خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
١٢١
-الأنعام

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } فيه خمس مسائل:

الأولى: روى أبو داود قال: جاءت اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله عز وجل { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } إلى آخر الآية. وروى النَّسائي عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } قال: خاصمهم المشركون فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه؛ فقال الله سبحانه لهم: لا تأكلوا؛ فإنكم لم تذكروا ٱسم الله عليها. وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي:

الثانية: وذلك أن اللفظ الوارد على سبب هل يُقصر عليه أم لا؛ فقال علماؤنا: لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما يذكره الشارع ابتداء من صِيَغ ألفاظ العموم. أما ما ذكره جواباً لسؤال ففيه تفصيل، على ما هو معروف في أصول الفقه؛ إلا أنه إن أتى بلفظ مستقل دون السؤال لَحِق بالأوّل في صحة القصد إلى التعميم. فقوله: «لا تأكلوا» ظاهر في تناول الميتة، ويدخل فيه ما ذُكر عليه غير ٱسم الله بعمومِ أنه لم يذكر عليه ٱسم الله، وبزيادة ذكر غير اسم الله سبحانه عليه الذي يقتضي تحريمه نصًّا بقوله: { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } [البقرة: 173]. وهل يدخل فيه ما ترك المسلم التسمية عمداً عليه من الذبح، وعند إرسال الصيد. اختلف العلماء في ذلك على أقوال خمسة، وهي المسألة: ـ

الثالثة: (القول) الأوّل: إن تركها سهواً أكِلا جميعاً؛ وهو قول إسحاق ورواية عن أحمد بن حنبل. فإن تركها عمداً لم يؤكلا؛ وقاله في الكتاب مالكٌ وابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابِه والثوريّ والحسن بن حيّ وعيسى وأَصْبَغَ، وقاله سعيد بن جُبير وعطاء، وٱختاره النحاس وقال: هذا أحسن؛ لأنه لا يُسَمَّى فاسقاً إذا كان ناسياً.

الثاني: إن تركها عامداً أو ناسياً يأكلهما. وهو قول الشافعي والحسن، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وسعيد بن المسيّب وجابر بن زيد وعِكرمة وأبي عِياض وأبي رافع وطاوس وإبراهيم النَّخَعِيّ وعبد الرحمن بن أبي لَيْلى وقتادة. وحكى الزَّهْرَاوِيّ عن مالك بن أنس أنه قال: تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمداً أو نسياناً. وروى عن ربيعة أيضاً. قال عبد الوهاب: التسمية سنة؛ فإذا تركها الذابح ناسياً أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه.

الثالث: إن تركها عامداً أو ساهياً حَرُم أكلها؛ قاله محمد بن سِيرين وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن عمر ونافع وعبد الله بن زيد الخَطْمِيّ والشعبيّ؛ وبه قال أبو ثور وداود بن عليّ وأحمد في رواية.

الرابع: إن تركها عامداً كُره أكلها؛ قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من علمائنا.

الخامس: قال أشهب: تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمداً إلا أن يكون مستخِفًّا، وقال نحوه الطبري. أدلة قال الله تعالى: { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } وقال: { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } فبيّن الحالين وأوضح الحكمين. فقوله: «لا تأكلوا» نهيٌ على التحريم لا يجوز حمله على الكراهة؛ لتناوله في بعض مقتضياته الحرام المحض، ولا يجوز أن يتبعّض، أي يراد به التحريم والكراهة معاً؛ وهذا من نفيس الأصول. وأما النَّاسي فلا خطاب توجّه إليه إذ يستحيل خطابه؛ فالشرط ليس بواجب عليه. وأما التارك للتسمية عمداً فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يتركها إذا أضجع الذبيحة ويقول: قلبي مملوء من أسماء الله تعالى وتوحيده فلا أفتقر إلى ذكرٍ بلساني؛ فذلك يجزئه لأنه ذكر الله جلّ جلاله وعظمه. أو يقول: إن هذا ليس بموضع تسْمية صريحة، إذ ليست بقربة؛ فهذا أيضاً يجزئه. أو يقول: لا أسمي، وأيّ قدر للتسمية؛ فهذا متهاون فاسق لا تؤكل ذبيحته. قال ابن العربيّ: وأعجب لرأس المحققين أمامِ الحرمين حيث قال: ذِكر الله تعالى إنما شُرع في القُرَب، والذّبح ليس بقُرْبة. وهذا يعارض القرآن والسنة؛ قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "ما أنهر الدّمَ وذُكر ٱسم الله عليه فَكُلْ" . فإن قيل: المراد بذكر ٱسم الله بالقلب؛ لأن الذكر يضادّ النسيان ومحل النسيان القلب فمحل الذكر القلب، وقد روى البَرَاء بن عازب: ٱسم الله على قلب كل مؤمن سَمَّى أو لم يسمّ. قلنا: الذكر باللسان وبالقلب، والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنُّصُب باللسان، فنسخ الله ذلك بذكره في الألسنة، وٱشتهر ذلك في الشريعة حتى قيل لمالك: هل يُسَمِّي الله تعالى إذا توضأ فقال: أيريد أن يذبح. وأما الحديث الذي تعلّقوا به من قوله: "ٱسم الله على قلب كل مؤمن" فحديث ضعيف. وقد استدلّ جماعة من أهل العلم على أن التسمية على الذبيحة ليست بواجبة؛ لـ "قوله عليه السلام لأناس سألوه، قالوا: يا رسول الله، إنّ قوماً يأتوننا باللّحم لا ندري أذكروا ٱسم الله عليه أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سَمّوا الله عليه وكلوا" . أخرجه الدّارقطنيّ عن عائشة ومالك مرسلاً عن هشام بن عروة عن أبيه، لم يُختلف عليه في إرساله، وتأوّله بأن قال في آخره: وذلك في أوّل الإسلام. يريد قبل أن ينزل عليه «وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ». قال أبو عمر: وهذا ضعيف، وفي الحديث نفسِه ما يردّه، وذلك أنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل؛ فدلّ على أن الآية قد كانت نزلت عليه. ومما يدلّ على صحة ما قلناه أن هذا الحديث كان بالمدينة، ولا يختلف العلماء أن قوله تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ }. نزل في سورة «الأنعام» بمكة. ومعنى { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } أي لمعصية؛ عن ابن عباس. والفِسْق: الخروج؛ وقد تقدّم.

الرابعة: قوله تعالى: { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ } أي يُوَسْوِسُون فيُلقون في قلوبهم الجدال بالباطل. روى أبو داود عن ابن عباس في قوله: «وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم» يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم فكُلُوه، فأنزل الله { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } قال عِكرمة: عنى بالشياطين في هذه الآية مَرَدة ٱلإنس من مَجُوس فارس. وقال ابن عباس وعبد الله بن كثير: بل الشياطين الجنُّ، وكفرة الجن أولياء قريش. ورُوي عن عبد الله بن الزبير أنه قيل له: إن المختار يقول: يُوحَى إليّ فقال: صدق، إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم. وقوله: «ليجادلوكم). يريد قولهم: ما قتل الله لم تأكلوه وما قتلتموه أكلتموه. والمجادلة: دفع القول على طريق الحجة بالقوّة؛ مأخوذ من الأجدل، طائر قوِيّ. وقيل: هو مأخوذ من الجَدالة، وهي الأرض؛ فكأنه يغلِبه بالحجة ويقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض. وقيل: هو مأخوذ من الجدْل، وهو شدّة الفَتْل؛ فكأن كلّ واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها، وتكون حقاً في نصرة الحق وباطلاً في نصرة الباطل.

الخامسة: قوله تعالى: { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } أي في تحليل الميتة { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }. فدلّت الآية على أن من ٱستحلّ شيئاً مما حرّم الله تعالى صار به مُشرِكاً. وقد حرَّم الله سبحانه الميتة نصًّا؛ فإذا قَبل تحليلها من غيره فقد أشرك. قال ابن العربيّ: إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركاً إذا أطاعه في الاعتقاد؛ فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاصٍ؛ فافهموه. وقد مضى في «المائدة».