خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً
١٨
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٩
-الفتح

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } هذه بيعة الرضوان، وكانت بالحديبِية، وهذا خبر الحديبية على ٱختصار: وذلك "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام مُنْصَرَفه من غَزْوة بني المُصْطَلِق في شوّال، وخرج في ذي القعدة مُعْتَمِراً، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن ٱتبعه من العرب، وجميعهم نحو ألف وأربعمائة. وقيل: ألف وخمسمائة. وقيل غير هذا، على ما يأتي. وساق معه الْهَدْيَ، فأحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم الناسُ أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه قريشاً خرج جمْعُهم صادّين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام ودخول مكة، وإنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك، وقدّموا خالد بن الوليد في خيل إلى كُرَاع الغَمِيم فورد الخبر بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعُسْفان وكان المخبر له بشر بن سفيان الكَعْبِي، فسلك طريقاً يخرج به في ظهورهم، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، وكان دليله فيهم رجل من أسلم، فلما بلغ ذلك خيلَ قريش التي مع خالد جرت إلى قريش تُعلمهم بذلك، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية بركت ناقته صلى الله عليه وسلم فقال الناس: خلأت! خلأت! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:ما خَلأَتْ وما هو لها بخُلُق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش اليوم إلى خُطّة يسألوني فيها صلة رَحِم إلا أعطيتهم إياها. ثم نزل صلى الله عليه وسلم هناك؛ فقيل: يا رسول الله، ليس بهذا الوادي ماء! فأخرج عليه الصلاة والسلام سهماً من كِنَانته فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل في قَلِيب من تلك القُلُب فغرزه في جوفه فجاش بالماء الرَّواء حتى كفى جميع الجيش. وقيل: إن الذي نزل بالسّهم في القليب ناجية بن جُنْدب بن عمير الأسلمي وهو سائق بُدْن النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ. وقيل: نزل بالسّهم في القَليب البَراء بن عازب، ثم جرت السُّفَراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاء سُهيل بن عمرو العامري، فقاضاه على أن ينصرف عليه الصلاة والسلام عامَه ذلك، فإذا كان من قابل أتى مُعْتَمِراً ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح، حاشا السيوف في قُرَبها فيقيم بها ثلاثاً ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضاً، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلماً من رجل أو امرأة رُدّ إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدًّا لم يردوه إلى المسلمين؛ فعظُم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما علّمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجاً، فقال لأصحابه:اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سبباً إلى ظهور دينه فأنِس الناس إلى قوله هذا بعد نفار منهم، وأَبَى سهيل بن عمرو أن يكتب في صدر صحيفة الصلح: من محمد رسول الله، وقالوا له: لو صدقناك بذلك ما دفعناك عما تريدٰ فلا بد أن تكتب: بٱسمك اللهم. فقال لعليّ وكان يكتب صحيفة الصلح: امح يا عليّ، واكتب بٱسمك اللهم فأبى عليّ أن يمحو بيده محمد رسول الله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ٱعرضه عليّ فأشار إليه فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأمره أن يكتب من محمد بن عبد الله" . وأتى أبو جَنْدل بن سهيل يومئذ بأثر كتاب الصلح وهو يَرْسُف في قيوده، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيه؛ فعظُم ذلك على المسلمين، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أبا جندل «أنّ الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً». وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الصلح قد بعث عثمان بن عفان إلى مكة رسولاً، فجاء خبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ إلى المبايعة له على الحرب والقتال لأهل مكة؛ فرُوِي أنه بايعهم على الموت. وروي أنه بايعهم على ألاَّ يَفِرّوا. وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة، التي أخبر الله تعالى أنه رضي عن المبايعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يدخلون النار. وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيمينه على شماله لعثمان؛ فهو كمن شهدها. وذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: أوّل من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أبو سفيان الأسدي. وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة؛ فبايعناه وعمر آخِذ بيده تحت الشجرة وهي سَمُرَة، وقال: بايعناه على ألاّ نفرّ ولم نبايعه على الموت وعنه أنه سمع جابراً يسأل: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة؛ فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سَمُرة؛ فبايعناه، غيرَ جدّ بن قيس الأنصاري ٱختبأ تحت بطن بعيره. وعن سالم بن أبي الجَعْد قال: سألت جابر بن عبد الله عن أصحاب الشجرة. فقال: لو كنا مائةَ ألفٍ لكفانا، كنا ألفاً وخمسمائة. وفي رواية: كنا خمس عشرة مائة. وعن عبد الله بن أبي أَوْفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفاً وثلثمائة، وكانت أسْلَم ثُمُن المهاجرين. وعن يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة: على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت. وعن البَرَاء بن عازب قال: كتب عليٌّ رضي الله عنه الصلح بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية؛ فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: لا تكتب رسول الله، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ: «ٱمْحُه». فقال: ما أنا بالذي أمحاه؛ فمحاه النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده. وكان فيما اشترطوا: أن يدخلوا مكة فيقيموا فيها ثلاثاً، ولا يدخلها بسلاح إلا جُلُبّان السلاح. قلت لأبي إسحاق: وما جُلُبّان السلاح؟ قال: القراب وما فيه. وعن أنس: "أن قريشاً صالحوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ: اكتب بسم الله الرحمٰن الرحيم فقال سهيل بن عمرو: أما باسم الله، فما ندري ما بسم الله الرحمٰن الرحيم! ولكن ٱكتب ما نعرف: باسمك اللّهُم. فقال: اكتب من محمد رسول الله قالوا: لو علمنا أنك رسوله لاْتبعناك! ولكن ٱكتب ٱسمك وٱسم أبيك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب من محمد بن عبد الله فاشترطوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم: أن من جاء منكم لم نردّه عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا. فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذاٰ قال: نعم إنه مَن ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً" . وعن أبي وائل قال: قام سهل بن حُنيف يوم صِفِّين فقال يأيها الناس، ٱتَّهموا أنفسَكم، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين. فجاء عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال «بلى» قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال «بلى» قال ففيم نعطي الدّنِيّة في ديننا ونرجعُ ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال "يا بن الخطاب إني رسول الله ولن يُضَيِّعَني الله أبداً" قال: فانطلق عمر، فلم يصبر مُتَغَيِّظاً فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال بلى؛ قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال بلى. قال: فعلام نعطي الدّنِيّة في ديننا ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا بن الخطاب، إنه رسول الله ولن يُضيعه الله أبداً. قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح؛ فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أوَفَتْحٌ هو؟ قال «نعم». فطابت نفسه ورجع.

قوله تعالى: { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من الصدق والوفاء؛ قاله الفراء. وقال ٱبن جريج وقتادة: من الرضا بأمر البيعة على ألا يفرّوا. وقال مقاتل: من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت { فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } حتى بايعوا. وقيل: «فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ» من الكآبة بصدّ المشركين إياهم وتخلف رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم عنهم؛ إذا رأى أنه يدخل الكعبة، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك رؤيا منام" . وقال الصدّيق: لم يكن فيها الدخول في هذا العام. والسكينة: الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد. وقيل الصبر. { وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } قال قتادة وٱبن أبي ليلى: فتح خيبر. وقيل فتح مكة. وقرىء «وَآتَاهُمْ» { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } يعني أموال خيبر؛ وكانت خيبر ذات عقار وأموال، وكانت بين الحديبية ومكة. فـ «ـمَغَانِمَ» على هذا بدل من «فَتْحاً قَرِيباً» والواو مقحمة. وقيل «وَمَغَانِمَ» فارس والروم.