خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٣٣
وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
٣٤
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
٣٥
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٦
-فصلت

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً } هذا توبيخ للذين تواصَوْا باللغو في القرآن. والمعنى: أيّ كلام أحسن من القرآن، ومن أحسن قولاً من الداعي إلى الله وطاعته وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن سيرين والسدي وابن زيد والحسن: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول: هذا رسول الله، هذا حبيب الله، هذا وليّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله؛ أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه. وقالت عائشة رضي الله عنها وعكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد: نزلت في المؤذّنين. قال فضيل بن رفيدة: كنت مؤذناً لأصحاب عبد الله بن مسعود، فقال لي عاصم بن هبيرة: إذا أذّنت فقلت: الله أكبر الله أكبر لا إلٰه إلا الله، فقل وأنا من المسلمين؛ ثم قرأ هذ الآية؛ قال ابن العربي؛ الأول أصح؛ لأن الآية مكية والأذان مدني؛ وإنما يدخل فيها بالمعنى؛ لا أنه كان المقصود وقت القول، ويدخل فيها أبو بكر الصدّيق حين قال في النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد خنقه الملعون { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } [غافر: 28] وتتضمن كل كلام حسن فيه ذكر التوحيد والإيمان.

قلت: وقول ثالث وهو أحسنها؛ قال الحسن: هذه الآية عامة في كل من دعا إلى الله. وكذا قال قيس بن أبي حازم قال: نزلت في كل مؤمن. قال: ومعنى «وَعَمِلَ صَالِحاً» الصلاة بين الأذان والإقامة. وقاله أبو أمامة؛ قال: صلى ركعتين بين الأذان والإقامة. وقال عكرمة: «وَعَمِلَ صَالِحَاً» صلّى وصام. وقال الكلبي: أدى الفرائض.

قلت: وهذا أحسنها مع اجتناب المحارم وكثرة المندوب. والله أعلم. { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } قال ابن العربي: وما تقدّم يدل على الإسلام، لكن لما كان الدعاء بالقول والسيف يكون للاعتقاد ويكون للحجة، وكان العمل يكون للرياء والإخلاص، دل على أنه لا بدّ من التصريح بالاعتقاد لله في ذلك كله، وأن العمل لوجهه.

مسألة: لما قال الله تعالى: { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } ولم يقل له اشترط إن شاء الله، كان في ذلك رد على من يقول أنا مسلم إن شاء الله.

قوله تعالى: { وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ } قال الفراء: «لاَ» صلة أي «وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ والسَّيِّئَةُ» وأنشد:

ما كان يَرْضَى رسولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُوالطَّيِّبانِ أبو بكر ولا عمرُ

أراد أبو بكر وعمر؛ أي لا يستوي ما أنت عليه من التوحيد، وما المشركون عليه من الشرك. قال ابن عباس: الحسنة لا إلٰه إلا الله، والسيئة الشرك. وقيل: الحسنة الطاعة، والسيئة الشرك. وهو الأول بعينه. وقيل: الحسنة المداراة، والسيئة الغلظة. وقيل: الحسنة العفو، والسيئة الانتصار. وقال الضحاك: الحسنة العلم، والسيئة الفحش. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: الحسنة حبّ آل الرسول، والسيئة بغضهم.

قوله تعالى: { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } نسخت بآية السيف، وبقي المستحب من ذلك: حسن العشرة والاحتمال والإغضاء. قال ابن عباس: أي ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك. وعنه أيضاً: هو الرجل يسبّ الرجل فيقول الآخر إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك. وكذلك يروى في الأثر: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ذلك لرجل نال منه. وقال مجاهد: «بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» يعني السلام إذا لقي من يعاديه؛ وقاله عطاء. وقول ثالث ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في الأحكام وهو المصافحة. وفي الأثر: «تصافحوا يَذهبِ الغِلُّ». ولم ير مالك المصافحة، وقد اجتمع مع سفيان فتكلما فيها فقال سفيان: قد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفراً حين قدم من أرض الحبشة؛ فقال له مالك: ذلك خاص. فقال له سفيان: ما خَصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصّنا، وما عَمّه يعمّنا، والمصافحة ثابتة فلا وجه لإنكارها. وقد روى قتادة قال قلت لأنس: هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. وهو حديث صحيح. وفي الأثر: «من تمام المحبة الأخذ باليد». ومن حديث محمد بن إسحاق وهو إمام مقدّم، عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرياناً يجر ثوبه ـ والله ما رأيته عرياناً قبله ولا بعده ـ فاعتنقه وقبّله.

قلت: قد روي عن مالك جواز المصافحة وعليها جماعة من العلماء. وقد مضى ذلك في «يوسف» وذكرنا هناك حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا أُلقيت ذنوبهما بينهما" .

قوله تعالى: { فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } أي قريب صديق. قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له وليًّا بعد أن كان عدوّاً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم فصار وليًّا في الإسلام حميماً بالقرابة. وقيل: هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره الله تعالى بالصبر عليه والصفح عنه، ذكره الماوردي. والأول ذكره الثعلبي والقشيري وهو أظهر؛ لقوله تعالى: { فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }. وقيل: كان هذا قبل الأمر بالقتال. قال ابن عباس: أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوّهم. وروي أن رجلاً شتم قَنْبَراً مولى عليّ بن أبي طالب فناداه عليّ يا قَنَبْر! دع شاتمك، والْه عنه ترضي الرحمن وتسخط الشيطان، وتعاقب شاتمك، فما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه. وأنشدوا:

ولَلْكَفُّ عن شَتْم اللّئيم تَكَرُّماًأَضَرُّ له مِنْ شَتْمِهِ حين يُشْتَمُ

وقال آخر:

وما شَيْءٌ أحَبُّ إلى سفِيهٍإذا سبّ الكَريمَ مِن الْجَوَابِ
مُتَارَكَةُ السّفيهِ بلا جوابٍأَشَدُّ على السَّفِيهِ من السِّبابِ

وقال محمود الورّاق:

سَأُلزِم نفسي الصَّفْحَ عن كلّ مذنِبٍوإن كَثُرتْ منه لَديّ الْجَرائمُ
فما الناس إلاَ واحِدٌ مِن ثلاثةٍشريفٌ ومَشْرُوفٌ ومِثْلٌ مقاومُ
فأما الذي فَوْقي فَأَعْرِفُ قَدْرَهوَأَتْبَعُ فيه الْحَقَّ والْحَقُّ لازِمُ
وأما الذِي دونِي فإنْ قال صُنْتُ عنإِجابتِهِ عِرضِي وإن لاَمَ لائِمُ
وأما الذي مِثلِي فإنْ زَلَّ أو هَفاتَفَضَّلْتُ إنّ الفَضْلَ بالحِلم حاكِمُ

{ وَمَا يُلَقَّاهَا } يعني هذه الفَعلة الكريمة والخصلة الشريفة { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } بكظم الغيظ واحتمال الأذى. { وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي نصيب وافر من الخير؛ قاله ابن عباس. وقال قتادة ومجاهد: الحظ العظيم الجنة. قال الحسن: والله ما عظم حظ قط دون الجنة. وقيل: الكناية في «يُلَقَّاهَا» عن الجنة؛ أي ما يلقاها إلا الصابرون؛ والمعنى متقارب.

قوله تعالى: { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ } تقدّم في آخر «الأعراف» مستوفًى. { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } من كيده وشره { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لاستعاذتك { ٱلْعَلِيمُ } بأفعالك وأقوالك.