خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً
٧
-النساء

الجامع لاحكام القرآن

فيه خمس مسائل:

الأولى ـ لما ذكر الله تعالى أمر اليتامى وصله بذكر المواريث. ونزلت الآية في أوس بن ثابت الأنصاري، توفي وترك امرأة يقال لها: أمّ كُجَّة وثلاث بنات له منها؛ فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصِياه يقال لهما: سُويْد وعرْفَجَة؛ فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئاً، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكراً، ويقولون: لا يُعطَى إلا من قاتل على ظهور الخيل، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة. فذكرت أمّ كُجّة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما، فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرساً، ولا يحمل كَلاًّ ولا يَنْكَأُ عدوّا. فقال عليه السلام: "انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن" . فأنزل الله هذه الآية ردّا عليهم، وإبطالاً لقولهم وتصرفهم بجهلهم؛ فإن الورثة الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحق بالمال من الكبار، لعدم تصرفهم والنظر في مصالحهم، فعكسوا الحكم، وأبطلوا الحِكمة فضلوا بأهوائهم، وأخطئوا في آرائهم وتصرفاتهم.

الثانية ـ قال علماؤنا: في هذه الآية فوائد ثلاث: إحداهاـ بيان علة الميراث وهي القرابة. الثانية ـ عموم القرابة كيفما تصرّفت من قريب أو بعيد. الثالثة ـ إجمال النصيب المفروض. وذلك مبين في آية المواريث؛ فكان في هذه الآية توطئة للحكم، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي.

الثالثة ـ ثبت أن أبا طلحة لما تصدق بماله ـ بَئرَحَاء ـ وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: " اجعلها في فقراء أقاربك" فجعلها لحسّان وأبي. قال أنس: وكانا أقرب إليه منِّي. قال أبو داود: بلغني عن محمد بن عبدالله الأنصاري أنه قال: أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي ابن عمرو بن مالك بن النجار. وحسّان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان في الأب الثالث وهو حرام. وأبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار. قال الأنصاري؛ بين أبي طلحة وأبي ستة آباء. قال: وعمرو بن مالك يجمع حسان وأبيّ بن كعب وأبا طلحة. قال أبو عمر في هذا ما يقضي على القرابة أنها ما كانت في هذا القُعْدُدِ ونحوه، وما كان دونه فهو أحرى أن يلحقه اسم القرابة.

الرابعة ـ قوله تعالى: { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } أثبت الله تعالى للبنات نصيباً في الميراث ولم يبين كم هو؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سُوَيد وعَرْفَجة ألاّ يفرّقا من مال أَوسٍ شيئاً؛ فإن الله جعل لبناته نصيباً ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا. فنزلت { { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلاَدِكُمْ } [النساء: 11] إلى قوله تعالى { { ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [النساء: 13] فأرسل إليهما "أن أعطيا أم كُجَّة الثُّمن مما ترك أَوسٌ ولبناته الثلثين، ولكما بقية المال" .

الخامسة ـ استدل علماؤنا بهذه الآية في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله، كالحمام والبيت وبَيْدر الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها. فقال مالك: يقسم ذلك وإن لم يكن في نصيب أحدهم ما ينتفع به؛ لقوله تعالى: { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }. وهو قول ابن كنانة، وبه قال الشافعي، ونحوه قول أبي حنيفة. قال أبو حنيفة: في الدار الصغيرة. بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبي صاحبه قُسمتْ له. وقال ابن أبي ليلى: إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم. وكل قسم يدخل فيه الضرر على أحدهما دون الآخر فإنه لا يقسم، وهو قول أبي ثَوْر. قال ابن المنذر: وهو أصح القولين. ورواه ابن القاسم عن مالك فيما ذكر ابن العربي. قال ابن القاسم؛ وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمّامات، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم، أن يباع ولا شفعة فيه؛ لقوله عليه السلام: "الشفعة في كل ما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" . فجعل عليه السلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاعُ الحدود، وعلقّ الشفعة فيما لم يُقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه. هذا دليل الحديث.

قلت: ومن الحجة لهذا القول ما خرّجه الدارقطني من حديث ابن جريج أخبرني صديق بن موسى عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تَعْضِيَة على أهل الميراث إلا ما حمل القَسْم" . قال أبو عبيد: هو أن يموت الرجل ويدع شيئاً إن قسم بين ورثته كان في ذلك ضرر على جميعهم أو على بعضهم. يقول: فلا يقسم: وذلك مثل الجَوْهَرة والحمّام والطّيْلسَان وما أشبه ذلك. والتعِضيَةُ التفريق؛ يقال: عضيت الشيء إذا فرقته. ومنه قوله تعالى؛ { { ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } [الحجر: 91] وقال تعالى: { { غَيْرَ مُضَآرٍّ } [النساء: 12] فنفى المضارة. وكذلك قال عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" . وأيضاً فإن الآية ليس فيها تعرّض للقسمة، وإنما اقتضت الآية وجوب الحَظِّ والنصيب للصغير والكبير قليلاً كان أو كثيراً، رداً على الجاهلية فقال: { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ } { وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } وهذا ظاهر جداً. فأما إبراز ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر؛ وذلك بأن يقول الوارث: قد وجب لي نصيب بقول الله عز وجل فمكِّنوني منه؛ فيقول له شريكه: أما تمكينك على الاختصاص فلا يمكن؛ لأنه يؤدي إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال، وتغيير الهيئة، وتنقيص القيمة؛ فيقع الترجيح. والأظهر سقوط القسمة فيما يبطل المنفعة وينقص المال مع ما ذكرناه من الدّليل. والله الموفق.

قال الفرّاء؛ { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } هو كقولك؛ قسماً واجباً، وحقا لازما؛ فهو اسم في معنى المصدر فلهذا انتصب. الزجاج: انتصب على الحال. أي لهؤلاء أنصِباء في حال الفرض. الأخفش: أي جعل الله ذلك لهم نصيباً. والمفروض؛ المقدّر الواحب.