خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ
٢
-الحجرات

الجامع لاحكام القرآن

فيه ست مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ } روى البخاريّ والترمذيّ عن ٱبن أبي مُليكة قال: حدثني عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدِم على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمله على قومه؛ فقال عمر: لا تستعمله يا رسول الله؛ فتكلما عند النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت أصواتهما؛ فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك؛ قال: فنزلت هذه الآية: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ } قال: فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يُستفهمه. قال: وما ذكر ابن الزبير جدّه يعني أبا بكر. قال: هذا حديث غريب حسن. وقد رواه بعضهم عن ٱبن أبي مليكة مرسلاً، لم يذكر فيه عن عبد الله بن الزبير.

قلت: هو البخاري، قال: عن ٱبن أبي مُليكة كاد الخيِّران أن يهلكا: أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدِم عليه ركب بني تميم؛ فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مُجاشِع، وأشار الآخر برجل آخر؛ فقال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلا خلافي. فقال: ما أردتُ خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك؛ فأنزل الله عز وجل: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ } الآية. فقال ٱبن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه؛ يعني أبا بكر الصديق. وذكر المهدويّ عن عليّ رضي الله عنه: نزل قوله: { لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ } فينا لما ٱرتفعت أصواتنا أنا وجعفر وزيد بن حارثة، نتنازع ٱبنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة؛ فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر؛ لأن خالتها عنده. وقد تقدم هذا الحديث في «آل عمران». وفي الصحيحين "عن أنس بن مالك: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلْمَهُ؛ فأتاه فوجده جالساً في بيته مُنَكِّساً رأسه؛ فقال له: ما شأنك؟ فقال: شَر! كان يرفع صوته فَوْقَ صوتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد حبِط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة؛ فقال: اذهب إليه فقل له إنك لستَ من أهل النار ولكنك من أهل الجنة" لفظ البخاري وثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يُكْنَى أبا محمد بٱبنه محمد. وقيل: أبا عبد الرحمٰن. قُتِل له يوم الحرّة ثلاثةٌ من الولد: محمد، ويحيى، وعبد الله. وكان خطيباً بليغاً معروفاً بذلك، كان يقال له خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما يقال لحسان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما قدِم وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فٱفتخر، ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جَزْلة فغلبهم، وقام شاعرهم وهو الأقرع بن حابس فأنشد:

أتيناك كَيْمَا يعرف الناس فضلناإذا خالفونا عند ذكر المكارِم
وإنا رؤوس الناس من كل مَعَشَرٍوأن ليس في أرض الحجاز كدارِم
وإنّ لنا المِرْباع في كل غارةتكون بنجد أو بأرض التهائم

فقام حسان فقال:

بَني دارمٍ لا تَفْخَرُوا إن فَخْرَكُمْيعود وَبَالاً عند ذكر المكارم
هَبِلتم علينا تفخرون وأنتُملنا خَوَلٌ مِن بين ظِئر وخادِم

في أبيات لهما.

فقالوا: خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا؛ فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى: { لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ }. "وقال عطاء الخراساني: حدّثتني ٱبنة ثابت بن قيس قالت: لما نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ } الآية، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه؛ فَفَقده النبيّ صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه يسأله ما خبره؛ فقال: أنا رجل شديد الصوت؛ أخاف أن يكون حبِط عملي. فقال عليه السلام: لستَ منهم بل تعيش بخير وتموت بخير. قال: ثم أنزل الله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }[لقمان:8 1] فأغلق بابه وطَفِق يبكي؛ ففقده النبيّ صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فأخبره؛ فقال: يا رسول الله، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي. فقال: لستَ منهم بل تعيش حَمِيداً وتُقتل شهيداً وتدخل الجنة" . قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مُسَيْلِمَة فلما التقَوْا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قُتلا؛ وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة؛ فمرّ به رجل من المسلمين فأخذها؛ فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حُلْم فتضيعه، إني لما قُتلت أمس مرَّ بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزلُه في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يَسْتَنُّ في طِوَله، وقد كفأ على الدّرع بُرْمَةً، وفوق البرمة رَحْل؛ فَأْتِ خالداً فمُرْه أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمتَ المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني أبا بكر ـ فقل له: إن عليّ من الدَّين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان؛ فأتى الرجل خالداً فأخبره؛ فبعث إلى الدرع فأتي بها وحدّث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته. قال: ولا نعلم أحداً أجيزت وصيّته بعد موته غير ثابت،رحمه الله ؛ ذكره أبو عمر في الاستيعاب.

الثانية ـ قوله تعالى: { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ } أي لا تخاطبوه: يا محمد، ويا أحمد. ولكن: يا نبيّ الله، ويا رسول الله؛ توقيراً له. وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليقتدي بهم ضَعَفة المسلمين فَنُهِي المسلمون عن ذلك. وقيل: «لاَ تَجْهَرُوا لَهُ» أي لا تجهروا عليه، كما يقال: سقط لِفِيه؛ أي على فيه. { كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } الكاف كاف التشبيه في محل النصب؛ أي لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا دليل (على) أنهم لم يُنهوا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة؛ وإنما نُهُوا عن جهر مخصوص مقيّد بصفة؛ أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبَّهة النبوّة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلّت عن رتبتها. { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أي من أجل أن تحبط، أي تبطل؛ هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: أي لئلا تحبط أعمالكم.

الثالثة ـ معنى الآية الأمرُ بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وخفضِ الصوت بحضرته وعند مخاطبته؛ أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ الذي يبلغه بصوته، وأن تغضُّوا منها بحيث يكون كلامه غالباً لكلامكم، وجهرُه باهراً لجهركم؛ حتى تكون مزيّته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وٱمتيازه عن جمهوركم كشِيَة الأبلق. لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتَبْهَرُوا منطقه بصخبكم. وفي قراءة ابن مسعود «لاَ تَرْفَعُوا بِأَصْوَاتِكُمْ». وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام. وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفاً لهم؛ إذ هم ورثة الأنبياء.

الرابعة ـ قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبيّ صلى الله عليه وسلم مَيّتاً كحرمته حيًّا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثالُ كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرىء كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يَعرض عنه؛ كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به. وقد نبّه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: { { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } [الأعراف: 204]. وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوَحْي، وله من الحكمة مثل ما للقرآن؛ إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه.

الخامسة ـ وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاْستخفاف والاْستهانة؛ لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون. وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جَرْسه غير مناسب لما يُهاب به العظماء ويوقّر الكبراء، فيتكلف الغض منه وردّه إلى حدٍّ يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ولم يتناول النهي أيضاً رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاندٍ أو إرهاب عدوّ أو ما أشبه ذلك؛ ففي الحديث أنه "قال عليه السلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حُنين: ٱصرخ بالناس" ، وكان العباس أجهر الناس صوتاً. يروى أن غارة أتتهم يوماً فصاح العباس: يا صباحاه! فأسقطت الحوامل لشدّة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعدة:

زَجْرُ أبي عُرْوة السباع إذاأشفق أن يختلطن بالغنم

زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه.

السادسة ـ قال الزجاج: { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } التقدير لأن تحبط؛ أي فتحبط أعمالكم، فاللام المقدرة لام الصيرورة وليس قوله: { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم؛ فكما لا يكون الكافر مؤمناً إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون المؤمن كافراً من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع. كذلك لا يكون الكافر كافراً من حيث لا يعلم.