأس بالماء من بَلَلٍ ينقل إلى الرأس، فكذلك المسح بالتراب لا بُدّ من النقل. ولا خلاف في أن حكم الوجه في التيمم والوضوء الاستيعابُ وتتبع مواضعه وأجاز بعضهم ألا يتتبّع كالغضون في الخفّيْن وما بين الأصابع في الرأس، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة؛ حكاه ابن عطية: وقال الله عز وجل: { بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } فبدأ بالوجه قبل اليدين وبه قال الجمهور. ووقع في البُخاري من حديث عمّار في «باب التيمم ضربة» ذِكْرُ اليدين قبل الوجه. وقاله بعض أهل العلم قياسا على تنكيس الوضوء.

الرابعة والأربعون ـ واختلف العلماء أين يبلغ بالتيمم في اليدين؛ فقال ابن شهاب: إلى المناكب. رُوِي عن أبي بكر الصديق. وفي مصنّف أبي داود عن الأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح إلى أنصاف ذراعيه. قال ابن عطية: ولم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت. وقيل: يبلغ به إلى المرفقين قياسا على الوضوء. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثَّوري وابن أبي سلمة والّليث كلهم يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا. وبه قال محمد بن عبدالله بن عبد الحكم وابن نافع، وإليه ذهب إسماعيل القاضي. قال ابن نافع: من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبداً. وقال مالك في المدوّنة: يعيد في الوقت. ورَوى التيمّم إلىٰ المرفقين عن النبي صلى الله عليه وسلم جابرُ بن عبدالله وابن عمر وبه كان يقول. قال الَّدارَقُطْني: سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال: كان ابن عمر يقول إلىٰ المرفقين. وكان الحسن وإبراهيم النَّخَعِي يقولان إلى المرفقين. قال: وحدّثني محدِّث عن الشَّعْبي عن عبدالرحمن بن أبْزَى عن عَمّار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إلى المرفقين" . قال أبو إسحاق: فذكرته لأحمد بن حنبل فعجب منه وقال ما أحسَنَه!. وقالت طائفة؛ يبلغ به إلى الكوعين وهما الرّسغان. رُوي عن علي بن أبي طالب والأوزاعيّ وعطاء والشّعْبي في رواية، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن رَاهْوَيه وداود بن علي والطبري. ورُوي عن مالك وهو قول الشافعي في القديم. وقال مَكْحُول: اجتمعتُ أنا والزُّهرِي فتذاكرنا التيمم فقال الزُّهْري: المسح إلى الآباط. فقلت: عمن أخذت هذا؟ فقال: عن كتاب الله عز وجل، إن الله تعالى يقول: { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } فهي يد كلها. قلت له: فإن الله تعالى يقول: { { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38] فمن أين تقطع اليد؟ قال: فخصمته. وحُكي عن الدّراوَرْدِي أن الكوعين فرض والآباط فضيلة. قال ابن عطية: هذا قول لا يعضده قياس ولا دليل وإنما عمم قوم لفظ اليد فأوجبوه من المنكب: وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق وههنا جمهور الأمة، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين، وقِيس أيضاً على القطع إذ هو حكم شرعي وتطهير كما هذا تطهير، ووقف قوم مع حديث عمّار في الكفين. وهو قول الشّعْبي.

الخامسة والأربعون ـ واختلف العلماء أيضاً هل يكفي في التيمم ضربةٌ واحدة أم لا؟ فذهب مالك في المدّونة أن التيمم بضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين؛ وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم، والثّوْري والّليث وابن أبي سلمة. ورواه جابر بن عبدالله وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن أبي الجهم؛ التيمم بضربة واحدة. ورُوي عن الأوزاعي في الأشهر عنه؛ وهو قول عطاء والشعبي في رواية. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري. وهو أثبت ما روي في ذلك من حديث عمار. قال مالك في كتاب محمد: إن تيمم بضربة واحدة أجزأه. وقال ابن نافع: يعيد أبداً. قال أبو عمر وقال ابن أبي لَيْلَى والحسن بن حّي: ضربتان؛ يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه. ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما. قال أبو عمر: لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب، وهو يدل على ضربتين ضربة للوجه، ولليدين أخرى إلى المرفقين، قياسا على الوضوء واتباعاً لفعل ابن عمر؛ فإنه من لا يدفع علمه بكتاب الله. ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء وجب الوقوف عنده. وبالله التوفيق.

قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } أي لم يزل كائناً يقبل العفو وهو السهل، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته فلا يعاقب.