خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ
٢٧
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

فيه مسألتان:

الأولى ـ قوله تعالى: { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ آدَمَ بِٱلْحَقِّ } الآية. وجه ٱتصال هذه الآية بما قبلها التنبيه من الله تعالى على أن ظلم اليهود، ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ٱبن آدم لأخيه. المعنى: إن هَمَّ هؤلاء اليهود بالفَتْك بك يا محمد فقد قتلوا قبلك الأنبياء، وقتل قابيل هابيل، والشَّر قديم. أي ذكّرهم هذه القصّة فهي قصة صِدق، لا كالأحاديث الموضوعة؛ وفي ذلك تَبْكِيتٌ لمن خالف الإسلام، وتسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم. وٱختلف في ٱبني آدم، فقال الحسن البصري: ليسا لصُلبه، كانا رجلين من بني إسرائيل ـ ضرب الله بهما المثل في إبانة حسد اليهود ـ وكان بينهما خصومة، فتقرّبا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل. قال ٱبن عطية: وهذا وَهْمٌ، وكيف يجهل صورة الدّفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب؟ والصحيح أنهما ابناهُ لصلبه؛ هذا قول الجمهور من المفسرين وقاله ٱبن عباس وٱبن عمر وغيرهما؛ وهما قابيل وهابيل، وكان قربان قابيل حُزمة من سُنْبل ـ لأنه كان صاحب زرع ـ وٱختارها من أرْدإ زرعه، ثم إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها. وكان قربان هابيل كبشاً ـ لأنه كان صاحب غنم ـ أخذه من أجود غنمهِ.{ فَتُقُبِّلَ } فَرُفِع إلى الجنّة، فلم يزل يرعى فيها إلى أن فُدِي به الذبيح عليه السلام؛ قاله سعيد بن جُبَير وغيره. فلما تُقبل قربان هابيل لأنه كان مؤمناً ـ قال له قابيل حسداً: ـ لأنه كان كافراً ـ أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل منيٰ؟ { لأَقْتُلَنَّكَ }. وقيل: سبب هذا القُرْبان أن حوّاء عليها السلام كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى ـ إلاّ شيثاً عليه السلام فإنها ولدته منفرداً عوضاً من هابيل على ما يأتي، وٱسمه هبة الله؛ لأن جبريل عليه السلام قال لحوّاء لما ولدته: هذا هبة الله لك بدل هابيل. وكان آدم يوم ولد شِيث ٱبن ثلاثين ومائة سنة ـ وكان يزوّج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر، ولا تحل له أخته تَوْءمته؛ فولدت مع قابيل أختاً جميلة وآسمها إقليمياء، ومع هابيل أختاً ليست كذلك وآسمها ليوذا؛ فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر، وزجره فلم ينزجر؛ فاتفقوا على التقريب؛ قاله جماعة من المفسرين منهم ٱبن مسعود. وروى أن آدم حَضَر ذلك. والله أعلم. وقد روي في هذا الباب عن جعفر الصادق: أن آدم لم يكن يزوّج ٱبنته من ٱبنه؛ ولو فعل ذلك آدم لما رغب عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان دين آدم إلا دين النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى لما أهبط آدم وحوّاء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حوّاء بنتاً فسماها عناقاً فبغت، وهي أوّ ل من بَغَى على وجه الأرض؛ فَسَلط الله عليها من قتلها، ثم ولدت لآدم قابيل، ثم ولدت له هابيل فلما أدرك قابيل أظهر الله له جنيَّة من ولد الجن، يُقال لها جمالة في صورة إنسيَّة، وأوحى الله لآدم أن زوجها من قابيل فزوجها منه؛ فلما أدرك هابيل أهبط الله إلى آدم حُورِية في صفة إنسية وخلق لها رحماً، وكان ٱسمها بزلة، فلما نظر إليها هابيل أحبها؛ فأوحى الله إلى آدم أن زوّج بزلة من هابيل ففعل. فقال قابيل: يا أبت ألستُ أكبر من أخي؟ قال: نعم. قال: فكنت أحق بما فعلت به منه ٰ فقال له آدم: يا بني إن الله قد أمرني بذلك، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء؛ فقال: لا والله ولكنك آثرته علي. فقال آدم: «فقرِّبا قرباناً فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بالفضل».

قلت: هذه القصة عن جعفر ما أظنها تصح، وأن القول ما ذكرناه من أنه كان يزوّج غلام هذا البطن لجارية تلك البطن. والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى: { { ياأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [النساء: 1] وهذا كالنص ثم نسخ ذلك، حسبما تقدّم بيانه في سورة «البقرة». وكان جميع ما ولدته حواء أربعين من ذكر وأنثى في عشرين بطناً؛ أولهم قابيل وتوءمته إقليمياء، وآخرهم عبد المغيث. ثم بارك الله في نسل آدم. قال ٱبن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً. وما روى عن جعفر ـ من قوله: فولدت بنتاً وأنها بغت ـ فيقال: مع من بغت؟ أمع جِني تسوّل لها! ومثل هذا يحتاج إلى نقل صحيح يقطع العذر، وذلك معدوم. والله أعلم.

الثانية ـ وفي قول هابيل: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } كلام قبله محذوف؛ لأنه لما قال له قابيل: { لأَقْتُلَنَّكَ } قال له: ولم تقتلني وأنا لم أجنِ شيئاً؟، ولا ذنب لي في قبول الله قرباني، أما إني ٱتقيته وكنتُ علي لاحِبِ الحق وإنما يتقبل الله من المتقين. قال ٱبن عطية: المراد بالتقوى هنا ٱتقاء الشرك بإجماع أهل السّنة؛ فمن ٱتقاه وهو موحِّد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة؛ وأما المتقي الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة؛ علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلاً. وقال عدِي بن ثابت وغيره: قربان متقي هذه الأمة الصلاة.

قلت: وهذا خاص في نوع من العبادات. وقد رَوى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي ولياً فقد اذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما ٱفترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينهُ ولئن ٱستعاذني لأعيذنّه وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مَسَاءته" .