خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٥
-الأحقاف

الجامع لاحكام القرآن

فيه سبع مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } بيّن ٱختلاف حال الإنسان مع أبويه، فقد يطيعهما وقد يخالفهما؛ أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض. فهذا وجه ٱتصال الكلام بعضه ببعض؛ قاله القشيريّ.

الثانية ـ قوله تعالى: «حُسْناً» قراءة العامة «حُسْناً» وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقرأ ابن عباس والكوفيون «إحْسَاناً» وحجتهم قوله تعالى في سورة (الأنعام وبني إسرائيل): { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [الإسراء:3 2] وكذا هو في مصاحف الكوفة. وحجة القراءة الأولى قوله تعالى في سورة العنكبوت: { { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } [العنكبوت: 8] ولم يختلفوا فيها. والحُسْن خلاف القُبْح. والإحسان خلاف الإساءة. والتوصية الأمر. وقد مضى القول في هذا وفيمن نزلت.

الثالثة ـ قوله تعالى: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } أي بكره ومشقة. وقراءة العامة بفتح الكاف. وٱختاره أبو عبيد، قال: وكذلك لفظ الكره في كل القرآن بالفتح إلا التي في سورة البقرة: { { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [البقرة: 216] لأن ذلك ٱسم وهذه كلها مصادر. وقرأ الكوفيون «كُرْهاً» بالضم. قيل: هما لغتان مثل الضُّعْف والضَّعْف والشُّهْد والشَّهْد؛ قاله الكسائي، وكذلك هو عند جميع البصريين. وقال الكسائيّ أيضاً والفرّاء في الفرق بينهما: إن الكره (بالضم) ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره؛ أي قهراً وغضباً؛ ولهذا قال بعض أهل العربية إن كرهاً (بفتح الكاف) لحن.

الرابعة ـ قوله تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهراً، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً. وروي أن عثمان قد أتِي بٱمرأة قد ولدت لستة أشهر؛ فأراد أن يقضي عليها بالحدّ؛ فقال له عليّ رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال الله تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } وقال تعالى: { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233] فالرضاع أربعة وعشرون شهراً والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها. وقد مضى في «البقرة». وقيل: لم يعدّ ثلاثة أشهر في ٱبتداء الحمل؛ لأن الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به، وهو معنى قوله تعالى: { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ } [الأعراف: 189]. والفِصال الفطام. وقد تقدّم في «لقمان» الكلام فيه. وقرأ الحسن ويعقوب وغيرهما «وفَصْله» بفتح الفاء وسكون الصاد. وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق، وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهراً، حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهراً. وفي الكلام إضمار؛ أي ومدّة حمله ومدّة فصاله ثلاثون شهراً؛ ولولا هذا الإضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغيّر المعنى.

الخامسة ـ قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } قال ٱبن عباس: ثماني عشرة سنة. وقال في رواية عطاء عنه: إن أبا بكر صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ٱبن ثماني عشرة سنة والنبيّ صلى الله عليه وسلم ٱبن عشرين سنة، وهم يريدون الشام للتجارة، فنزلوا منزلاً فيه سدرة، فقعد النبيّ صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك فسأله عن الدِّين. فقال الراهب: مَن الرجل الذي في ظل الشجرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. فقال: هذا والله نبيّ، وما ٱستظل أحد تحتها بعد عيسى. فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق؛ وكان لا يكاد يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضرِه. فلما نُبىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ٱبن أربعين سنة، صدّق أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ٱبن ثماني وثلاثين سنة. فلما بلغ أربعين سنة قال: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلَى وَالِدَيَّ» الآية. وقال الشعبيّ وابن زيد: الأشدّ الحلم. وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين. وعنه قيام الحجة عليه. وقد مضى في «الأنعام» الكلام في الآية. وقال السّدّي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص. وقد تقدّم. وقال الحسن: هي مرسلة نزلت على العموم. والله أعلم.

السادسة ـ قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ } أي ألهمني. { أَنْ أَشكُرَ } في موضع نصب على المصدر؛ أي شكر نعمتك { عَلَيَّ } أي ما أنعمت به عليّ من الهداية { وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } بالتحنن والشفقة حتى ربّياني صغيراً. وقيل: أنعمت عليّ بالصحة والعافية وعلى والديّ بالغنى والثروة. وقال عليّ رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه؛ أسلم أبواه جميعاً ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده. ووالده هو أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم. وأمّه أمّ الخير، واسمها سَلْمَى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد. وأم أبيه أبي قحافة «قَيْلة» بالياء المعجمة باثنتين من تحتها. وٱمرأة أبي بكر الصدّيق ٱسمها «قُتيلة» بالتاء المعجمة باثنتين من فوقها بنت عبد العزى. { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } قال ابن عباس: فأجابه الله فأعتق تسعة من المؤمنين يعذَّبون في الله منهن بلال وعامر بن فُهيرة؛ ولم يدَع شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر أنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ٱجتمعن في ٱمرىء إلا دخل الجنة" .

السابعة ـ قوله تعالى: { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ } أي ٱجعل ذرّيتي صالحين. قال ابن عباس: فلم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده. ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر. وقال سهل بن عبد الله: المعنى ٱجعلهم لي خَلَف صِدق، ولك عبيدَ حق. وقال أبو عثمان: ٱجعلهم أبراراً لي مطيعين لك. وقال ٱبن عطاء: وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم. وقال محمد بن علي: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلاً. وقال مالك بن مِقول: ٱشتكى أبو معشر ٱبنَه إلى طلحة بن مُصَرِّف؛ فقال: ٱستعن عليه بهذه الآية؛ وتلا: { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }. { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } قال ابن عباس: رجعت عن الأمر الذي كنت عليه. { وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أي المخلصين بالتوحيد.